صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







مسائل حول الشريعة والقانون

سلطان بن عثمان البصيري


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد : فقد يسّر الله الحديث في حلقة برنامج ساعة حوار بقناة المجد العامة التي كانت بتاريخ 8/6/1433هـ ، وكانت الحلقة بعنوان : ( الشريعة والقانون .. وئام أم فصام ) ، ولأن وقت الحلقة ضاق عن طرح جميع المحاور والمسائل المتعلّقة بالموضوع فقد سطّرت ما أردت الحديث عنه من المحاور في المسائل التالية :

المسألة الأولى : معنى الشريعة ، ومعنى القانون.
المسألة الثانية : التفريق بين القانون كمعنى والقانون كمبنى.
المسألة الثالثة : علاقة الوطن بقانونه. المسألة الرابعة : الاستدلال في الشريعة والقانون.
مسألة متفرّعة عن المسألة السابقة: تطبيقات تُظهر أثر اختلاف الاستدلال بين الشريعة والقانون.
المسألة الخامسة : توجيه التشابه بين الشريعة والقانون.
المسألة السادسة : صياغة الأحكام والقواعد في الشريعة والقانون.
المسألة السابعة : جعل الشريعة أصلاً في أسلمة القوانين والبحوث في ذلك.
المسألة الثامنة : اختلاف المقصد الشرعي عن المقصد القانوني ، وأثر ذلك في القضاء.
المسألة التاسعة : موقف الشريعة والقانون من الضمير.
المسألة العاشرة : موقف الشريعة والقانون من ثبات الأحكام.
المسألة الحادية عشرة : موقف الشريعة والقانون من التنظيم والتوجيه.
المسألة الثانية عشرة : موقف الشريعة والقانون من القواعد الكلية.
المسألة الثالثة عشرة : موقف الشريعة والقانون من اعتبار ظروف الناس عند معاقبتهم.
المسألة الرابعة عشرة : موقف الشريعة والقانون من الدعوى العامة.
المسألة الخامسة عشرة : مواضيع درسها الفقه الإسلامي ولم يدرسها القانون.
المسألة السادسة عشرة : مواضيع عالجها الفقه الإسلامي قبل القانون.
المسألة السابعة عشرة : دور الجهات الأكاديمية والمراكز البحثية في التأصيل الشرعي والقانوني.
المسألة الثامنة عشرة : التفريق بين التقنين والتدوين ، وأثر كل واحد منهما في الفقه الشرعي.


فإلى بيان المسائل بعون الله :


المسألة الأولى :
معنى الشريعة ، ومعنى القانون.

الشريعة تُطلق في اللغة على مورد الإبل ، وهو المكان الذي سُنّ لها لتَرِدَ إليه وتنهلَ منه ، واُخِذ هذا المعنى اللغوي ليُطْلق بإزائه لغةً وشرعاً على ما سنّه الله لعباده من أحكام تنظّمُ حياتهم وتهذّبُها ، وتعود عليهم بما ينفعهم في المعاش والمعاد ، ومما يشهد لهذا قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الأنعام 162، فلم تترك الشريعة الإسلامية شيئاً إلا شملته بحكم وأدب ، ولذا قال أحد اليهود لأحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئاً كما في الصحيح : لقد علّمكم نبيّكم كلّ شيء حتى الخرأَة .. الخ ، – يقصد آداب قضاء لحاجة –.

ومن مجالات الحياة التي راعتها الشريعة الإسلاميّة بأحكامها وآدابها الحكم والإدارة وسياسة النّاس ، وقد اشتمل كتاب الله تعالى على ما يؤكّد أن يكون الحكم بالأحكام الشرعيّة ، كقوله تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) المائدة 44 وأما القانون فأصله كلمة ليست عربية الأصل ، كما تذكر المعاجم العربية ، ووقع خلاف من أين استمدت فقيل يونانية ، وكان اليونانيون يطلقونها على المسطرة والعصا المستقيمة ، ثم أطلقوا الاسم نفسه على القاعدة والقضيّة الكليّة ، وقيل فرنسية ، وكان الفرنسيون يطلقونها على قرارات الكنيسة باعتبار أن قرارات الإمبراطور تصدر منها قبل أن يثور النّاس على الاستبداد الكنسي عام 1798م ، وعلى كلٍّ فعلماء اللغة العربية يُطلقون كلمة القانون على الأصْل والمقياس لكل شيء كمعنى عام للقانون ، إلا أنه قد يُورد لفظُ القانون في سياق يُعطيه معنىً غير المعنى العام ، مثل المعاني التالية :
1 - الطريقة والمنهج : فيقال مثلاً : قانون التجار وقانون الفلكيين ، أي طريقتهم ومنهجهم.
2 - القاعدة والقضية الكليّة : ولذا عرّف الجرجاني في كتابه التعريفات القانون بتعريف القاعدة فقال : القانون أمر كلي منطبق على جميع جزئياته التي يعرف أحكامه منها.
3 - السنة الكونيّة والظاهرة الطبيعية : فيقال مثلاً : قانون الجاذبيّة وقانون تمدد الأجسام.
4 – مبادئ التفكير : فيقال مثلاً كما في كلام أرسطو قانون الذاتية وقانون عدم التناقض.
5 – الواقع الذي يتحقق بتحقق سببه : فيقال مثلاً في علم الاقتصاد قانون العرض والطلب.
6 - النظام : وهو ما يُحمل الناس على الفعل بموجبه من قبل السلطة من خلال قواعد عامّة ومجرّدة يكون جزاء على مخالفتها.
وكلُّ ما تقدم من معانٍ للقانون فهي معان ليست مرادة عند القانونيين ، إذ إنهم يُعرّفون القانون بأنه : ( مجموعة القواعد التي تنظّم سلوك الأفراد والجماعة ، والمقترنة بجزاء توقعه السلطة العامة على من يخالفها ) وهو قريب من المعنى السادس الذي هو النظام.

المسألة الثانية :
التفريق بين القانون كمعنى والقانون كمبنى.

تبيّن فيما سبق أن من معاني القانون النظام وهو ما يريده القانونيون ، وعندما نتأمل مقاصد الشريعة الإسلاميّة نجد أن من مقاصدها أن يسير الناس وتكون سياستهم وفق نظام ، إذاً فالنظام معتبر شرعاً ، وبناءً عليه فالقانون إذا كان معناه النظام فلا مانع من إطلاقه شرعاً ، لأن الأحكام الشرعيّة تتعلّق بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني ، وقد جرت عادة فقهاء الإسلام على استخدام كلمة القانون بمعنى النظام ، ومن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( من خرج عن القانون النبوي الشرعي المحمدي ، احتاج أن يضع قانوناً متناقضاً يردّه العقل والدين ) انتهى من الفتاوى 329/29
وأما إذا كان مبنى القانون أي موضوعه ومحتواه مخالفاً للشريعة الإسلاميّة ، سواء كان من النظريّات التي تتفق عليها البلدان والأوطان في تقنيناتها ، أو المسائل التي يختصّ بها كل بلد ، فهذا المبنى غير معتبر ، وهو الذي يردّه فقهاء الإسلام ولا يرتضونه ، وإليه تتّجه تصانيفهم الذي صنّفوها في ردّ القانون ، مثل رسالة ( تحكيم القوانين ) للشيخ محمد بن ابراهيم رحمه الله.

المسألة الثالثة :
علاقة الوطن بقانونه.


للقانون نظريّات تتفق عليها البلدان والأوطان ، كما إن له مسائل يُراعى فيها ظروف البلد الذي ينشأ فيه من حيث ثقافته وما يتعلّق بها من دين وعادات وتقاليد ، ولذا تُنسب القوانين لبلدانها ، فيُقال القانون الهندي مثلاً ، أو الياباني أو غيره ، ولا يُمكن أن يُستورد قانون بلد ليُطبّق في بلد آخر دون تغيير فــــيه ليُراعي ظروف البلد المستورِد ، فلا يُمكن أن يُطبّق القانون الهندي كما هو في فرنسا مـثلاً ، وهذا أصل من أصول القانون يقرّره القانونيون ، وهو أن القانون له وطن ، وبالمناسبة فإن تأثير الثقافة الإسلامية على قانون البلد الإسلامي أمرٌ لابد منه ، لا كما يقول بعض المتأثّرين بالحياة الغربيّة من أن قوانين الغرب أصْلح لبلاد المسلمين ، أو كما يقول بعضهم في سياق انتقاده لقوانين المسلمين التي تُراعي دينهم وعاداتهم وتقاليدهم من أن بلاد المسلمين لا خصوصية لها عن غيرهم.
والشيء بالشيء يُذكر فإن من أعظم ما ضرّ بلاد المسلمين في قوانينها استيراد القانون الفرنسي كما هو دون تغيير فيه ليُراعي ثقافة المسلمين ، فمثلاً صدرت في عهد الخلافة العثمانية قوانين منقولة أو مستقاة من القوانين الأوربية ، والانجليزية منها خصوصاً ، مثل :
1 – قانون التجارة الصادر عام 1850م والمعدّل لعدم مواءمته للبلاد عام 1860م.
2 – القانون الجنائي الصادر عام 1884م.
3 – قانون التجارة البحرية عام 1863 منقولاً عن الفرنسي. وبعد ارتحال الاستعمار العسكري عن بعض البلاد العربية استورد القانون الفرنسي وطُبّق كما هو ، كما أشار إلى ذلك قاضي محكمة الاستئناف بمصر الشيخ محمود غراب في كتابه ( أحكام إسلامية ) ، والشيخ عبد القادر عودة في كتابه ( الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ) وكتابه ( الإسلام وأوضاعنا القانونية ) ، وأستاذ الشريعة والقانون الدكتور عبد الرزاق السنهوري في عامّة كتبه ومشاركاته البحثيّة ، وغيرهم من رجال القضاء.

المسألة الرابعة :
الاستدلال في الشريعة والقانون.


الاستدلال في الشريعة يكون من الأدلة الإجمالية ، وهي باتفاق علماء الشريعة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، واختلف علماء الشريعة في الاستدلال بأدلة أخرى مثل : شرع من قبلنا وقول الصحابي والاستصحاب والاستصلاح والاستحسان ، واختلافهم يعود إما لعدم الاستدلال ببعضها أو الاختلاف في طريقة الاستدلال بها حسب مدارسهم ومذاهبهم ، لكن كلّ من يستدل بها يشترط أن تعود بالاستناد للكتاب والسنة ، أي لا تخالفهما ، وكتبُ أصول الفقه في الشريعة طافحة بالتطبيقات والتخريجات التي تستند إلى هذه الأدلّة. وهذا الاستدلال المنضبط أضفى بظلاله على علم وثقافة علماء الشريعة حتى تكاد أن تعرف رأي العالم الشرعي في مسألة ما إذا كنت تعرف طريقته في الاستدلال من الأدلة الإجماليّة. فمثلاً إذا عرفت طريقة الإمام أبي حنيفة في الاستدلال - وإليه يُنسب المذهب الحنفي – تمكّنت من معرفة رأيه في مسألة ما ، ومثل ذلك مع طريقة الأئمة مالك والشافعي وأحمد.

أما الاستدلال في القانون فغير منضبط ؛ فعندما تفتّش كتاباً لرمز من رموز القانون وتقرؤه قراءة نقديّة ، تجد الاستدلال بما لا يُستدلّ به ، فمثلاً تجد الاستدلال بالقانون نفسه دون بيان مستند القانون في ذلك ، كالذي يفسّر الماء بالماء ، كالاستدلال للمادة القانونيّة بكوْنها صدرت من السلطة المخوّلة بذلك ، وكان المطلوب بيان الدليل الذي استندت إليه السلطة ، وتارة تجد الاستدلال بأقوال الرموز أيّاً كانت هذه الرموز التي من المنهجيّة في البحث طلب الدليل لها لا الاستدلال بها ، وتارة تجد الاستدلال بالعقل بالنظر لمصلحة الأقوى دون النظر لمصلحة غيره ، كتبرير قبول القانون للفائدة من القرض أن الفائدة أمرٌ تقرّره مصلحة المقرض.

مسألة متفرعة عن المسألة الرابعة :
تطبيقات تُظهر أثر اختلاف الاستدلال بين الشريعة والقانون.

1 – إسقاط الحق بمرور مدة يعيّنها النّظام للمطالبة به ، ويسمّى التقادم ، وهذا الإسقاط يقبل به القانون مطلقاً ، أما الشريعة فلا تقبل به على إطلاقه ، فالأصل أن حقوق النّاس تبقى لهم مهما طال الزمن وهي بيد غيرهم ، ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديَه ) أي أن على من أخذ شيئاً من حقّ غيره فليتحمّل ما ترتّب عليه بعد أخذه حتى يُعيْده لأصحابه ، فدلالة النصّ هنا على أنّه لا يُكسَب الحقّ بوضْع اليد ، إلا أن الشريعة قد تخرج عن هذا الأصل متى ما استبان للقاضي أن المدّعي بالحق إنّما سكَت عن المطالبة بما يدّعيْه لسبب يُثبت كذب دعواه كان يرجو زواله ، وحينئذٍ يُعامل بنقيض قصْده.

2 - الدين الممتاز ، ويُقصد بوصف الدين بالامتياز أن صاحبه يضمنه كاملاً من تركة المدين إذا توفي أو بيعت أملاكه ، فيأخذ حقّه قبل سائر الدائنين أصحاب الديون غير الممتازة ، وتسمى الديون العادية ، وهذا أمر يقبل به القانون ، أما الشريعة فلا تقبل به ، فالدائنون كلهم سواسية يأخذون حقوقهم بحسب نسبهم.

3 - السهم الممتاز ، ويُقصد بالسهم الحصّة في الشركة ، ويُقصد بوصف الامتياز عدة صور كلّها يقبلها القانون ، منها أنّ صاحب السهم الممتاز يضمن الربح ولو خسرت الشركة ، ومنها ضمان صاحب السهم لسهمه حال تصفية الشركة ، ومنها أن صوت صاحب السهم بالنسبة لبقيّة الشركاء أكثر من صوت ، ومنها أن لصاحب السهم الحق في المساهمة في الشركة حال توسيعها قبل غيره ، وأما الشريعة فلا يجوز في أحكامها إلا الصورة الأخيرة.

4 – عدم الاعتذار بالجهل بالقانون في القضاء مطلقاً ، ففي القانون متى ما تمّ نشر القانون في الجريدة الرسميّة لا يُعذر أحدٌ بالجهل به ولو كان مُحِقّاً ، أما الشريعة فقد جعلت الجهل بأحكامها من عوارض الأهليّة ، فمتى ما ثبت الجهل قضاءً لا يؤاخذ به ، تخريجاً على قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء 15، ولكن يُلحظ في الشريعة أنها وإن عذرت الجاهل في أحكامها ، لكن تُلزمه بضمان حقوق الغيْر ، فمخالفة الحكم شيء ، والإتلاف شيء آخر.

5 – القرض ، فهو يقوم على التبرع في الشريعة بخلاف ما يقوم عليه في القانون إذ يقوم فيه على الربحيّة.

المسألة الخامسة :
توجيه التشابه بين الشريعة والقانون.


إن من يتأمل الأحكام الشرعيّة والأحكام القانونية يجد تشابهاً في ظاهر بعضها ، إلا أن هذا التشابه الظاهري لا يعني التوافق من كلّ وجه ، فمصادر التشريع في كل منهما مختلفة ، إذ هي في الشريعة أدلة الشرع المستندة للكتاب والسنة كما تقدم في مسألة الاستدلال ، أما القانون فمصدره وضع البشر ونظريّاتهم ، لكن هذا التشابه حدا ببعض المستشرقين لمّا رأوه بين الأحكام الشرعيّة والقانون الروماني إلى القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذ من القانون الروماني في زيارتيه للشام قبل النبوة ، وهذا أمر مردود من عدّة أوجه ؛ الأول : أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب ، كما إنه كان صغيراً في زيارته الأولى فكيف تعلّم القانون الروماني ، الثاني : أنّ التشابه الظاهري لا يعني التشابه من كلّ وجه ، ومما يشهد لهذا أن التوراة الكتاب المنزّل على موسى عليه السلام كان فيها تشابه مع شريعة الملك حمورابي ، فزعم بعض المؤرخين أن التوراة مأخوذة من شريعة حمورابي ، لكن ثبت عدم صدق هذا الزعم تاريخياً بثبوت عدم الاتصال بين البابليين الذين يعتبر حمورابي أحد ملوكهم ، والعبرانيين الذين بُعِثَ فيهم موسى عليه السلام. ومن نماذج التشابه بين الشريعة والقانون ما يلي :

1 - الرجوع للعرف عند النص عليه في مصدر الالتزام ، سواء الكتاب والسنة وما يستند إليهما في الشريعة ، أو النظام الصادر عن السلطة ، وكذلك العقد في القانون ، أو عدم وجود النص على غيره في الجميع.

2 – أن العقد مصدر للالتزام بما فيه بشرط عدم مخالفته للنصّ ، سواء الكتاب والسنة وما يستند إليهما في الشريعة ، أو النظام الصادر عن السلطة في القانون ، ولذا كانت من القواعد الفقهيّة والتي دوّنتْها بعض القوانين أنّ ما يثبت بالنص يُقدّم على ما يجب بالشرط ، كما إن من أصول القانون أن العقد شريعة المتعاقدين بشرط عدم مخالفة النظام.

3 - عدم تطبيق النظام بأثر رجعي ، فلا يُطبّق على الحالات التي وقعت سابقة عليه في القانون ، وكذا في الشريعة إذ يقول تعالى عن تحريم الربا والزواج بزوجات الآباء : (فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة 275، (عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) المائدة 95

4 - اعتبار أن الأصل براءة المتهم حتى تثبت إدانته ، أي حتى يثبت ناقلٌ عن هذا الأصل ، ومن قواعد الفقه الشرعي أن الأصل براءة الذمّة حتى يثبت شغلها بدليل ، وقد جاء في كتاب عمر لأبي موسى – رضي الله عنهما - : ( والمسلمون عدول بعضهم على بعض .. الخ ).( إعلام الموقعين لابن القيّم 68/1).

المسألة السادسة :
صياغة الأحكام والقواعد في الشريعة والقانون.


تعتني الشريعة الإسلامية في صياغة أحكامها وقواعدها باللغة العربية ، ووجه ذلك أن الكتاب الذي أنزله الله تعالى وفيه بيان أحكامها وقواعدها بلسان عربي ، والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلّم بلسان عربي ، ولا غرابة أن تكون اللغة العربية مما يُفسّر به ذلك الكتاب وهو القرآن الكريم ، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكون اللغة العربية معيْنة على فهمهما واستنباط الأحكام والقواعد منهما ، وصياغتها وفقاً لذلك ، فمثلاً لو تأمّلنا في قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، ثم أردنا استنباط حكم منه بناءً على اللغة العربيّة لقلنا : دلالة النصّ ومنطوقه يعنيان أن من جاء بشيء ليس من المشروع فهو مردود ، ودلالة ومفهوم المخالفة يعني أن من جاء بشيء مشروع فهو مقبول.

