صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







طاقة التحمل!

أ.د. عبدالكريم بكار

 
1/2

كلما تأمل المرء في أسرار التشريع وفي طبائع الأشياء ظهر له جليًّا أن بارئ الخليقة ومرسل الرسل ومنزّل الكتب واحد –جل شأنه-؛ وأظن أننا كلما امتلكنا رؤية أعمق وأشمل لتاريخنا وواقعنا ظهرت حاجتنا إلى أن نعمل في ظلال هدي الشريعة الغراء وفي إطار (طاقة التحمل) على كل الصعد التي تعرفنا على سنن الله في الخلق في مسائلها وقضاياها، وذلك حتى لا نهدم ونحن نريد البناء، ولا نُفسد ونحن نريد الإصلاح...
في الإمكان أن نقول: إن كل شيء تحمَّله فوق طاقته فإنك تخسره، أو تكاد. وخسارتنا لما نحمَّله فوق طاقته أشكال وألوان.. فقد تتجلى الخسارة في فقده وانعدامه، كما لو ضغطنا على كأس زجاج رقيق أكثر من طاقته على الاحتمال. وقد تتجلى الخسارة في فقده لوظيفته مع بقاء مادته، كما لو حمّل مهندس بناء حديد التسليح في عمارة ينشئها أوزاناً فوق الأوزان التي يتحملها عادة؛ مما يؤدي إلى انهيار البناء بسبب اعوجاج الحديد. وتتمثل الخسارة في بعض الأحيان لهذا الذي نحمَّله فوق طاقته في فقد فاعليته، أي أنه يؤدي عمله لكن على غير الوجه المطلوب، كما أن النتائج تكون أقل من المتوقع. إنك لا تستطيع أن تحمَّل مركبة ضعف حمولتها العادية، ثم تسرع بها كما يسرع الذي يقود مركبة تحمل حمولة عادية. وقد تتجسَّد الخسارة في عدم القدرة على الاستمرار في السعي إلى آخر الطريق كالمسافر الذي يتناول ما لديه من طعام وشراب على نحو مسرف، فإنه سيجد نفسه في مرحلة من المراحل عاجزاً عن متابعة المسير بسبب تحميله لزاده ما لا يحتمل من الاستهلاك، وكالذي يحمَّل بدنه ما لا يحتمل بإطلاق العنان لشهواته، فيجد نفسه هرماً قبل الأوان. وهناك أنواع أخرى للخسارة ...
إن لدينا الكثير من النصوص التي تؤكد مراعاة الشريعة لهذا المبدأ العظيم، منها قوله – سبحانه- : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)[سورة البقرة:286]، وقوله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج)[سورة الحج:78]، وقوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)[سورة البقرة:185]، وقوله: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)[سورة النساء:148]، وقوله: ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)[سور النساء:129]. وقال عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل"، وقال لعائشة- رضي الله عنها- " لولا حداثة قومك بكفر لنقضت البيت، فبنيتُه على أساس إبراهيم، وجعلتُ له خلفاً فإن قريشاً لما بنت البيت استقصرت".
إنه لا يريد أن يحمّل إيمان قريش الغضّ أكثر مما يحتمل، ولذلك امتنع عن ذلك العمل الذي قد يهيجهم، ويدفعهم إلى الاستنكار.
