صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ورحل سليم ... !!

بندر بن فهد الايداء
@BandrALAyda

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

ورحل سليم ... !!

1976_2016

وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما

هل تعلمون من أرثي؟ هل تعلمون عمن أكتب ؟ إنه سليم ذلك الوجه المتوضئ المتلألأ بالسنة، ذلك الإنسان العالم العامل أحسبه كذلك والله حسيبه،خشية وتواضعاً،سماحة ولطفاً،لم يكن كغالب من رأيت ؟ إنه يمتلك مع العلم وجهاً عليه أمارات الخوف من الله والتعلق به والرضى عنه واسألوا من قابله وتتلمذ عليه .. فهل قلت إلا حقا !

ثوى طودُ هنا وانثلَّ ركنٌ ... وحلّت محنة وخباء ضياءُ
وأضحى ملجأ الملهوف قفراً ... ولا قطب تدور به الرحاءُ
ونقص الأرض بالعلماء حقٌّ ... ومن أطرافها يأتي البلاء
إذا بكت العيونُ لكل خطبٍ ... على العلماء فليكنِ البكاءُ
وإن طفقت لسان الشعر ترثي ... على العلماء فليكنِ الرثاءُ

(إنما يخشى الله من عباده العلماء) _ فاطر: 28_ وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً إنما يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساءً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"

وفي صحيح الحاكم من حديث عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا" _ الرعد : 41_  قال : موت علمائها .

كان سليماً طيّب الأصل والفرع ،فزكت نفسه،وسمت روحه،حتى صار معيناً بالعلم،وشجرة طيبة وارفة الظلال لكل متعلم وملهوف ..

بيت دعائمه نبلٌ وتضحيةٌ ... إذا بنى الناس من صخرٍ ومن شيدِ

كان زينة الدمام وقمرها بل كان بدراً على كل حالاته،يؤثر الجميع بوقته وعلمه وراحته ..

يتزيّن النادي بحسن فعالهم ... كتزّين الهالات بالأقمار

سليمُ على اسمه، سليمَ الصدر والفكر والقلب لا يقابل أحداً بما يكره، كثير الصمت إلا من نشر علم أو إصلاح أو تلاوة قرآن أو ذكر لله،وصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم ..

صموتُ إذا ما الصمتُ زيّن أهله ... وفتّاق أبكار الكلام المختّم
وعى ما وعى القرآن من كل حكمةٍ ... ونيطت له الآداب باللحم والدم

قبل سنوات طلبت منه رحمه الله ترجمة يسيرة بإلحاح فأعطانيها وسأعرض أبرز محطاته العلمية . تخرج رحمه الله في كلية القرآن في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية ثم حصل على الدبلوم العالي والماجستير بامتياز من جامعة القرآن في السودان وكان يعدّ رسالة الدكتوراة ولم يكملها لكثرة انشغاله في التدريس والسفر للدعوة داخل المملكة وخارجها وكان له دروس ودورات علمية سنوية في الكويت ودرّس في معاهد علمية كثيرة .

أما عن دراساته المحضرية ( غير النظامية ) فقد حفظ القرآن الكريم وأتقنه صغيرا مع الرسم والقراءات العشر والتجويد والتفسير وتبحر في فنونها .

وكان رحمه الله يعنى بكتاب التوحيد تعلماً وتدريساً وثلاثة الأصول ولمعة الاعتقاد وكذلك العقيدة الواسطية لابن تيمية والطحاوية شرح أبي العز وكتاب مجمل اعتقاد السلف للشيخ سالم الشنقيطي وله شروح عليها . وكان ملماً بكتب السنة سيما الموطأ واطلع على شروحها وأجيز فيها وكان رحمه الله أصوليا لغويا درس الآجرومية ،وملحة الإعراب،وألفية ابن مالك، وشذور الذهب، وقطر الندى، ولامية الأفعال لمحمد بن مالك، وطرّة الحسن . وفي الأصول الورقات لإمام الحرمين ،ومراقي السعود، ومذكرة الأمين ،وفي القواعد كتاب السعدي ،ونظم الأهدل للأشباه والنظائر وكتب أخرى . وكان فقيها مالكيا،ودرس الفقه الحنبلي وله فيه نظم أخصر المختصرات إلى باب الجهاد ودرس بعض كتب الفقه المقارن كبداية المجتهد والاستذكار .

وكان عالماً في المنطق ودرس كتاب المرونق وبعض آداب البحث والمناظرة وللشيخ رحمه الله اطلاع واسع على السير والتاريخ والفرائض وآخبار العرب وقصص وأشعارهم كالمعلقات السبع والشنفرية وبانت سعاد ولديه في ذلك حافظة مذهلة ويحفظ آلاف القصائد .

لهم المهابة والجلالة والتقى ... وفضائل جلّت عن الإحصاءِ
يسعون في طلب العلوم بعفةٍ ... وتوقُّر وسكينة وحياءِ

ودرس رحمه الله علوم البلاغة الثلاثة؛البيان والبديع والمعاني والعروض،وكذلك الجوهر المكنون والنقاية، وكتاب المقصور والممدود لابن مالك،ومثلث قطرب ،ومقصورة ابن دريد والقاموس ولسان العرب، والمنجد ومختار الصحاح و جمهرة اللغة.