أما القانون فلا عناية له باللغة العربيّة ، ويعتمد في صياغة أحكامه وقواعده على النظريّات التي قرّرها بعض أساتذته ، مثل صياغة العقد بناءً على نظريّة العقد وما قُرّر فيها ، وهكذا. بل إنّك لتعجب عندما تجد أن المعيار لدى القانون في تمييز القواعد الجوازية ( ويسمونها القواعد المكمّلة ) كونها ليست من النظام العام ، وليس بصيغتها ، مثل صيغة يجوز وما أشبهها ، فالقانونيون بخلاف علماء الشريعة ، فعلماء الشريعة كما تقدّم يولون لصياغة النصّ اهتماماً في استباط الحكم ، حتى إنهم صاغوا قواعد أصوليّة لذلك ، مثل قاعدة : ( الأصل في الأمر الوجوب ) أي أن الأصل في صيغة الأمر أنها للوجوب ، وغيرها.

ومن جهة تقويم اللسان تجد أن علماء الشريعة أكثر عناية عند التّحدث والخطاب بفصيح اللغة العربيّة من أساتذة القانون ، وقد يظهر أثر فصاحتهم في عنايتهم بضبط الشكل في كتبهم وتصانيفهم.

المسألة السابعة :
جعل الشريعة أصلاً في أسلمة القوانين والبحوث في ذلك.


يُعتبر من العمل المحمود تنقية القوانين التي في بلاد المسلمين مما يُخالف الشريعة الإسلاميّة ، وإلى هذا اتجّهت همّة بعض الباحثين والمهتمّين بذلك من المسلمين ، إلا أنه يؤخذ على بعضهم أنهم جعلوا تلك القوانين المخالفة للإسلام أصلاً في دراستهم ثم أخذوا في البحث عمّا يوافقها من أقوال بعض علماء المسلمين ولو كانت مرجوحة أو شاذّة لا يوافقها دليل ، والذي ينبغي لهم فعله أن يجعلوا الشريعة أصْلاً بنصب أحكامها وفقاً للدليل ، ثم يعرضوا عليها القانون فما لم يُخالفها يؤخذ وما لم يوافقها يُردّ ، استناداً إلى أن مصدر التشريع في بلاد المسلمين هو الكتاب والسنة وما يستند إليهما ، وأن أقوال العلماء يُستدل لها ولا يُستدل بها.

المسألة الثامنة :
قيمة المقصد لدى الشرعي ولدى القانوني ، وأثر ذلك في القضاء.


مقاصد الشريعة هي المعاني والحكم التي لاحظها الشارع عند وضع أحكامه ، كما يذكر ابن عاشور والفاسي في كتابيهما مقاصد الشريعة ، يعني هي الأمور التي شرع الحكم الشرعي من أجلها ، ومن البدهي أن من تعلّم الفقه الشّرعي أعرف بهذه المقاصد ممن لم يتّعلّمها ولو كان مسلماً ، فإن كون المرء مسلماً لا يقتضي كونه عالماً من علماء الشريعة. وهذه المقاصد التي يقصدها الشرعي عند طلبه للحكم الشرعي ، سواء أكان الحكم عاماً أم لواقعة معيّنة.

أما القانون فما يقصده القانوني فيه هو ألّا يُخالف ما صدر عن السلطة التي صدر عنها القانون ، كما إنه يقصد العمل بما يراه موافقاً لمبادئ العدل من آراء شُرّاح القانون ونظريّاتهم.

وإن ما يقصده الشرعي وما يقصده القانوني له أثره في القضاء والحكم ، فكيف يُقال أشركوهم في لجان قضائية ومقاصدهم مختلفة ، وبالمثال يتضح المقال ، فمثلاً : نجد القاضي الشرعي في قضائه يردّ قبول شهادة الكافر على المسلم إذا كانت الشهادة هي الدليل لوحده ضد المسلم ، لأن الشرعي يقصد ما قصده الشارع من عدم ظهور الكافر على المسلم ، وهذه مسألة اتفق عليها علماء الشريعة ولم يُستثنى منها إلا شهادة الكافر في حال السفر والريْبة فيه وعند عدم وجود الشاهد المسلم ، كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ) المائدة 106، أما القانوني فيقبل شهادة الكافر على المسلم في قضائه ، لأنه يقصد تعميم مبدأ المساواة تحت مظلّة الجنسيّة ، كما يقصد القانون تماماً.

ومما يجدر التنبيه له أن شراكة القضاة في الحكم تقتضي المزج بين الاآراء للتوصّل للحكم ، وليس كشراكة غيرهم من العاملين والفنيين في لجان يُنجز كل واحد منهم من العمل ما يختصّ به ، حتى ولو صدر عنهم تقرير واحد فإن دراستهم ليست مدمجة لأن لكل تخصصه واختصاصه.

المسألة التاسعة :
موقف الشريعة والقانون من الضمير.


تقتضي أحكام الشريعة الإسلاميّة أن يلتزم بها المسلم تعبّداً لله تعالى وليس من أجل التزامه بسبب خارجي فحسب ، كإلزام النظام أو القضاء ، فلو غفل من يطبّق النظام على المسلم ، أو أسقط القضاء التزام المسلم بشيء ، فإن تديّنه لله يُلزمه بالحكم الشرعي ، وهو ما يُعبّر عنه بإلزام الضمير أو الرّوح ، ولذا نجد أن الشريعة الإسلامية حرّمت الحيَل ، وامتدحت النفس اللوّامة التي تلوم صاحبها على خطئه وتقصيره ، أما القانون فهو يقوم على الإلزام الخارجي دون إلزام الضمير أو الرّوح ، ولذا كان من المسلّمات فيه جواز التحايل عليه لعدم تطبيقه ، ولذا مما اشتهر عن الأستاذ السنهوري رحمه الله وهو من أساتذة القانون قوله : ( الشريعة أوسع من القانون ، فما يمكن إسقاطه قضاءً لا يمكن إسقاطه ديانةً ) انتهى ، ومن أظهر الأمثلة في هذه المسألة : جباية الزكاة في الشريعة لو غفل عنها المسؤول لم يجز ديانة لصاحب المال ألّا يُخرجها ، ويُقابل شعيرة الزكاة في القانون كنظام تكافلي قانون الضرائب – مع الفرق بينهما – فيُمكن للمرء التحايل لإسقاط الضرائب قانوناً ؛ الأمر الذي يدلّ على أنّ الحيلة مقبولة قانوناً كذلك.