إن الشريعة راعت حال المكلفين وقدرتهم على النهوض بحقوق الالتزام، ولهذا فليس في ديننا -بحمد الله- ما يشقّ اعتقاده أو يشقّ عمله. وحين يعيش المسلم في ظروف خاصة أو طارئة فإن الشريعة تلمح ذلك، وتجنح به إلى الرخصة والتيسير، وصار من القواعد الفقهية المشهورة أن الأمر كلما ضاق اتسع. وفلسفة الرخصة في الإسلام تقوم على أن التخفيف في التكليف يساعد المسلم على أن يبقى في إطار الاستجابة لأمر الله، وفي إطار الشعور بالقيام بحقوق العبودية عوضاً عن الشعور بالضيق والمشقة والحرج والسعي إلى التماس الأعذار للتقصير والإعراض عن أمر الله بالكلية. ومن هنا كانت رخصة قصر الصلاة وجمعها للمسافر، وجواز التيمم في ظروف معينة، وجواز الإفطار في رمضان للمريض والمسافر، ورفع القلم عن النائم والمجنون والطفل، والإعذار بالجهل في الكثير من المواطن، وعدم المؤاخذة بما لا يستطيعه المسلم من العدل بين نسائه في المحبة والأنس والاستمتاع.
ولدينا العديد من النصوص التي توجه المسلم إلى ألاّ يحمَّل نفسه مالا يطيق حتى لا يقع في شكل من أشكال الخسارة التي أشرنا إليها. وهي نصوص كثيرة في الحقيقة، منها ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري يذهب يستغفر؛ فيسب نفسه" . إن الخسارة هنا واضحة فحمل النفس على العبادة مع شدة النعاس، قد يؤدي إلى عكس المقصود، فيدعو المرء على نفسه عوضاً من الاستغفار. وقال عليه الصلاة والسلام : " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟!. قال : يتعرض من البلاء مالا يطيق".
بين الكم والكيف علاقة عكسية، وفي معظم – إن لم نقل جميع- الحالات لا يكون الكم إلا على حساب الكيف، كما لا يكون الكيف إلا على حساب الكم.. نعم يمكن نقض هذه العلاقة إذا كانت أعمارنا وطاقاتنا وأموالنا... غير محدودة، وأنى لنا بهذا؟
حين يعرّض المسلم نفسه لابتلاءات قاسية فإنه يضع نفسه على حافة الخطر حيث لا ضمانة لصبره على ما جرّه لنفسه من البلاء، ولا ضمانة لنجاحه في الاختبار الصعب الذي قرر الدخول فيه. وقد رأينا الكثير الكثير من ذوي القلوب الطيبة وقد نكثوا على أعقابهم نتيجة الذل الذي صاروا إليه بسبب تحميلهم لأنفسهم ما لم يحملهم الله – تعالى- إياه، وكانت النتيجة أنهم انتهوا إلى لا شيء: لا كم ولا كيف!.
إن المثابرة إحدى الفضائل الإسلامية، وهي لا تكون أبداً إلا إذا جعلنا أنشطتنا في إطار طاقاتنا، وإلا إذا تجنبا إرهاق الأنفس.
تقول عائشة- رضي الله عنها- : " دخل عليّ النبي – صلى الله عليه وسلم- وعندي امرأة . قال: من هذه؟ قلت: فلانة تذكر من صلاتها- أي تتحدث عن كثرة صلاتها- فقال: مه. عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه".
وفي حديث مسلم عنه – صلى الله عليه وسلم- : " هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. والتنطع هو التعمق والتشدد في غير موضع تشديد. الشريعة الغراء تدعو إلى اليسر لأنه من أهم منطلقاتها، ولأن التجربة أثبتت أن الإيغال في أي أمر يكون في الغالب على حساب أمور أخرى؛ ومن النادر أن ترى رجلاً صرف جل اهتمامه وعنايته لأمور معينة دون أن يقع في التفريط في أمور أخرى، لا تقل في أهميتها عما يبالغ في العناية به، فالكيف كما ذكرت لا يكون إلا على حساب الكم.

