بسم الله الرحمن الرحيم

رد الإمام ابن حزم على الأشاعرة " الإيمان "


الرد على الأشاعرة في الإيمان
قال أبو محمد : أن الإيمان هو التصديق ، في اللغة فهذا حجة على الأشعرية والجهمية والكرَّامية مبطلة لأقوالهم إبطالا تامًّا كافياً لا يحتاج معه إلى غيره . وذلك قولهم أن الإيمان في اللغة التي بها نزل القرآن هو التصديق فليس كما قالوا على الإطلاق وما سمي قط التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيماناً في لغة العرب وما قال قط عربي أن من صدق شيئا بقلبه فأعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنه لا يسمى مصدقاً به أصلاً ولا مؤمناً به البتة .
وكذلك ما سمي قط التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلا على الإطلاق ، ولا يسمى تصديقاً في لغة العرب ولا إيماناً مطلقاً إلا مَن صدق بالشيء بقلبه ولسانه معاً فبطل تعلق الجهمية والأشعرية باللغة جملةً!!.

ثم نقول لمن ذهب مذهب أبي حنيفة في أن الإيمان إنما هو التصديق باللسان والقلب معا وتعلق في ذلك باللغة : إن تعلقكم باللغة لا حجة لكم فيه أصلاً لأنَّ اللغة يجب فيها ضرورةً أنَّ كلَّ مَن صدَّق بشيءٍ فإنَّه مؤمنٌ به وأنتم والأشعريَّة والجهميَّة والكراميَّة كلكم توقعون اسم الإيمان ولا تطلقونه على كل مَن صدق بشيءٍ ما ، ولا تطلقونه إلا على صفةٍ محدودةٍ دون سائر الصفات وهي مَن صدَّق بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبكلِّ ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة وغير ذلك مما قد أجمعت الأمة على أنَّه لا يكون مؤمناً مَن لم يصدق به وهذا خلاف اللغة مجرد.
فإن قالوا : إنَّ الشريعةَ أوجبتْ علينا هذا .
قلنا : صدقتم فلا تتعلقوا باللغة حيث جاءت الشريعة بنقل اسمٍ منها عن موضوعه في اللغة كما فعلتم آنفاً سواءً بسواءٍ ولا فرق!!!.
قال أبو محمد : ولو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يُطلق اسمُ الإيمان لكل مَن صدَّق بشيءٍ ما!! ولكان مَن صدَّق بإلهية الحلاج وبإلهية المسيح وبإلهية الأوثان مؤمنين!! لأنهم مصدقون بما صدقوا به!!. وهذا لا يقوله أحدٌ ممن ينتمي إلى الإسلام بل مَن قاله كافرٌ عند جميعهم ، ونصُّ القرآن يكفِّر مَن قال بهذا ، قال الله تعالى {ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا} فهذا الله عز وجل شهِد بأنَّ قوماً يؤمنون ببعض الرسل وبالله تعالى ويكفرون ببعضٍ فلم يجُز مع ذلك أنْ يطلق عليهم اسم الإيمان أصلاً بل أوجب لهم اسم الكفر بنص القرآن.
قال أبو محمد : وقول محمد بن زياد الحريري لازمٌ لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة وموجبها وهو قول لم يختلف مسلمان في أنَّه كفرٌ مجرد وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا.
قال أبو محمد : فبطل تعلق هذه الطوائف باللغة جملةً.