المسألة العاشرة :
موقف الشريعة والقانون من ثبات الأحكام.


الأحكام الشرعية وهي خطاب الله للمكلفين ثابتة بالأدلة الشرعية ، وذلك كأصول عامة وقواعد كليّة ، لكن الوقائع الجزئية لها أثر في الحكم من حيث توصيفها ، ولذلك كان من المتقرّر عند علماء الشريعة أن الحكم يكون مع علّته ، أي إن العلّة وهي الوصف المؤثر في الواقعة يكون لها الحكم المناسب لها ، ومثال ذلك مع الشخص نفسه أنه عندما يكون طفلاً لم يبلغ سنّ التمييز له حكم يختلف عن الحكم الذي يُطلق عليه بعد بلوغه سنّ التمييز ، وكذلك الحكم الذي يُطلق عليه بعد بلوغه للحلُم ، فاختلاف الجزيئات لا يُنافي ثبات أصول الأحكام ، وهذا ما يؤيد فكرة ثبات الأحكام الشرعيّة مهما اختلفت الأماكن والأزمنة ، وكما يُقال : ( الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ) ، بخلاف أحكام القانون ، الذي يستقي مصدره من السلطة المعنيّة بتشريعه التي تتولى صياغة القانون حسب نظريّاتها العمليّة وميولها الفكري وسلوكها الاجتماعي الذي لو تغيّر منها شيْ أو حتى تغيّرت السلطة تغيّرت أحكام القانون حتماً.

المسألة الحادية عشرة :
موقف الشريعة والقانون من التنظيم والتوجيه.


الشريعة الإسلامية بشمولها لمناحي الحياة بتشريع آداب وأحكام في كلّ مجال ، كأحكام الأطعمة والأشربة ، وأحكام قضاء الحاجة ، وأحكام استطابة البدن وتنظيفه ، وأحكام عشرة الأهل والإخوان ، وأحكام المعاملات المالية ، وغيرها ، يتبيّن أنّها عُنيت بتوجيه أتباعها مع تنظيم حياتهم على حدّ قول الله تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الأنعام 162

أما القانون فهو لا يُعنى إلا بتنظيم حياة من يقنّن حياتهم فحسب ولا عناية له بالتوجيه ، وربما في الوقت الحاضر قامت بعض البلدان بتوجيه الناس في قوانينها.

المسألة الثانية عشرة :
موقف الشريعة والقانون من القواعد الكلية.


عند تأمل الفقه في الشريعة الإسلامية نجد أنه راعى صياغة قواعد كليّة تنطبق على جزئيات كثيرة من مواضيع مختلفة أو أبواب متعددة تُعرف أحكام تلك الجزئيات من تلك القواعد الكليّة ، فمثلاً وبالمثال يتضح المقال : القاعدة الفقهيّة ( اليقين لا يزول بالشك ) يُمكن أن يُعرف الحكم الفقهي في كثير من الوقائع بردّها لهذه القاعدة ، فمن الوقائع مثلاً الشكّ في التطهّر لا يُعمل به ، بل يُعمل باليقين وهو عدم التطهّر ، والشك في الصلاة والزكاة كذلك ، ومن الوقائع أيضاً الشك في العدد المطلوب شرعاً في العبادات ، كعدد أشواط الطّواف والسعي وعدد غسْلات الأعضاء عند التطهّر وعدد الأحجار المرميّة عند الجمرات في الحج ، وغيرها ، فالعدد المشكوك فيه يُطرح ولا يُلتفت إليه ، والعدد المتيقّن يُصار له ، وهو العدد الأقلّ يما يتردد من الأعداد بين اليقين والشك.

وأما القانون فلا نجد له اعتناء بصياغة قواعد كليّة يُمكن من خلالها استنباط حكم لواقعة معيّنة ، بل القانون على العكس من ذلك إذ فيه إيغال في بيان حكم كلّ جزئية عند صياغة مواده ، وليس فيه أصول أو قواعد عامة ، وفي ذلك يقول الدكتور السنهوري رحمه الله في ( أصول القانون ص 132 ) : ( إن هذا القانون بدأ عادات ، ونما وازدهر عن طريق الدعوى والإجراءات الشكلية ، أما الشريعة الإسلامية فقد بدأت كتاباً منزلاً من عند الله ، ونمت وازدهرت عن طريق القياس المنطقي والأحكام الموضوعية ، إلا أن فقهاء المسلمين امتازوا عن فقهاء الرومان ، بل امتازوا عن فقهاء العالم باستخلاصهم أصولاً ومبادئ عامة من نوع آخر هي أصول استنباط الأحكام من مصادرها ، وهذا ما سموه بعلم أصول الفقه ).

المسألة الثالثة عشرة :
موقف الشريعة والقانون من اعتبار ظروف الناس عند معاقبتهم.


تختلف فلسفة التجريم والعقاب بين الشريعة والقانون ، إلا أن القانون يُوافق الشريعة في معاقبة من يُخالف أحكامه. وهذا الموافقة ليست مطلقة ، بل إن الشريعة تُراعي ظروف النّاس عند معاقبتهم ، وقد تعمد بسبب ظروفهم إلى عدم معاقبتهم أو التخفيف عنهم ، كظرف الجهل مثلاً ، وقد وضع علماء الشريعة لهذه المراعاة ما يؤصل مسائلها في مبحث ضمن كتب أصول الفقه وعنونوا له بـ ( عوارض الأهليّة ).
أما القانون فهو لا يعتبر ظروف الناس مطلقاً في بعض العقوبات ، لاسيّما ما أسْموها بالجرائم غير العمديّة التي لا يعتبر فيها قصْد الجاني.

المسألة الرابعة عشرة :
موقف الشريعة والقانون من الدعوى العامة.