في المقال القادم سأتناول بإذن الله – تعالى- بعض التطبيقات المعاصرة لمسألة خسران الأشياء التي تحمَّلها فوق طاقتها.
ومن الله الحول والطول.


2/2

ذكرت في المقالة السابقة أن لكل شيء طاقة محدودة على التحمل، وأن علينا مراعاة تلك الطاقة، وإذا لم نفعل ذلك؛ فإننا سنخسر ذلك الشيء. ووعدت بأن أتحدث اليوم عن بعض الأمثلة والتطبيقات التي تفسر هذا المبدأ وتوضحه في العديد من المجالات. والحقيقة أن قائمة الأمثلة طويلة، لكن سأقتصر على خمسة منها في المفردات الآتية:
1- يحاول الناس بصورة شبه دائمة أن يحققوا مصالحهم في إطار مبادئهم حتى اللص الذي دخل بيتاً ليسرق المال فإنه في العادة لا يقتل إذا أمكنه الحصول على المال دون الاحتياج إلى القتل. وهذا يعود إلى أن الإنسان مهما تجرد من القيم والمبادئ فإنه يظل فيه شيء من النزعة الإنسانية وشيء من الحنين إلى السمو والنقاء؛ لكن لهذا حدودًا على التحمل، فإذا وُضع الإنسان في ظروف بالغة السوء من الفقر والعوز والقلة – مثلاً- فإن جهاز المناعة الأخلاقي لديه يتعرض للانهيار بسبب الشعور بالظلم الاجتماعي وبسبب قدرة العقل الفائقة على تأويل القيم إلى حد إفراغها من مضامينها. ومن هنا فإننا قد لا نستغرب – وإن كنا لا نسوَّغ ولا نبيح ولكن نفهم- إذا وجدنا الفلسطيني الجائع والمحاصر والذي تخلى عنه إخوانه في العالم، وقد مد يده للتعاون مع اليهود إلى درجة وضع علامات على سيارات قادة المجاهدين حتى تهتدي إليها طائرات اليهود، وتقوم بقصفها، وقتل من فيها.. وهذا حدث في كل البلاد الإسلامية وغير الإسلامية أوقات الاستعمار. وقد أشار أحد علماء المسلمين قديماً إلى شيء قريب من هذا حين عتب عليه بعض أصدقائه قبوله لهدية من حاكم طاغية، حيث قال: لم أقبل هديته إلا حين حلت لي الميتة. إن الرادع الديني أو الوطني أو الإنساني موجود بنسب متفاوتة لدى جميع الناس، لكنه لدى الأغلبية ينهار، أو يكاد إذا حُمَّل فوق طاقته.

2- نظرت بعض الجماعات الإسلامية إلى نفسها فوجدت أنها الأفضل تنظيماً والأوسع انتشاراً وربما الأقدم في ساحة العمل الدعوي، وهذا –ولا شك- يمنحها شعوراً بالتفوق، ويعطيها على الأرض بعض الحقوق؛ وهذا طبيعي لكن بعض تلك الجماعات لم تنتبه لنفسها، فتولدت لديها (عقدة الأخ الأكبر) فصارت تتصرف كما يتصرف الأخ الأكبر في الأسرة، حيث على الإخوة الصغار السمع والطاعة وتلقي الأوامر والنصائح، وحيث فقد روح المبادرة للتنسيق والتعاون (بل ضعف الاستجابة) لمحاولات الآخرين الانفتاح عليها. وقد أدى ذلك إلى إعراض الجماعات الأصغر حجماً عنها، وبدأ التنافس، وما يجره من مظاهر الانحطاط المدني يشتعل في الساحة الدعوية. إن للقوة دائماً حقوقاً، يقدرها الناس، لكن أصحاب القوة كثراً ما يضخمون تلك الحقوق، أي يحمّلون قوتهم وامتيازهم وتفوقهم ما لا تحتمل من الحقوق والميزات، وكانت النتيجة خسران الامتياز كله بسبب خسران العلاقة مع الجماعات الأخرى والتي يمكن أن تكون معبراً لذلك الامتياز. وقد أشار زهير إلى معنى يلتقي جزئياً مع ما نقوله حين قال:

ومن يكُ ذا فضل فيبخل بفضله  *** على قومه يُستغن عنه ويذممِ


3- قد تعودنا في مجالات الأعمال الدعوية والخيرية أن نجد دائماً القليل ممن يملك الحماسة المتدفقة والحركة الدائبة والأريحية المتوهجة مع كثرة السواد وتزاحم الرؤوس والأقدام. والذي يحدث دائماً هو أن كل القاعدين وكل أولئك الذين يحبون أن يروا الآخرين يعملون – دون أن يعملوا هم شيئاً- يتجهون إلى ذلك الشخص النبيل النشط المتحرك؛ فيلقون عليه المزيد المزيد من المهمات والمسؤوليات، وهو لشهامته يتقبل، ويعد ويحاول ... ولكن بما أن لكل شيء طاقة تحمَّل فإن الناس يبدؤون بملاحظة الفوضى والتقصير في عمله وتبدأ سهام النقد بتناوشه... وسبب ذلك يعود إلى عدم إدراكه وإدراكهم أن الكم في نهاية المطاف لا يكون إلا على حساب الكيف.

