صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







عِفَّةٌ تحتَ الأنقاضِ!

 

د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ
@aljebaan

 
بسم الله الرحمن الرحيم

اللَّهُمَّ اهدِني وسدِّدْني
عِفَّةٌ تحتَ الأنقاضِ!


لقد شاهَد العالمُ وسَمِع، وتَناقَلَتْ وسائلُ الإعلامِ ما يَحصُلُ لإخوانِنا وأخواتِنا في بلادِ الشَّامِ، وما لاقَوْه من الكافرينَ والمُشرِكينَ؛ ولن ينسى التَّاريخُ ما حصل في بلادِ الشَّامِ من بطولاتٍ وتضحياتٍ، وكذلك لن ينسى التَّآمُرَ العالميَّ على إخوانِنا وأخواتِنا، وخِذْلانَ القريبِ، وتفريطَ المُتعاطِفِ!

ومعَ هذا كُلِّه فما زالت بلادُ الشَّامِ تُسطِّرُ لنا كُلَّ يومٍ دروسًا في العِزَّةِ والكرامةِ، والشَّرفِ والإباءِ، والتَّضحيةِ والجهادِ، والبذلِ والعطاءِ، معَ ما هم فيه من البلاءِ، وما حَلَّ بهم من اللَّأواءِ.


مِن رَحِمِ المأساةِ تخرجُ بطولاتٌ وتضحياتٌ،
أبطالُها رجالٌ صدقوا ما عاهَدوا اللهَ عليه، وأطفالُها تَرَبَّوا على الإباءِ والصُّمودِ، ونساؤُها قدَّمنَ فِلْذاتِ أكبادِهنَّ، وضحَّينَ بأوليائِهنَّ، وشارَكْنَ بأبدانِهنَّ لنُصرةِ قضيَّتِهنَّ.

في مشهدٍ من مشاهدِ تلك البطولاتِ، وموقفٍ من مواقفِ العِزَّةِ والعفافِ، ومنظرٍ تعلوه الهيبةُ والوقارُ، يكونُ حديثُنا في هذه المقالةِ.

مُلخَّصُ المشهدِ يبرزُ في
تَعدِّي ظالمٍ جائرٍ، وخائنٍ كافرٍ، يحملُه جبروتُه وغرورُه، وتَسُوقُه غطرستُه وجنونُه، ويدفعُه شياطينُ الإنسِ من رافضةٍ مجوسيَّةٍ، وشيوعيِّينَ مُلحِدينَ، ووثنيِّينَ مُشرِكينَ، وصَمْتٍ مُطبِقٍ من خاذلٍ عاجزٍ، ومُتآمِرٍ فاجرٍ.

هذا الخائنُ معَ المُتآمِرِ يستهدفُ كُلَّ شيءٍ،
فلم يَسلَمْ منه لا بَشَرٌ ولا شَجَرٌ، ولا بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، ولا بهيمةٌ ولا حَجَرٌ.

يَصُبُّ جامَ غضبِه على كُلِّ شيءٍ،
ثُمَّ يَخُصُّ بمزيدٍ من الجورِ: الضُّعفاءَ المُستضعَفينَ، والعالةَ المساكينَ، والنِّساءَ والأطفالَ المكلومينَ، والعاجزينَ مِن الشُّيوخِ والمُعاقِينَ.

وما حمله على ذلك إلَّا لَمَّا عجز عن مُلاقاةِ الأبطالِ الميامينِ،
والمجاهدينَ الصَّابرينَ، وهذا طبعُ الخسيسِ الدَّنيءِ إذا عجز عن الأبطالِ عاد إلى الضُّعفاءِ المساكينِ بالبطشِ والجورِ!

يقومُ هذا الكافرُ ومُعاوِنُوه بغارةٍ جوِّيَّةٍ
تستهدفُ هدمَ المنازلِ على رؤوسِ أهلِها، وترويعَ الآمنينَ؛ يأتي إلى بيتٍ من بيوتاتِ المسلمين يَضُمُّ ضُعفاءَ ومساكينَ فيهدمُه عليهم، ويَدُكُّه فوقَهم، فيكونُ سببًا لقلبِ أمنِهم خوفًا، وغِناهم فقرًا، وصِحَّتِهم سَقَمًا.

في ليلةٍ من ليالي البطشِ على المدنيِّينَ،
تُغِيرُ الطَّائراتُ حاملةً بداخلِها أقوامًا يَحمِلون قلوبًا هي أقسى من الحجرِ، ونفوسًا هي أخبثُ من القذرِ، يحملون لهيبًا من نارٍ، ولظًى من سَعِيرٍ؛ لِيُرسِلُوها معَ حقدِهم على الضُّعفاءِ، في حربٍ غيرِ مُتكافِئةِ الأطرافِ، ولا مُتساوِيةِ العتادِ.