إذا أقدم المرء على مخالفة يُرتّب عليها نظام البلد جزاءً فإن الجزاء في الشريعة والقانون يكون على نوعين ؛ أحدهما يُسمّى (الحق الخاص) وهو ما إذا ترتّب على المخالفة ضرراً يخصّ أحداً ، والثاني يُسمّى (الحق العام) وهو حقّ المجتمع تجاه هذه المخالفة التي تربك نظام البلد ، وكلا الأمرين في الجملة معتبران في الشريعة والقانون ، لكن يكمن الفرق في أجزاء الحق العام ، فالشريعة تجعل منه بالإضافة لحق المجتمع حق الله تعالى بإقامة حدوده.
كما يكمن الفرق في أن الشريعة لا تقيّد أحد الحقّيْن بالآخر كما في بعض أحكام القانون التي ترى أن تحريك الدعوى بالحق الخاص شرْطٌ لتحريك الدعوى بالحق العام كما في قوانين التحرّش الجنسي ، فلو تراضى الطرفان على الفعل لم يكن للمدعي العام التدخّل بتحريك الدعوى العامة.
ومما يجدر التنبيه له أن ما كان حقّاً للمجتمع فإن وليّ الأمر حسب الشريعة له العفو عنه إذا رأى مصلحة عامّة في ذلك ، كما قرر فقهاء الشريعة قاعدة : ( تصرّف الأمام منوطٌ بالمصلحة ).

المسألة الخامسة عشرة :
مواضيع درستها ولم يدرسها القانون.


إن ثمة أحكام درستها الشريعة ولم يدرسها القانون ، مثل : أحكام المواريث والوصايا والتركات والوقف والشهادات والديات ، وإنّ مما يعجب له المرء أن يُقال بمساواة الشرعيّ للقانوني في القضاء ، بل حتى أحكام السياسة الشرعيّة لم يدرسها القانون ، وهو العلم القائم على تقدير المصالح والمفاسد ، لاسيّما عند تزاحمها أو تزاحم المصالح فحسب أو المفاسد لوحدها ،كما اشتهر قول ابن عقيل رحمه الله عنها : ( السياسة ما كان فعلاً يكون معه النّاس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي ) انتهى كلامه ، وكما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه عن المصالح والمفاسد لقاعدة تقوم عليها ، وهي معرفة خير الخيرين وشر الشرّيْن.

بل إن العجب يكون عندما يُطلب شيءٌ من فاقده ، فإن القانون لا يُدرّس فيه للطالبات أحكاماً تخصّ النساء كالطلاق والعِدَد والرضاع وغيرها ، ثمّ يأتي اليوم من يقول ليُحاميْنَ في المحاكم عن بنات جنسهنّ !! وقد يقول قائل إن طالبات القانون يدرسن ما يخصّ النساء في قانون الأسْرة أو الأحوال الشخصيّة ، والجواب عليه بأن يُقال وهل يأتي قانون الأسرة أو الأحوال الشخصيّة بكل المسائل التي تخصّهنّ ، وبكل الأدلة ، ومناقشات علماء الشريعة !! وأضف إلى ما سبق أن القانون لم يدرس أحكام الحدود والتعزيرات في القانون الجزائي لأن فلسفته في العقوبات مختلفة ، ولم يدرس أيضاً عوارض الأهليّة وقد تقدّم المثال عليها ، ولم يدرس كذلك أحكام اللعان بين الزوجين الذي يتهم أحدهما الآخر بالزنا ولا دليل عنده ، ولم يدرس كذلك ثبوت النسب ( ملاحظة : ربما يثبت القانون العلاقة المحرمة بـ DNA أو غيره لكن وجود العلاقة لا يعني ثبوت النسب شرعاً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش ، وللعاهر الحجر " ) ، ولم يدرس القانون كذلك أحكام القتال بين المسلمين أنفسهم لأنه لا يُعامل الناس حسب أديانهم ، سواء أكان القتال في الداخل أو الخارج.
والأحكام لا تنتهي ، لكن هذا ما حضر في الذّهن وتهيأ إيراده.

المسألة السادسة عشرة :
مواضيع عالجتها الشريعة قبل القانون.


عدة مواضيع عالجتها الشريعة قبل القانون ، يتضح ذلك من خلال معرفة زمن معالجة القانون لها ، لأن الشريعة عالجتها منذ صدر الإسلام الأول ، أما القانون فكثير من نظريّاته التي عالج بها هذه المواضيع تُوصّل إليها في القرن الثامن عشر الميلادي وما بعده ، فمثلاً : عندما تتأمّل قضاء الأحداث في الشريعة تجد أنها راعته في أحكامها ، فليس الصغير كالكبير ، ولا المميز كغيره ، ولا البالغ كغيره ، أما في القانون فأول قانون لقضاء الأحداث كان في عام 1899م ، ويستتبع ذلك أن القانون ليس فيه قبل هذا التاريخ تحديداً لسنّ المسؤولية الجنائية فيُعامل الناسُ ؛ صغيرُهم وكبيرُهم على نحو واحد ، ومثال آخر هو التعسّف في استعمال السلطة فإن القانون لم يعرفه إلا في القرن التاسع عشر ، كما يذكره الدكتور محمود فتحي في رسالته التي أعدّها عام 1912م ، ومثال آخر هو مبدأ الحرية في الفكر والاعتقاد والقول دون قيْد ما لم تُخالف نصّاً ، فإن الشريعة سبقت إليه بينما القانون لم يعرفه إلا بعد الثورة الفرنسية على الكنيسة التي كان الساسة مستبدون من خلالها ، ومثال آخر هو مبدأ العدالة ، فإن الشريعة تقصده في خطابها وأحكامها وتكاليفها بين الناس كلهم ، أما القانون فقد كوى الشعوب بنار الطبقيّة والفوقية والقسوة ، ولم يعرف العدالة إلا في أواخر القرن الثامن عشر عند إنشاء الإنجليز محاكم خاصّة للعدالة ، ومثال آخر هو أن القانون يقرّر أن الاعتراف سيّد الأدلّة وأقواها ، ثم اكتشف أنه ليس كذلك ، وهو حال ما إذا كذّبته القرائن القويّة ، أما الشريعة فتُقرّر أن الاعتراف من أقوى الأدلّة وليس أقواها استناداً لفعل سليمان عليه السلام في حكمه بين المرأتين اللتين اختصمتا في ولد ؛ تزعم كلُّ منهما أنه لها ، وقد جاء في حكمه أنه أوهمهما برغبته في شقّ الولد نصفين ، بحيث يكون لكل واحدة نصف ، فقالت الصغرى منهما هو لها لا تقتله ، بينما أحجمت الكبرى عن الجواب ، فحكم به للصغرى وأهمل اعترافها ، واتخذ سكوت الكبرى علامة لرضاها ، ولو كان ابناً لها لماَ رضيت ، وهذه قرينة قويّة ، والخلاصة أنه أهمل الاعتراف وعمل بالقرينة القويّة. والشيء بالشيء يُذكر ، فإن الصحابي الجليل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري واليه على الكوفة رضي الله عنهما ما يتضمّن قواعد أصّل في كثيراً من أحكام القضاء ، ونصّ الكتاب : ( أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلى إليك ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، آس الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ، البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه ، فإن بينه أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية ، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعماء ، ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ، والمسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا مجربا عليه شهادة زور ، أو مجلودا في حد ، أو ظنينا في ولاء ، أو قرابة ، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ، ثم الفهمَ الفهمَ فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة أو الخصوم ( شك الراوي أبو عبيد ) فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ، ويحسن به الذكر ، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله ، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا ، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام عليك ورحمة الله ). ( أعلام الموقعين لابن القيّم 68/1). والمواضيع كثيرة ، لكن هذا ما حضر في الذّهن وتهيأ إيراده.