نظم رحمه الله الكثير من القصائد ولو طبعت لكانت ديواناً كاملاً،وله منظومات في النحو والبلاغة والفقه والجغرافيا وبعض الأناشيد.

وقد شرح رحمه الله عدة كتب في علوم مختلفة ومازالت في الأشرطة منها مجمل اعتقاد السلف للشيخ محمد سالم الشنقيطي، ولامية الأفعال في الصرف،والاجرومية في النحو، والمعلقات في اللغة ومقصورة ابن دريد ،ومثلث قطرب في اللغة ،والأربعين النووية والبيقونية ،وشرح الأهدل للأشباه والنظائر في القواعد ،والنقاية في البلاغة ،ومئة المعاني في البلاغة،وشذور الذهب،ومطهرة القلوب في السلوك وألفية بن مالك، والحماسة،وبعض بلوغ المرام وبعض العقيدة الطحاوية، والأصول الثلاثة في العقيدة ولمعة الآعتقاد والرحبية في الفرائض والورقات في الأصول وغيرها .

شارك في برامج إعلامية مثل برنامج أفاق في قناة اقرأ وفي واحة المستمعين في إذاعة القرآن الكريم في الكويت وبرنامج مباشر في إذاعة موريتانيا .

إذا همَّ همّاً لم ير الليل غمة ... عليه ولم تصعب عليه المراكبُ

كان لقائي الأول معه رحمه الله حين عزمت وصديقُ عمري الشيخ موسى الغنامي في أن نقرأ عليه في عدة فنون ونجرد عليه كتباً ومتوناً وكان هذا قبل تسع سنوات تقريباً .

كان جدوله مزدحماً والطلاب يأتون إليه من الدمام وأطرافها متفرغاً لنشر العلم من بعد صلاة الفجر حتى بعد صلاة العشاء في مركز منار الهدى قبل إغلاقه.

هشّ لنا وبشّ وخصّص لنا يومان في الأسبوع ،قرأنا عليه الآجرومية نظم القلّاوي،وجزءاً كبيراً من بلوغ المرام،وتفسيرالبغوي،وصحيح البخاري،والفقه الميسر، والبيان والتبيين،والفقه الميسر، والعودي الهندي للسقاف.

كنا نرى عجبا من الشيخ حين يُقرأ القرآن من تأثره وبكاءه وكثرة ذكره في مجلسه، كنت أحسُّ برقة في قلبي معه،وكأني على ضعف بضاعتي أتلمس لقلبي ما يصلحه في مجلس الشيخ من هيئته وسمته وحديثه عن الله وتعظيمه .

لولا عجائب صنع الله ما نبتت ... تلك الفضائل في لحم ولا عصبِ

بل وجدت منه حنان الوالد على ولده في سؤاله عنّي ودعائه لي وكان يتعاهدني وصاحبي من دعائه في أشرف البقاع وهذا من لطفه وتواضعه ويقول أنتما من أقرب الناس لي.

وكان من تواضعه يعاملنا كأقران لا طلاب بل ربما جاءه السائل فأحاله علينا تهيباً للفتيا وهضماً لنفسه على جلالة قدره وعلمه رحمه الله .

وأحسن مقرونينِ في عين ناظرٍ ... جلالة قدرٍ في خمولِ تواضعِ

وجئته مرة بموضوع له أقترحه عليه وطرحت له بعض التفاصيل فكنت أراه يبتسم ،فسألته عن سرّ الابتسامه فقال : حديثك الآن بتفاصيله تصديق رؤياً رأيتها قبل أيام ! وكان له في هذا الباب عجباً رحمه الله وأحسبه من الصالحين الذين تصدق رؤاهم .

ودعوته لزواجي في المدينة النبوية وكان ذلك قبيل موسم حج،فمع انشغاله بتدريس الناس تلك اللحظات إلا أنه استأذنهم وأخذ سيارة أجرة وجائني مسلماً مهنئاً وداعياً لي .

توطدت صحبتنا بالشيخ رحمه الله فكنا نسمر معه بعد العشاء في منزله بالدمام مرّات كثيرة ،ويخدمنا بنفسه ويقدمنا في مجلسه،ونسمع منه العلم والأدب والشعر ما تطرب له النفوس .

إذ قال لم يترك مقالاً لقائلٍ ... بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

أهداني مرة لبس الشناقطة (درّاعة) فلبستها واغتبطت بها ثم أخذتها للمغسلة وفي اليوم التالي أضاعها العامل الأعجمي مع الأسف وتطلبتها مرارا فلم يجدها وكنت أجد جهداً عظيماً في وصف الدرّاعة له وأشبهها بالشرشف أو البطانية لكن دون جدوى !