هنا تبدأُ غارةٌ من الغاراتِ الغاشمةِ بقصفِها الماكرِ، وحربِها المسعورةِ على المدنيِّين، وبعدَ هذه الغارةِ يتشفَّى المُجرِمون الحاقدون
بالأنينِ والصُّراخِ، والبكاءِ والعويلِ، في منظرٍ يُثبِتُ حقدَ تلك القلوبِ، وقذارةَ هاتيكَ النُّفوسِ.

انطلقت غارةٌ من غاراتِ المُجرِمينَ على حَيٍّ من أحياءِ المسلمين في سُورِيَّا، وتَكشَّفت هذه الغارةُ الحاقدةُ بعدَ قصفِها الغادر
ِ عن أجسادٍ مُمزَّقةٍ، ورؤوسٍ مُهشَّمةٍ، وأَعظُمٍ مُكسَّرةٍ، وجُثَثٍ هامدةٍ.

وهنا يتسارعُ أهلُ النَّخوةِ والنُّصرةِ بإغاثةِ الملهوفِ،
وإنقاذِ مَن يستطيعون إنقاذَه من المُبتَلَيْنَ.

وفي مشهدٍ
بعدَ غارةٍ من الغاراتِ يسمعُ النَّاسُ أنينًا وصُراخًا في كُلِّ مكانٍ ومِن تحتِ الأنقاضِ.

وفي ناحيةٍ من النَّواحي وتحتَ كَوْمةٍ مُكوَّمةٍ من الخرسانةِ والأسمنتِ يرتفعُ صوتُ أنينٍ،
واستغاثةُ ملهوفٍ مكروبٍ، وهنا يتفازعُ الشُّرفاءُ لإغاثتِه، ويتسارعُ النُّبلاءُ لنجدتِه، ويبدؤون في حملِ الأنقاضِ، ورفعِ التُّرابِ، حتَّى اقتَرَبوا من الأنينِ والاستغاثةِ فإذا هو أنينُ مكلومةٍ، وصُراخُ نبيلةٍ، وتألُّمُ صريعةٍ، إنَّه صوتُ امرأةٍ تَئِنُّ وتَتألَّمُ -يَا لَلَّهِ العَجَبُ، الشُّرفاءُ في الحربِ لا يَمُدُّون أيديَهم على المرأةِ والطِّفلِ، ولا ينالون منهم؛ لكنَّ الحقدَ النُّصَيريَّ، والخبثُ المجوسيَّ لا يعرفُ معنى الشَّرفِ- وفي تلك الأثناءِ ومعَ الكربِ والأنينِ، والألمِ والضِّيقِ، يخرجُ صوتُ العفيفةِ، ويظهرُ صوتُ النَّقِيَّةِ، وينطقُ العفافُ بمقولةٍ يقفُ السَّامعُ لها مدهوشًا؛ فيَتلعثَمُ اللِّسانُ، وتَشْخَصُ العينانِ، ويهتزُّ البدنُ وقبلَه الجَنانُ، ويقفُ الشَّعَرُ، وتَقشعِرُّ الأبدانُ.

هذا الأنينُ أصبح صوتًا يُسمَعُ،
ورسالةً تُدوِّي، ومبادئَ تُنشَرُ، أصبح قيمةً لا يُجِيدُ تقديمَها إلَّا الشُّرفاءُ، ولا يُحسِنُ نشرَها إلَّا الفضلاءُ، ولا يَتلذَّذُ بسماعِها إلَّا النُّبلاءُ.

هنا تنطقُ العفيفةُ، وتتكلَّمُ النَّبيلةُ،
وتَنبِسُ الطَّاهرةُ بمقولةٍ هي ورَبِّي درسٌ عمليٌّ للأُمَّةِ جمعاءَ.

هنا تنطقُ الطَّاهرةُ ببراءةِ النَّقاءِ،
وصدقِ الشَّرفِ، وجمالِ العِفَّةِ.

هنا ترفعُ كلمتَها لتُرسِلَها إلى النِّساءِ الشَّريفاتِ، وترفعَها إلى المُحافِظاتِ العفيفاتِ.


هذه الكلماتُ الَّتي أَطلَقَتْها هي:

-
دورةٌ تربويَّةٌ لِكُلِّ عفيفةٍ.
-
ومنهجُ حياةٍ لكُلِّ طاهرةٍ.
-
وجِلْسةُ نُصحٍ لكُلِّ غافلةٍ.

لقد أطلقتِ العفيفةُ كلماتٍ مُدَوِّيةً، فقالت بلسانِها الصَّادقِ، ولهجةِ أهلِ بلدِها الشُّرفاءِ:

(عَمُّو، لا تُصوِّرْني؛ مَانِي مُتحجِّبة)

يا اللهُ!! ما أصدقَ هذه الكلمةَ، وما أشرفَ هذه العبارةَ، وما أطهرَ هذه المرأةَ!