المسألة السابعة عشرة :
دور الجهات الأكاديمية والمراكز البحثية في التأصيل الشرعي والقانوني.


عندما تتأمل واقع الجهات الأكاديمية والمراكز البحثية في بلاد المسلمين تجد أنّها هي التي أوجدت بمناهجها وأساليبها الفجوة بين الشرعي والقانوني ، وإلا فإن المنتظر منها أن تعمل مواءمة في تلقّي كل منهما لأحكام الشريعة أولاً ، ثم الإفادة مما لا يُخالف الشريعة من القانون ثانياً. ويُمكن للمواءمة أن يُتحرّى ما يلي :
1 – أن يُدرّس القانون في الماجستير والدكتوراة فحسب ، دون البكالوريوس ، وأقصد الكليّات التي لا تُدرّس إلا القانون،لأن نصوص ومواد القانون تقوم في صياغتها على مقدمات ونتائج ، يحتاج الدارس إلى فهمها ثم تطبيق الوقائع عليها ، فمثلاً يُقال في النصّ أو المادّة ( من فعل كذا ) وهذه مقدمة ، ( فعليه كذا ) وهذه نتيجة ، وقد لا يضبط حديث العهد بالمرحلة الثانوية هذا التحليل ، ومن ثم تخريج التطبيقات على المادة.
2 – تدريس ( مبادئ القانون ) في آخر مراحل كليات الشريعة ليُدرك الشرعيون الفائدة منه مما لا يُخالف الشريعة.
3 – أن تقوم البحوث المقارِنة بين الشريعة والقانون بجعل الشريعة أصلاً في البحث ، وذلك بالدليل الراجح ، ثم عرْض القانون عليها ، فما وافقها منه أُخذ ، وإلا فلا ، لا كما يفعله البعض من جعل القانون أصلاً ثم البحث عما يبرّر له في الشريعة ولو قولاً شاذاً لأحد الشرعيين أو من ينتسب لهم.

المسألة الثامنة عشرة :
التفريق بين تقنين أحكام الشريعة وتدوينها ، وأثر كل واحد منهما في الفقه الشرعي.

يرى بعض الباحثين أن التقنين والتدوين بمعنى ، والذي يظهر أن بينهما اختلاف في المعنى ، فالتدوين هو صياغة الأحكام بطريقة معيّنة ، فإذا حصل الإلزام من السلطة بحيث تصبح هذه الأحكام التي دوّنت نظاماً أو قانوناً صار التقنين ، والخلاصة أن التقنين تدوينٌ ومعه إلزامٌ بما دُوّن.
والتدوين من دون إلزام لا يرى فيه علماء الشريعة بأساً ، وليس محلاً للتجاذب والنقاش ، وعلى هذا اتفقوا من وقت تدوين السنة والفقه ، وبناءً عليه لو حصل تدوين للأحكام الشرعية من أجل تقريب الفقه وإرشاد القضاة مثلاً دون إلزامهم به لا بأس به اتفاقاً وفي جميع الأحكام الشرعيّة.
أما التدوين مع الإلزام به وهو التقنين فهو محل التجاذب ، وعليه مدار النقاش ، والحق أنه لا يُقبل في جميع الأحكام الشرعيّة ؛ إذ إن من الأحكام الشرعيّة ما للشريعة فيه قولٌ فصْل لا يُمكن شرْعاً إلا الرجوع إليه.

وبيان ذلك أن الأحكام الشرعيّة التي مبناها على درء المفسدة وتقليلها وجلب المصلحة وتكثيرها لها أمام المصالح عدة مواقف ؛ الأول مصالح معتبرة ، أي اعتبرتها الشريعة ، والثاني مصالح ملغاة ؛ ألغتها الشريعة ، والثالث مصالح مرسلة لم يكن للشريعة فيها حكم ، فالأحكام التي هي من الأول والثاني لا يُمكن شرعاً أن يدخلها التقنين إلا في إجراءات تطبيقها ، أي لا يدخل التقنينُ الموضوعَ فيها ، لأن ذلك يؤول إلى تنحية الحكم الذي حدّدته الشريعة ، ومثال ذلك أحكام النكاح ، وتطبيق الحدود ، وتحريم الربا والزنا ، وغير ذلك ، وأما الأحكام التي من الثالث – أي هي مرسلة – فهذه يُمكن أن يدخلها التقنين موضوعياً وإجرائياً.

ومما يجدر التنبيه له أن على السلطة – والمقصود بها شرعاً إمام المسلمين وولي أمرهم – أن تتوخى عند التقنين موضوعياً وإجرائياً أحكام السياسة الشرعية ، بالإضافة إلى ما ذكره علماء المسلمين من أحكام للمصالح المرسلة أو ما يسميه بعضهم الاستصلاح.

