|
|
شرح أحاديث عمدة
الأحكام
شرح الحديث الـ 202 في الاقتصاد في
الطاعة |
|
عبد الرحمن بن عبد الله
السحيم |
شرح الحديث الـ 202
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ :
أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَقُولُ : وَاَللَّهِ
لأَصُومَنَّ النَّهَارَ , وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ . فَقَالَ له
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أنت الذي تقول ذلك ؟ فَقُلْتُ لَهُ :
قَدْ قُلْتُهُ , بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي . فَقَالَ : فَإِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ
ذَلِكَ . فَصُمْ وَأَفْطِرْ , وَقُمْ وَنَمْ . وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا . وَذَلِكَ مِثْلُ
صِيَامِ الدَّهْرِ . قُلْتُ : فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ :
فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ . قُلْتُ : أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ
. قَالَ : فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْما . فَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ دَاوُد
عليه الصلاة والسلام . وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ . فَقُلْتُ : إنِّي أُطِيقُ
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد – شَطْرَ الدَّهْرِ –
صُمْ يَوْما وَأَفْطِرْ يَوْما .
وعَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ أَحَبَّ
الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد . وَأَحَبَّ الصَّلاةِ إلَى اللَّهِ
صَلاةُ دَاوُد . كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ , وَيَقُومُ ثُلُثَهُ .
وَيَنَامُ سُدُسَهُ . وَكَانَ يَصُومُ يَوْما وَيُفْطِرُ يَوْما .
فيه مسائل :
1 = " : أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ " : فيه مسائل :
أ – جواز الإخبار باسم الشخص عند الاستفتاء .
ب – جواز شكاية مَن خالف السنة ، ورفع أمره إلى من بيده إصلاحه ، وليس هذا من
النميمة ، ونقل الكلام المذموم .
جـ - في هذه الرواية " أُخْبِرَ " ، وفي روايات أن الذي أخبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم بذلك هو عمرو بن العاص والد عبد الله .
د – سبب شكاية عمرو لابنه : أنه زوّجه امرأة مِن قريش ، فلم يكن يلتفت إليها
لقوّته على العبادة !
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : أنكحني أبي امرأة ذات حسب ، فكان يتعاهد
كَنَّتَهُ فيسألها عن بعلها ، فتقول : نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ، ولم
يَفْتش لنا كَنَفاً مذ أتيناه ! فلما طال ذلك عليه ذَكَر للنبي صلى الله عليه
وسلم فقال : القني به . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية قال رضي الله عنه : زوّجني أبي امرأة من قريش ، فلما دخلت على جعلت
لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة ، فجاء عمرو بن
العاص إلى كَـنَّـتَه حتى دخل عليها ، فقال لها : كيف وَجَدْتِ بَعْلك ؟ قالت :
خير الرجال - أوْ كَخَير البعولة - مِنْ رجل لم يَفْتِش لنا كَنَفًا ، ولم
يَعْرف لنا فِرَاشا ، فأقبل عليّ فَعذلني وعضّني بِلِسَانِه ، فقال : أنكحتك
امرأة من قريش ذات حسب فَعَضَلْتَها وفَعَلْتَ وفَعَلْتَ ، ثم انطلق إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فشكاني ، فأرسل إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته ...
الحديث . رواه الإمام أحمد .
ومعنى ( عضّني ) أي شدّد علي القول .
2 = لا تعارُض بين هذه الروايات وبين رواية " بَلَغ النبي صلى الله عليه وسلم
أني أسرد الصوم وأصلي الليل ، فإما أرسل إليّ ، وإما لقيته ... " ؛ لأن بلوغ
الخبر في سرد الصوم وصلاة الليل هو سبب شكايته !
ويُحتَمل أن يكون أن النبي صلى الله عليه وسلم أُخْبِر ، ثم جاء والده يشكوه .
3 = كراهية سرد الصوم لِمَا فيه مِن الملال ، ولِمَا يترتّب عليه من تفويت بعض
الحقوق .
وهذا ما حدث لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعدما كبُر .
قال عبد الله : فليتني قَبِلْتُ رُخْصَة رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه
البخاري ومسلم .
وسبب قوله هذه أنه كَرِه أن يُغيِّر من أمْر الْتَزَمه أمام رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وكراهية ترك ما لَزِمَه وداوم .
وليس معنى ذلك أنه أوْجَبه على نفسه .
4 = " وَاَللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ , وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ
" هذا يمين ، وهو في معنى النذر ، ولم يُنْه عنه ؛ لأن المراد منه التبرُّر .
ولم يُذكر أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة ؛ فإما أن يكون ما خرج عن حدّ
يمينه ؛ لأنه سيصوم صيام داود ، وهو في معنى صيام الدهر وأكثر ؛ لأن من صام
ثلاثة أيام من كل شهر ، فكأنما صام الدهر .
وكذلك بالنسبة للقيام .
وإما أن يكون أُمِر بالكفارة ، ولم يُنقل لخصوص الأمر بِصاحبه .
5 = قوله عليه الصلاة والسلام : " أنت الذي قلتَ ذلك ؟ " فيه : التثبّت والسؤال
عما يُنقَل قبل العِتاب .
6 = قوله عليه الصلاة والسلام : " "فإنك لا تستطيع ذلك " : محمول على الدوام
وما يُفضي إليه إذا كبُر .
أو أنه محمول على أنه لا يستطيع ذلك مع أداء الحقوق الواجبة عليه .