كلمةٌ طاهرةٌ من عفيفةٍ صادقةٍ في وقتِ كربٍ عصيبٍ، لكنَّها المبادئُ والقِيَمُ لا تَزِيدُها الأحداثُ إلَّا ثباتًا.


يخرجُ صوتُ العِفَّةِ مِن تحتِ الأنقاضِ؛
لِيُحييَ قلوبًا غافلةً، ونفوسًا مُعرِضةً.

إنَّ مثلَ هذه العفيفةِ هي الَّتي يُخطَبُ وُدُّها، ويتسابقُ الشُّرفاءُ لخدمتِها، ويسعى الجميعُ لإعانتِها على صيانةِ عفافِها.


مثلُ هذه العفيفةِ رمزٌ للعفافِ في زمنٍ أصبح العفافُ فيه عزيزًا، والشَّرفُ فيه عندَ كثيرٍ من نساءِ المسلمينَ نادرًا!!

(عَمُّو) تُنادِي والدُّموعُ غزيرةٌ ... وحجابُها تحتَ الرُّكامِ مُمزَّقُ
كُفُّوا عن التَّصويرِ إنِّي حُرَّةٌ ... بعفافِها وحجابِها تَتعلَّقُ
للهِ دَرُّكِ يا ابنةَ الشَّامِ الَّتي ... صارت مثالًا للتَّعفُّفِ يُطْلَقُ
(عَمُّو) وكم عمٍّ تَذلَّلَ لِلْعِدَا ... ساءَتْ مَقاصِدُهُ وساءَ المَنطِقُ
يا بِنتَ شامِ العِزِّ صَوتُكِ لوحةٌ ... قلمُ الهُدَى
في رسمِها يَتأنَّقُ

وبعدَ هذا المشهدِ التَّاريخيِّ، لنا أن نتساءلَ:
- أينَ النِّساءُ عن مِثلِ هذه المقولةِ؟
- أينَ هُنَّ عن هذه المبادئِ السَّاميةِ، والقِيَمِ الرَّفيعةِ؟
- أينَ هُنَّ عن معاني الشَّرفِ فيها، والطُّهرِ منها؟
- بل: أين أُولئكَ الَّذين يَسْعَوْنَ لفسادِ المرأةِ عن مِثلِ هذه الكلمةِ الشَّريفةِ؟!

* في ختامِ هذه المقالةِ:

أسألُ الَّذي بيدِه مقاديرُ الأمورِ،
وتصاريفُ الدُّهورِ، وأمرُ الدُّنيا والآخرةِ: أن يَزِيدَ هذه العفيفةَ شرفًا، وأن يحفظَها وجميعَ نسائِنا في كُلِّ مكانٍ، وأن ينتقمَ من الظَّالمينَ.
اللَّهُمَّ عليكَ بالظَّالمينَ المُعتَدِينَ
مِن النُّصَيريِّةِ ومَن آزَرَهُم.
اللَّهُمَّ خالِفْ بينَ رأيِهم وكلمتِهم،
اللَّهُمَّ شتِّتْ شملَهم، وفرِّقْ جمعَهم.
اللَّهُمَّ عليكَ بطاغيةِ الشَّامِ؛
اللَّهُمَّ شُلَّ أركانَه، وأَيبِسْ لسانَه، اللَّهُمَّ لا ترفعْ له رايةً، واجعَلْه لِمَن خَلْفَه عِبرةً وآيةً، اللَّهُمَّ اجعَلْ أمرَه في سَفالٍ، وسعيَه في وبالٍ، اللَّهُمَّ اشدُدْ وطأتَكَ عليه وعلى جُندِه، واجعَلْها عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسفَ.
اللَّهُمَّ انصُرِ المُستضعَفِينَ،
وفَرِّجْ هَمَّ المهمومينَ، وفُكَّ أسرَ المأسورينَ، واشفِ المرضى، وارحَمِ الموتى، ورُدَّ اللَّاجئينَ لبيوتِهم مُعزَّزينَ مُكرَّمينَ.
اللَّهُمَّ فرَجَكَ ونصرَكَ لأهلِ الشَّامِ؛
برحمتِكَ يا أرحمَ الرَّاحمينَ.
اللَّهُمَّ رُحماكَ رُحماكَ بالضُّعفاءِ واليتامى،
وبالصِّغارِ والنِّساءِ الثَّكالَى، وذي الشَّيبةِ الكبيرِ؛ يا حَيُّ يا قيُّومُ.


وكتبها
د. ظافرُ بنُ حسنٍ آلُ جَبْعانَ

www.aljebaan.com
الأربعاء 17/ 8/ 1434هـ


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
ظَافِرُ آل جَبْعَان
  • الفوائد القرآنية والتجويدية
  • الكتب والبحوث
  • المسائل العلمية
  • سلسلة التراجم والسير
  • سلسلة الفوائد الحديثية
  • المقالات
  • منبر الجمعة
  • الصفحة الرئيسية