صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







سَدُّ وادي تندحة، وتَأمُّلاتُ ناظرٍ

ظَافِرُ بْنُ حَسَنْ آل جَبْعَان

 
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أَمَرَنا بالتَّفكُّرِ في آياتِه، والتَّأمُّلِ في مخلوقاتِه وإبداعاتِه، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خيرِ المُتفكِّرِين وسيِّدِ المُتأمِّلِين، مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ الأمينِ، وعلى آلِه، وصحبِه أجمعينَ.

أمَّا بعدُ؛ ففي عصرِ يومِ الخميسِ السَّابعِ من شهرِ جُمادَى الأُولَى من عامِ ثمانيةٍ وعشرين وأربعِمِئةٍ وألفٍ لهجرةِ سيِّدِ ولدِ عدنانَ -عليه مِن ربِّه السَّلامُ-
خرجتُ معَ أهلي وأولادي إلى سَدِّ وادي تندحة، وعندَما مَرَرْنا بهذا السَّدِّ العملاقِ -لِمَن لم يَرَ غيرَه- الَّذي يَحتضِنُ كمِّيَّةً هائلةً من المياهِ.

وأنا أتأمَّلُ في هذه المياهِ الَّتي أَنعَم اللهُ بها علينا في هذه الأيَّامِ،
وبينَ هذا السَّدِّ الَّذي منع الماءَ من المرورِ، وبينَ النَّاسِ الَّذين يتوافدون للتَّمتُّعِ بهذا المنظرِ الرَّهيبِ، وتلك الأماكنِ الجميلةِ الَّتي يتحرَّرُ فيها الإنسانُ من الحياةِ المَدَنيَّةِ والتَّرفِ الزَّائفِ!

كنتُ أتأمَّلُ هذا السَّدَّ، وأتأمَّلُ النَّاسَ الَّذين حولَه، وتلك المياهَ الهادرةَ، فتَوصَّلتُ إلى تأمُّلاتٍ، منها:
1-
أنَّنا خُلِقْنا من طينٍ، ونُحِبُّ الطِّينَ.
2-
أنَّنا لا نستغني عن الماءِ؛ لأنَّنا خُلِقنا من ماءٍ مَهِينٍ، وهو أيضًا سببُ بقائِنا في هذا الكونِ، وصدق اللهُ إذ يقولُ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
3-
أنَّ النَّفْسَ تَمَلُّ، ولا بُدَّ من إجمامِها بالمباحِ، وفي ذلك مواقفُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
4-
بعدَ التَّأمُّلِ في هذا السَّدِّ، وفي النَّاسِ مِن حولِه، تَوصَّلتُ إلى أنَّ السُّدودَ نوعانِ، وأنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِلسَّدَّينِ صِنفانِ:

فأمَّا السَّدَّانِ:

أ- فسَدٌّ يَحبِسُ الماءَ للشَّمسِ والهواءِ،
فلا يستفيدُ منه أحدٌ من النَّاسِ، وكأنَّ حالَه أنَّه يتفاخرُ بما حواه من ماءٍ، وهو لا يُبالِي بما وراءَه من الحياةِ، وكأنَّه لا يعلمُ أنَّ مِن خلقِ اللهِ مِن بني الإنسانِ مَن ينتظرُ بفارغِ الصَّبرِ تلك المياهَ الَّتي بها عيشُه، وبها لَذَّتُه وأُنسُه، ولسانُ حالِ مَن وراءَه: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدُّخان: 12].

ب- وسَدٌّ جَمَعَ الماءَ لِبَني الإنسانِ،
فلم يكنْ له حابسًا، ولا به ضَنِينًا، بل يحفظُه للنَّاسِ ليستفيدوا منه، وترتويَ آبارُهم، وإذا أَجدَبوا أَخرَجه لهم وهم له من الطَّالِبين، ولِلُقْياه مُشتاقون، ولِرَبِّهم بعدَه شاكِرون.
- وأمَّا الصِّنفانِ من النَّاسِ، التَّابعانِ لِلسَّدَّينِ، فهُما:

أ- صِنفٌ آتاه اللهُ من النِّعَمِ ما لا يُحصَى،
ومِن النَّعيمِ ما لا يُعَدُّ، آتاه عِلمًا، أو مالًا، أو جاهًا، أو منصبًا، أو مجدًا، أو جَمَع اللهُ له من النِّعَمِ ما لم يجمعْه لغيرِه، ومعَ ذلك فهو لهذه النِّعَمِ مُحتكِرٌ ظالمٌ، فلا نفسَه نَفَع، ولا لغيرِه أَعطَى ودَفَع، فيُبقِي نِعَمَه للفَناءِ، وعطاءَ اللهِ له للزَّوالِ، فلا قريبَ نال مِن نفعِه، ولا صديقَ حاز من فخرِه، ولا مُسلِمَ وَجَد مِن غُنمِه؛ فبئس حاملُ النِّعَمِ هذا.

قال اللهُ تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [اللَّيل: 8-11].

وهذا الصِّنفُ يعيشُ لنفسِه،
فيعيشُ كئيبًا حزينًا، لا يأنسُ بمالٍ، ولا يَتلذَّذُ بمنصبٍ وجاهٍ، فلا يَوَدُّه النَّاسُ إلَّا مُجامَلةً، ولا يُحِبُّه النَّاسُ إلَّا مُدارةً لشَرِّه، فالقلوبُ تُبغِضُه، والأَلسُنُ تَسُبُّه، والأعينُ تنظرُ إليه بدُونِيَّةٍ واحتقارٍ!

فإذا مات؛ كان موتُه فتحًا وراحةً وأُنسًا، والنَّاسُ شُهَداءُ اللهِ في أرضِه.


ب- وصِنفٌ آخَرُ آتاه اللهُ من النِّعَمِ والنَّعيمِ،
فكان لها باذلًا، ومنها مُنفِقًا، بَذَل مالَه، وأَنفَق عِلمَه، وجاد بجاهِه ومنصبِه، وكأنَّ شِعارَه: (أَنفِقْ ما في الجيبِ يأتي ما في الغيبِ، وابذُلْ تحصلْ)، ولكنَّه معَ هذا البذلِ وذاك العطاءِ يتمثَّلُ قولَ اللهِ -تبارَك وتعالَى- في صفاتِ عبادِ الرَّحمنِ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفُرْقان: 67]، وقولَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لبلالِ بنِ رباحٍ -رضي اللهُ عنه-: (أَنفِقْ يا بلالُ، ولا تَخْشَ مِن ذِي العَرْشِ إِقْلالًا).

فهذا القِسمُ يعيشُ حَمِيدًا ويموتُ سعيدًا،
وإذا مات انهالتِ الدَّعواتُ على جُثمانِه وضريحِه كوابلٍ مِن مُزْنٍ رحماتٍ ودعواتٍ، وكانتِ الحسرةُ عليه ألمًا، وفِراقُه رَزِيَّةً ومأتمًا؛ فرحمةُ اللهِ على تلك العظامِ الباذلةِ، وعلى تلك النُّفوسِ العاليةِ.

وأختمُ بكلمةٍ، وسؤالٍ:
أمَّا الكلمةُ:
فهي لطبيبِ القلوبِ، العالمِ الرَّبَّانيِّ، أبي عبدِ اللهِ مُحمَّدِ بنِ أبي بكرٍ الدِّمشقيِّ، المعروفِ بابنِ قيِّمِ الجَوْزيَّةِ، حيثُ قال -رحمه اللهُ-: (فأين مَن هو نائمٌ وأَعْيُنُ العِبَادِ ساهرةٌ تدعو اللهَ له، وآخَرُ أَعيُنُهم ساهرةٌ تدعو عليه؟!!) [«طريق الهِجْرتَين» (ص525)].

وأمَّا السُّؤالُ:
فمِن أيِّ الأصنافِ أنتَ؟

سُوِّدت هذه الكلماتُ في مُنتزَهِ التّنور

بينَ الماءِ والشَّجرِ، وعلى البطحاءِ بجوارِ الحجر

في يومِ الخميسِ 7/5/1428هـ


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
ظَافِرُ آل جَبْعَان
  • الفوائد القرآنية والتجويدية
  • الكتب والبحوث
  • المسائل العلمية
  • سلسلة التراجم والسير
  • سلسلة الفوائد الحديثية
  • المقالات
  • منبر الجمعة
  • الصفحة الرئيسية