4- تشعر الولايات المتحدة الأمريكية أنها الدولة الأولى في العالم على المستوى التقني والاقتصادي والعسكري، وليس هناك من ينازعها في هذا. وهذا الشعور جعلها توسع مجالها الحيوي ليصبح من غير حدود؛ فالعالم امتداد طبيعي لمزرعة (بوش) في تكساس. ويشعر اليهود أنهم يشكلون الأقلية الساحقة على مستوى العالم، ويكفي أنهم مسيطرون على آلية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة ونحن أيضاً لا نرتاب في ذلك. وصار اليهود من خلال تصرفاتهم وتصريحاتهم يرسلون رسائل للقاصي والداني بأنهم لا يأبهون لأحد، وليس من حق أحد أن يراجعهم في شيء. اليهود الأمريكيون يعتمدون في مواقفهم العالمية وفي حركتهم الكونية على ما لديهم صلات هيمنة بكل مراكز القرار في العالم وعلى ما لديهم من نفوذ إعلامي طاغٍ وشامل. لكن بما أن لكل شيء طاقة على التحمل؛ فإن العالم يكتشف الحقائق، وبدأ يتململ على نحو شديد التهذيب من الطغيان الأمريكي والإسرائيلي. وقد فجع اليهود بنتائج استطلاع الرأي الذي نظمه الاتحاد الأوروبي حول الدول الأشد خطورة على السلام العالمي، وقد ذكر الأوروبيون في ذلك الاستطلاع أن (إسرائيل) هي الدولة الأخطر على أمن العالم، تليها حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل اتخاذ إسبانيا قرار سحب قواتها من العراق في أسرع وقت ممكن يشكل الصدمة الثانية لأمريكا والمؤشر الأخير في سباق المؤشرات الدالة على أن أمريكا واليهود قد حملوا نفوذهم المالي والإعلامي والسياسي ما لا يحتمل من الجرائم والوقاحات؛ ولذا فإنها بدأوا يحسرون توظيفات ذلك النفوذ على نحو تدريجي.

5- كثيراً ما شاهدنا صداقات تتصدع وتضمحل، وكثيراً ما شاهدنا الأقرباء وقد فشت فيهم النزاعات والأحقاد والبغضاء. وكثيراً ما يكون السبب في كل ذلك هو أن الناس حمّلوا الصداقات والقرابات ما لا تحتمل من التبعات والتكاليف. نحن جميعاً ندرك ونقر أن للقريب حقوقاً وأن للصديق أيضاً حقوقاً؛ لكن الذي يحدث أننا نفاجأ بأن أقرباءنا وأصدقاءنا يريدون من الحقوق والمساعدات ما يتجاوز كثيراً توقعاتنا وأحياناً طاقاتنا. وهنا تبدأ المشكلة، حيث الاتهام بالتقصير من جانب والاعتذار والتنصل والتهرب والابتعاد من الجانب الآخر. إن ما بين الناس من ود ومشاعر طيبة، وما بينهم من قرابة ورحم يتحمل – ولا شك- طلب المعونة والخدمة، ولكن ليس من غير حدود. إن العلاقات تدوم وتدوم إذا قامت على قدر جيد من التكافؤ والندية، فإذا تحولت إلى علاقات لانتفاع أحد الأطراف واستغلالها من قبله؛ فأنها تنهار، وقد تنقلب إلى عداوة مستحكمة. إن كل صديق وكل قريب يقدم لأصدقائه وأقربائه شيئاً ما وينتظر منهم شيئاً؛ ومن المهم ألا ينتظر أكثر مما قدم إذا ما أراد للمودة أن تستمر.
إن الدرس الذي نخرج به من كل ما ذكر هو ألا نعلَّق توازننا العام ولا مستقبلنا ولا صلاح شؤوننا على شيء وحيد وفريد، حتى لا ينهار ذلك الشيء في نهاية الأمر، ونشعر أننا خُذلنا في ساعة كنا أحوج ما نكون فيها إلى المعونة والمؤازرة. والله مولانا .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالكريم بكار
  • مقالات
  • إشراقات قرآنية
  • الصفحة الرئيسية