ولذلك قال له عليه الصلاة والسلام : فإن لزوجك عليك حقا ، ولِزَوْرِك عليك حقا
، ولجسدك عليك حقا .
7 = " فَصُمْ وَأَفْطِرْ , وَقُمْ وَنَمْ " موازنة الإسلام بين حاجات الجسد
وحاجات الروح ، والاعتدال في أداء الحقوق .
8 = فيه الأدب في مراجعة الْمربِّي والعالِم والكبير ، " فإني أُطِيق أكثر من
ذلك " .
9 = " لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أَخِي دَاوُد " : فيه الاقتداء بالأبياء
والصالحين ، كما قال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهِ) .
10 = بيان أفضل الصيام لِمن أطاقه ، وهو صوم نبي الله داود عليه الصلاة والسلام
.
ولا تعارض بين هذا التفضيل مع تفضيل صيام شهر االله الْمُحرَّم .
قال المناوي : وتفضيل صوم داود باعتبار الطريقة وهذا [صيام شهر محرّم ] باعتبار
الزمن . اهـ .
11 = " وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ
أَمْثَالِهَا . وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ " سيأتي في حديث أبي هريرة
رضي الله عنه الوصية بِصيام ثلاثة أيام من كل شهر .
12 = الحديث في الأصل أطول من هذا ، وفيه : الأمر بقيام بعض الليل لا كلّه ،
وفيه الأمر بقراءة القرآن كل سبعة أو كل ثلاثة أيام .
قال البخاري رحمه الله عن مسألة القراءة والْخَتْمة : وقال بعضهم في ثلاث ، وفي
خمس ، وأكثرهم على سَبْع .
13 = مَن فُتِح عليه في عبادة أو في عِلْم أو في عمل خير ، فلا يُنكَر عليه ما
لم يُخالِف السنة ، ولا يُصْرَف إلى غيره .
وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مثال على ذلك ، فقد فُتِح له في العبادة أكثر
من غيرها ، مما جعله ينصرف عن العِلْم إلى العبادة أكثر .
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد
أكثر حديثًا عنه مِنِّي إلاَّ ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يَكتب ولا
أَكْتُب . رواه البخاري .
وكَتَبَ عبد الله بن عبد العزيز العُمَريّ العابد إلى الإمام مالك يحضُّه إلى
الانفراد والعمل ، ويَرْغَب به عن الاجتماع إليه في العِلْم ، فكتب إليه مالك :
إن الله عز وجل قَسَم الأعمال كما قَسَم الأرزاق ، فَرُبّ رَجُلٍ فُتِح له في
الصلاة ولم يُفتح له في الصوم ، وآخر فُتِح له في الصدقة ولم يُفتح له في
الصيام ، وآخر فُتِح له في الجهاد ولم يُفتح له في الصلاة ، ونشر العلم وتعليمه
من أفضل أعمال البر ، وقد رضيت بما فُتِحَ الله لي فيه من ذلك ، وما أظن ما أنا
فيه بدون ما أنت فيه ، وأرجو أن يكون كلانا على خير ، ويجب على كل واحد منا أن
يرضى بما قُسِمَ له ، والسلام .
14 = فيه تفقّد الإمام رعيته , وتفقّد الرجل أصحابه .
15 = تفقّد الرجل لِحال ابنه ، والسؤال عن أحواله على سبيل الإصلاح ، لا على
سبيل الفضول والإفساد ! وهو التدخّل في خصوصيات حياتهم .
ولهذا السؤال والتفقّد أصل في عَمَل الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع
ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، وخبره في صحيح البخاري .
16 = ترتيب الأولويات :
قال ابن حجر : الأولى في العبادة تقديم الواجبات على المندوبات ، وأن مَن
تَكَلَّف الزيادة على ما طُبِع عليه يَقَع له الخلل في الغالب .
17 = الأمر بالاقتصاد في العبادة ، وكراهية التشديد على النفس .
قال عليه الصلاة والسلام : والقصد القصد تبلغوا . رواه البخاري .
18 = الإشارة إلى المداومة على العمل ، وإن قَـلّ . وهذا كان هديه عليه الصلاة
والسلام ، كما قالت عائشة رضي الله عنها ، وقد تقدّم هذا .
وأن قليل دائم خير من كثير مُنقطِع .
18 = العِبْرَة بِحُسن العمل وموافقته للسنة ، وليست العِبرة بِكثرة العمل .
قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً) قال الفضيل بن عياض : هو أخلص العمل وأصوبه ، قالوا : يا أبا
علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يُقْبَل
، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقْبَل ، حتى يكون خالصا وصوابا ، فالخالص
أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .
19= " إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد " فيه فوائد :
أ – إثبات صِفة الحبّ لله عزّ وجلّ .
ب – عِظَم أجْر مَن صام يوما وأفطر يوما ، وأن ذلك ليس من التشدّد .
جـ - فضْل هذه العبادات ، فيما يتعلّق بالطاعات اللازمة ، فيما بينها مِن
تفاضُل .
د – تفاضل الأعمال .
20 = " صُم يوما وأفطر يوما " إذا وافَق يوم عيد فإنه يَحرُم صيامه ، ولا يحرم
صيام يوم السبت ولا يوم الجمعة مُفْرَدًا ، وسيأتي مزيد بيان – إن شاء الله –
في الأحاديث التالية عن الأيام التي نُهي عن صيامها .
وبالله تعالى التوفيق .
|
|
|
|
|