وأما قولهم : إنه لو كان العمل يسمَّى إيماناً لكان مَن ضيَّع منه شيئاً فقد أضاع الإيمان ووجب أنْ لا يكون مؤمناً!!
فإني قلتُ لبعضهم وقد ألزمني هذا الإلزام كلاماً تفسيره وبسطه أنَّنا لا نسمِّي في الشريعة اسماً إلا بأنْ يأمرنا الله تعالى أن نسمِّيَه أو يبيح لنا الله بالنصِّ أنْ نسمِّيَه لأننا لا ندري مَا أراد الله عز وجل منا إلا بوحيٍ واردٍ مِن عنده علينا . ومع هذا فإنَّ الله عز وجل يقول منكراً لمن سمى في الشريعة شيئاً بغير إذنه عز وجل {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى} وقال تعالى{وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}، فصحَّ أنَّه لا تسميةَ مباحةً لملِك ولا لأنسيٍّ دون الله تعالى ومَن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب وخالف القرآن . فنحن لا نسمي مؤمناً إلا مَن سماه الله عز وجل مؤمناً ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلا عمَّن أسقطه الله عز وجل عنه ووجدنا بعض الأعمال التي سماها الله عز وجل إيماناً لم يُسقط الله عز وجل اسمَ الإيمان عن تاركها فلم يجز لنا أن نسقطه عنه لذلك ، لكن نقول إنَّه ضيَّع بعض الإيمان ولم يضيع كله كما جاء النص على ما نبين إن شاء الله تعالى .
قال أبو محمد : فإذا سقطَ كلُّ ما موَّهت به هذه الطوائف كلُّها ولم يبق لهم حجةٌ أصلاً فلنقل بعون الله عز وجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة! وأهل السنَّة! وأصحاب الآثار! مِن أنَّ الإيمانَ عقدٌ وقولٌ وعملٌ وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد : أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معاً بأيِّ شيءٍ صدَّق المصدِّق لا شيءَ دون شيءٍ البتة إلا أنَّ الله عز وجل على لسان رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أوقعَ لفظةَ الإيمان على العَقد بالقلب لأشياءَ محدودةٍ مخصوصةٍ معروفةٍ على العقد لكلِّ شيءٍ ، وأوقعها أيضاً تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصةً لا بما سواها وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح لكلِّ ما هو طاعةٌ له تعالى فقط ، فلا يحل لأحدٍ خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به و هو تعالى خالقُ اللغةِ وأهلِها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء ولا عجبَ أعجبُ ممن أوجد لأمرىء القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة والطرماح أو لأعرابي أسدي بن سلمى أو تميمي أو من سائر أبناء العرب بوَّالٍ على عقبيه!! لفظاً في شعرٍ أو نثرٍ جملةً في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه. ثم إذا وجد لله تعالى خالقِ اللغاتِ وأهلِها كلاماً لم يلتفتْ إليه ولا جعله حجةً وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه!! وإذا وجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فَعلَ به مثل ذلك . وتالله لقد كان محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنُّبوة وأيام كونه فتىً بمكة بلا شك عند كل ذي مسكةٍ مِن عقلٍ أعلم بلغة قومه وأفصح فيها وأولى بأن يكون ما نطق به مِن ذلك حجةً من كل خندفي وقيسي وربيعي وأيادي وتميمي وقضاعي وحميري ، فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه وأجرى على لسانه كلامه وضمِن حفظه وحفظ ما يأتي به ؟؟!! … ..

قال أبو محمد : فمِن الآيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم}.
قال أبو محمد : والتصديق بالشيء أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادةٌ ولا نقصٌ وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادةٌ ولا نقصٌ لأنه لا يخلو كلُّ معتقدٍ بقلبه أو مقرٍّ بلسانه بأيِّ شيءٍ أقرَّ أو أي شيءٍ اعتقد مِن أحدِ ثلاثةِ أوجهٍ لا رابع لها :
إما أن يصدق بما اعتقد وأقر . وإما أن يكذب بما اعتقد . وأما منزلة بينهما وهي الشك!! فمن المحال أن يكون إنسان مكذباً بما يصدق به ومن المحال أن يشك أحدٌ فيما يصدق به فلم يبقَ إلا أنَّه مصدِّقٌ بما اعتقد بلا شك ، ولا يجوز أن يكون تصديقُ واحدٍ أكثر مِن تصديق آخر لأنَّ أحد التصديقين إذا دخلتْه داخلةٌ فبالضرورة يدري كلُّ ذي حسٍّ سليمٍ أنه قد خرج عن التصديق ولا بد وحصل في الشك لأن معنى التصديق إنما هو أن يقع ويوقن بصحة وجود ما صدَّق به ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه فليس مصدقاً به ، وإذا لم يكن مصدقاً به فليس مؤمناً به فصحَّ أن الزيادة التي ذكر الله عز وجل في الإيمان ليست في التصديق أصلاً ولا في الاعتقاد البتة فهي ضرورةٌ في غير التصديق وليس هاهنا إلا الأعمال فقط فصحَّ يقيناً أن أعمال البر إيمان بنص القرآن وكذلك قول الله عز وجل{فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً} ، وقوله تعالى {الذين قال لهم النَّاس إن النَّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا}. أ.هـ "الفصل" (3/106-108)

كتبه
إحسان بن محمد بن عايش العتيبـي
أبو طارق