وليُعلم أن إدخال التقنين عامّةَ الأحكام الشرعيّة عواقبه وخيمة ، ومنتهاه تنحية الحكم بالشريعة ، وترك السنة ، ومخالفة الإجماع على وجوب اتباعها متى استبانت ، كما قال الشافعي رحمه الله : ( أجمع الناس على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول غيره ) ، كما يترتب على تقنين جميع الأحكام الشرعية أن يحكم القضاة بما لا يعتقدونه صواباً عادلاً يدينون الله به ويريح ضمائرهم ، لاسيّما من يملك الاجتهاد منهم ، وقد حكى ابن فرحون المالكي في تبصرة الحكام (1/71) الإجماع على أن التقليد لا يصح للقاضي المجتهد فيما يرى خلافه، وكذلك مما يترتب على تقنين جميع الأحكام الشرعيّة تركُ الحكم بعرْف الناس الذي لابد من تحكيمه تحقيقاً للعدالةِ ، والقضاءُ على العلم الشرعي بانكباب الناس على دراسة الأنظمة والقانون مع ترك دراسة أحكام الكتاب والسنة ، وتفاسير السلف وشروحهم ، وأقوال الفقهاء وآرائهم ، والإحاطة بمداركهم وطرقهم في استنباط الأحكام ، بحيث عندما يطلب الناس استنباط حكم شرعي لنازلة يوائم ظروف زمانهم لم يجدوا فقيهاً وعالماً بالكتاب والسنة.

وفكرة التقنين أو جمع الناس على رأي واحد ليست وليدة اليوم ، بل كما يذكر كثير من المؤرخين والباحثين أن أول من ابتدعها طالباً لها من إمام المسلمين عبدُ الله بنُ المقفع ، لكن فكرته قُوبلتْ بالرفض بدءاً من الإمام مالك رحمه الله وانتهاءاً بزماننا هذا ، كما ذكر الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام عضو هيئة كبار العلماء رحمه الله في كتابه ( تقنين الشريعة ، أضراره ومفاسده ) ، فقد ذكر أن الملك عبد العزيز رحمه الله عرض أمر تلك الفكرة شورى على علماء المملكة منذ نصف قرن تقريباً ، فاجتمع رأيه مع رأي العلماء على ردّها رحمهم الله أجمعين ، وكذلك تمّ عرض الفكرة في عهد الملك فيصل رحمه الله على هيئة كبار العلماء فصدر رأيهم بالأغلبية بردّ الفكرة عام 1393هـ ، وأجابوا بأن الداعي للفكرة – وهو التباين بين أحكام القضاة في القضايا المتماثلة – إن كان إشكالاً فليس التقنين حلّاً له ، فلازالت الدول التي فيها تقنين عندها تباين في أحكام القضاة ، ولديها محاكم نقض ، ثم استعرضت الهيئة حلولاً للتباين لو كان إشكالاً. وفي القول ( لو كان إشكالاً ) الإشارة إلى أن ليس كلّ تباين مذموم ، وبيان ذلك أن التباين والتضارب لا يخلو من أحد الأوجه التالية :

الأول : أن تكون القضيتان متماثلتين في الظاهر ، لكن أحاط بكل واحدة منهما ما يوجب أن يكون الحكم على خلاف الظاهر وما لا يطّلع عليه إلا القاضي ناظر القضيّة ، سواء أكانتا – أي القضيتان – عند قاضٍ واحدٍ أو واحدة لدى قاضٍ والأخرى لدى آخر ، فاختلاف الحكم هنا ليس مذموماً.

الثاني : أن تكون القضيتان متماثلتين من كلّ وجه عند قاضٍ واحد فقضى فيهما في زمَنين بحكمين مختلفين ، عن اجتهاد ونظر أوضحه في حكمه وبرهن عليه حيث اقتضى فيه الرجوع عن رأيه الأول إلى رأيه الثاني ، فهذا سائغ شرعاً كما وقع في ذلك عدة قضايا لعمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم ، وفي ذلك قولته المشهورة : ( تلك على ما قضينا يومئذٍ ، وهذه على ما نقضي اليوم ) ، فاختلاف الحكم هنا ليس مذموماً أيضاً.

الثالث : أن تكون القضيتان متماثلتين من كلّ وجه عند قاضٍ واحد فقضى فيهما بآن واحد بحكمين مختلفين ، فهذا اختلاف وتباين مذموم ، وهو ممتنع شرعاً ، ولو فرض وقوعه فإن العدالة تأخذ مجراها في القاضي وحكمه.

وإن من دواعي التعجّب معرفة أن من أهداف المطالبين بالتقنين – وأكثرهم محامون – معرفة ما سيحكم به القاضي ، وهذا يُخالف ما يرومونه في كتاباتهم وأطروحاتهم من مطالبتهم منع القضاة من أي عمل سوى القضاء كالخطابة وغيرها لئلا يُعرف رأي القضاء ، فكيف يطلبون شيئاً وخلافَه ؟ هذا مع التنبيه أن الصواب في منع القضاة من الفتوى في كل ما من شأنه أن يرجع للخصومة من معاملات الناس لما فيه من تعليم الخصوم بالحكم وإعانتهم على الفجور في الخصومة ، لا منع القضاة من الإفتاء في العبادات وتفقيه الناس في دينهم ، كما قال ابن عاصم الغرناطي :

ومنع الإفتاء للحكامِ **** في كل ما يرجع للخصامِ

وفي الختام أذكر ما قاله الأستاذ علّال الفاسي في كتابه ( دفاع عن الشريعة ص255) ردّاً على من يشعر بانهزام نفسي من أبناء المسلمين أمام تقنين غيرهم : ( وهي هزة يجب أن لا نفزع منها ، بل يجب أن نعتبرها بمثابة خفقة القلب التي تحصل لمن يخرج وحده في الظلام أحياناً ؛ عبارة عن ضعف الأعصاب وعدم الإرادة ، سرعان ما تزول إذا تذكر الخائف أن الليل والنهار سيّان بالنسبة لحركة الإنسان وسكونه ، وأنه ليس هنالك كما يعلم هو يقيناً طاريء ولا تشكّل من الكائنات ، إن هي إلا أوهام وخزعبلات ، وكما يشتد عزم ذلك الخائف فيتحدى أوهامه ، كذلك يجب أن يشتد عزم الذين يضعفون خوف الاتهام بالرجعية ، فيعلمون أن ذلك مجرد خزعبلات موروثة عن الاستعمار ومن إيحاء رجاله ) انتهى.

سلطان بن عثمان البصيري
المدينة المنورة
13/8/1433

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
سلطان البصيري
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية