بسم الله الرحمن الرحيم

سكوت الإمام أبي داود على الحديث


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
الأخت الفاضلة المنهاج حفظها الله
= أشكر لكم حسن الظن بي حيث طلبتم مني ذكر ما يتيسر من ملاحظات حول كتابكم "الأذكار".
= وإني أعلمكم أني أملُّ من الكتابة حيث لا أحسن الطباعة كثيراً ، ولذا فقد يكون هناك بسط لكن أحتفظ به وقت الحاجة له.
= وإني لا أبالغ إذا قلتُ إنكم لا تحتاجون – كثيراً – لملاحظات كثيرٍ مِن الناس ، حيث نشهد لكم بعلمٍ غزيرٍ ، واطلاعٍ واسعٍ على كتب أهل العلم ، أسأل الله لكم الإعانة على النية.
= لكن : قد يترك الإنسان مجالاً لأخيه ليشارك في الأجر ، وقد تغيب فائدةٌ ، أو يزل قلمٌ ، أو يصير ذهولٌ ، يحتاج صاحبه مَن يكمل له ما أراد.
= واليوم بدأتُ بقراءة كتابكم المرسل إليَّ ، وبدا لي أن أرسل بالملاحظات أولاً بأولٍ .

= وأولى هذه الملاحظات:
أ. اعتدادكم بسكوت الإمام أبي داود على الحديث في صحيحه، وأنه يكون بذلك صحيحاً أو حسناً !
وإليكم هذه النقول عن بعض الأئمة مما – لعله – لم تطلعوا عليه:
1. قال الإمام الذهبي – رحمه الله - :
قال ابن داسة سمعت أبا داود يقول ذكرت في السنن الصحيح وما يقاربه فان كان فيه وهن شديد بينته.
قلت: فقد وفىَّ رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده وبيَّن ما ضعفه شديدٌ ووهنه غير محتملٍ وكاسَر عن ما ضعفه خفيفٌ محتملٌ فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن الحديث أن يكون حسناً عنده ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولد الحادث الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسمٍ من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء ، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشِّيه مسلمٌ وبالعكس فهو داخل في أداني مراتب الصحة ، فإنَّه لو انحط عن ذلك لخرج عن الاحتجاج ولبقي متجاذباً بين الضعف والحسن.
فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك نحو من شطر الكتاب ، ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر ، ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيِّداً سالماً مِن علةٍ وشذوذٍ ، ثم يليه ما كان إسناده صالحاً وقبله العلماء لمجيئه مِن وجهين لينين فصاعداً يعضد كلُّ إسنادٍ منهما الآخر ، ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه ، فمثل هذا يمشِّيه أبو داود ويسكت عنه غالباً ، ثم يليه ما كان بيِّن الضعف من جهة راويه فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالبا وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته والله أعلم.
" سير أعلام النبلاء " (13 / 213-215).

2. قال الحافظ ابن حجر:
وفي قول أبي داود " وما كان فيه وهن شديد بيَّنتُه" ما يفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد أنه لا يبيِّنه .
ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي ، بل هو على أقسام :
1. منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة.
2. ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته.
3. ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد.
وهذان القسمان كثير في كتابه جدّاً .
4. ومنه ما هو ضعيفٌ ، لكنه من رواية مَن لم يُجمع على تركه غالباً.
وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها ، كما نقل ابن مندة عنه أنه يُخرِّج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره ، وأنه أقوى عنده مِن رأي الرجال.
وكذلك قال ابن عبد البر :
كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيحٌ عنده ، لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره.أ.هـ
ونحو هذا ما روِّيناه عن الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله ابن المنذر عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره.
وأصرح مِن هذا ما روِّيناه عنه فيما حكاه أبو العز بن كادش أنه قال لابنه : لو أردتُ أن أقتصر على ما صحَّ عندي لم أروِ مِن هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شيء يدفعه .أ.هـ …..

ومن هنا يظهر ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود فإنه يخرِّج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل: ابن لهيعة ، وصالح مولى التوأمة ، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وموسى بن وردان ، وسلمة بن الفضل ، ودلهم بن صالح ، وغيرهم.

فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم ، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه ، لا سيما إن كان مخالفا لرواية مَن هو أوثق منه ، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر .

وقد يخرِّج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن وجيه ، وصدقة الدقيقي ، وعثمان بن واقد العمري ، …..

وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة ، وأحاديث المدلسين بالعنعنة ، والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم . فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود ؛ لأن سكوته:
تارة يكون اكتفاءً بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه .
وتارة يكون لذهول منه .
وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته!! كأبي الحويرث ، ويحي بن العلاء .
وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر … - قال إحسان : وذكر الحافظ أمثلة على ذلك - …
فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ، ويقدمها على القياس ، إن ثبت ذلك عنه .
والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك فكيف يقلده فيه ؟! أ.هـ
"النكت على ابن الصلاح" (1/435-443).
= وأما ما نقلتم – حفظكم الله – عن النووي ، فله كلام آخر في الموضوع نفسه يوافق الصواب ، وقد نقله الحافظ عنه :
3. قال النووي :
والحق أن ما وجدناه في سننه ما لم يبينه ، ولم ينص على صحته أو حُسنه أحدٌ ممن يُعتمد : فهو حسن ، وإن نصَّ على ضعفه مَن يُعتمد أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ، ولا جابر له حُكم بضعفه ، ولم يُلتفت إلى سكوت أبي داود !!.أ.هـ

قال الحافظ ابن حجر : وهذا هو التحقيق ، لكنه خالف ذلك في مواضع مِن "شرح المهذب" وغيره!! مِن تصانيفه ، فاحتج بأحاديث كثيرة مِن أجل سكوت أبي داود عليها ، فلا يغتر بذلك . والله أعلم .أ.هـ
" النكت" (1/444-445) . وقد نقل السخاوي كلام النووي في "فتح المغيث" (1/92).
4. وهو الذي رجحه الصنعاني في "توضيح الأفكار" (1/196-199).
5. و شيخنا العلامة المحدث الألباني – سلمه الله – في "تمام المنة" (ص 27-28).
= هذا ، والله أعلم وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
 

كتبه
إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي
أبو طارق
19 / ربيع ثاني / 1420 هـ
1 / 8 / 1999 م