أرسل إليّ يوصيني حين كنت أدرس في الخارج يقول :
عليكم بزيادة العبادة ،أقولها وأستغفر الله لما أعلم من كسلي، لكن الشيخ محمد سالم بن عدود رحمه الله لما كان طالباً في تونس قال لأصحابه : إنما كان يكفيكم من العبادة لا يكفيكم هنا ! لأن المنكرات _في ذلك الوقت_في تونس أكثر من بلدنا قبل أن تغزوه الحضارة الوافدة وما زال بفضل الله أخفّ ولكن الله المستعان فيه كثير من المنكر .

كان رحمه الله ذو حلم وأناة ويقابل الإساءة بالإحسان ،وحدثني بقصص له مع أناس أساءوا له وأعجب من حلمه عليهم بل وتلطفه لهم.

ووالله إني أعلم من حاله عجباً في نفع إخوانه على قلة ذات يده ،وكان ماله ليس له بل للضعفة واليتامى وذوي الحاجات بل كان يقترض كثيرا من أجلهم .

متيّم بالندى لو قال سائله .. هب لي جميع كرى عينيك لم ينم

وكأنما قصده الشاعر بقوله :

أناس إذا ما الدهر أظلم وجههُ ... فأيديهم بيضٌ وأوجهُهم زهرُ
يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً  ... ببذل أكفّ دونها المزنُ والبحرُ
فلو لامس الصخر الأصم أكفّهم ... أفاض ينابيع الندى ذلك الصخرُ

وبقوله :

حرٌّ إذا جئته يوماً لتسألهُ ... أعطاك ما ملكت كفّاه واعتذرا
يخفي صنائعه والله يظهرها ... إن الجميلَ إذا أخفيته ظهرا

 قال لي مرة : لقد تعودت وأسأل الله أن لا تتغير هذه العادة أن أتفرغ لتدريس الطلبة وأن لا آخذ منهم شيئاً ولا أشعرهم بحاجتي حتى وإن كنتُ محتاجاً،وفي سالف أيامي تعودت أن لا أسأل الناس ولا أزعجهم بخصوصياتي .

إن الكريم ليخفي عنك عسرتهُ ... حتى يُخالَ غنيّا وهو مجهودُ

وكان رحمه الله ينشدني :

والقلب إن على الإله أقبلا ... ترحلّت عنهُ عساكر البلا
وأشرقت أنواره وأدخله ... خالقه في جنّة معجّله

حين أكون داخل المملكة أو خارجها لم ينقطع التواصل بيني وبينه رحمه الله وحين أرسل له بعض نشاطي البسيط في الدعوة كان يشجعني ويدعو لي ويعلق ويوجّه بل حتى في مرضه الأخير كان متواصلا معي ويخبرني عن حالته الصحية وفهمت من كلامه أنها وعكة بسيطة ولكن لكل أجل كتاب وكان آخر ما أرسله لي وكأن يودعني : حفظكم الله ورعاكم !

توفي رحمه الله مساء السبت الثالث من ذي القعدة 1437هـ في المدينة النبوية ودفن في البقيع وأسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة وأن ينزله منازل الشهداء ويرزقه مرافقة النبي وصحبه في أعلى جنان الخلد ويخلف على أهله خيرا ويعقبهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة وإنا لله وإنا إليه راجعون .

وقلتُ أرثيه :

خطبٌ ألمّ على قلبي بما فيهِ ... من لوعةِ الفقدِ يسقيني وأسقيهِ
يجتاح نفسي ويكويني بميسمهِ ... فيسرع الدمعُ من عينيَّ يشجيهِ
قد كنتُ أسمعهُ الأبيات تطربهُ ... وما ظننتُ بأني سوف أرثيهِ
لقد رحلتَ سريعاً فالنفوس لظى ... فيها من الوجد آلاماً ويذكيهِ
ذكراك والعلم والإبحار في فلكٍ ... من الصفاء بقلبٍ أنت راعيهِ
كذا المنايا تقاسينا وتفجعنا ... والموتُ يخترم الآمال حاديهِ
يبكيك مجلسك الهادي ومحبرةٌ ... ومعدمٌ ضائقٌ بالجود تقريهِ
يبكي عليك يتيمٌ طالما بذلت ... له يمينك إحساناً يغطّيهِ
وعابر ضلّ لا يأوي على أحدٍ ... فما فتئت تناديه وتؤيهِ
يبكيك موسى ونبكي كل مأثرةٍ ... وكل محفل قوم كنت تأتيهِ
رأيت فيك حنان الوالدين وكم ... كان الحنان جبلّاً لست تحكيه

"سليمُ"
 يا كلّ إحسان لنا نطقت ... به فعالك تصديقاً لراويهِ
"سليمُ"
 تزدحم الألفاظ في شفتي ... ماذا أعدّد مما لستُ أحصيهِ

جاورتَ سنة هادينا ومضجعه ... وفي الجنان دعائي أن تلاقيه 
 

 كتبه أبو عبد الإله / بندر فهد الايداء
13 ذو القعدة 1437هـ
 
Birmingham 


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
بندر الايداء
  • مقالات
  • كتب وبحوث
  • مع القرآن
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية