صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







والله لا يغفر الله لفلان

    اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد :
فقد كَثُر الكلام حول التكفير ، ولُـحِظ المسارعة فيه ، والْجُرأة عليه ، ولما كان هذا المهيع دحض مزلّـة ، وهالَني أنني جَلَستُ إلى شاب يدرس في المرحلة الثانوية ، زاده من العلم : قِيل وقال ! ولا يَظهر عليه أثر عِلم ولا الْتِزام سُـنّـة ؛ رأيته يخوض في مثل هذه المسائل التي لو عُرِضتْ على عُمر لَجَمع لها أهل بدر !

لما رأيت الأمر كذلك ، رأيت أن أكتب في هذه المسألة مع قِصَر الباع ، غير أني مَددتُ ذراعي إلى أُولي الأيدي والأبصار لتصحيح ما كَبَا فيه كاتبه ، أو ردّ ما ندّ عن جادة الصواب .

فأقول مُستعينا بالله :

روى الإمام مسلم عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث أن رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان ، وإن الله تعالى قال : من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان ، فإني قد غفرت لفلان ، وأحبطت عملك .

ربما نتعاظم جميعا ما قاله ذلك الرجل !
ونتساءل :

من يستطيع أن يقول كما قال ذلك الرجل ؟
ومن يستطيع أن يُحجِّر واسعاً ؟
أو يحكم على مسلم بالخلود في النار ؟

أقول : مَن يحمل راية التكفير الواسعة يستطيع أن يقول ذلك ، بل لا بُـدّ أن يقول ذلك !

ومن يجرؤ على التكفير أو يتساهل في أمره فهو واقع في ذلك لا محالة !

وكيف ذلك ؟

إذا حكم على مُعيّن بأنه كافر فقد حكم بأن الله لا يغفر له ، وقد قال بلسان حاله – إن لم يكن بلسان مقاله - : والله لا يغفر الله لفلان !

وهذا أمر بالغ الخطورة

ولذا قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله :
ولا نُكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه ، ولا نقول لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله .

وشرح هذا القول ابن أبي العز بكلام نفيس في شرح الطحاوية أسوقه بطوله لنفاسته ، وشدّة الحاجة إليه في زماننا

قال رحمه الله في شرح قول الطحاوي المتقدِّم :
أراد بأهل القبلة الذين تقدّم ذكرهم في قوله : " ونُسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين " يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب .
واعلم - رحمك الله وإيانا - أن باب التكفير وعدم التكفير ، باب عظُمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثُر فيه الافتراق ، وتشتتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضت فيه دلائلهم ، فالناس فيه في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم - على طرفين ووسط - من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية .
فطائفة تقول : لا نكفِّر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عاما ، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع ، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يُمكنهم ، وهم يتظاهرون بالشهادتين ، وأيضا فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا ، والنفاق والردّة مظنتها البدع والفجور ، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال : إن أسرع الناس ردّة أهل الأهواء ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب ، بل يُقال لا نكفِّرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج ، وفرق بين النفي العام ونفي العموم ، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يُكفِّرون بكل ذنب ، ولهذا - والله اعلم - قيده الشيخ رحمه الله بقوله : ما لم يستحلّه . وفي قوله : " ما لم يستحلّه " إشارة الى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية ، وفيه إشكال ، فإن الشارع لم يَكْتَفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرّد العلم دون العمل ، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع إلا أن يُضمَّن قوله " يستحله " بمعنى يعتقده أو نحو ذلك .
وقوله : ولا نقول لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله - إلى آخر كلامه - رد على المرجئة ، فإنهم يقولون : لا يضرّ مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، فهؤلاء في طرف ، والخوارج في طرف ، فإنهم يقولون : نُكفر المسلم بكل ذنب ، أو بكل ذنب كبير ، وكذلك المعتزلة الذين يقولون : يَحبط إيمانه كله بالكبيرة ، فلا يبقى معه شيء من الإيمان ، لكن الخوارج يقولون : يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر ، والمعتزلة يقولون : يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، وهذه المنزلة بين المنزلتين ! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار ! وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأوِّلا فيقولون : يَكفر كل من قال هذا القول ، لا يُفرّقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، أو يقولون : يَكفر كل مبتدع ، وهؤلاء يَدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة ، فإن النصوص المتواترة قد دلّت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تُعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك ، والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه ، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ : " وأهل الكبائر في النار لا يُخلّدون إذا ماتوا وهم موحدون "
والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا ، لكن تأوّل تأويلا أخطأ فيه ، إما مجتهدا ، وإما مفرطا مذنبا ، فلا يقال : إن إيمانه حَبِط لمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ، أو إثبات ما نفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمرَ به يُقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلّت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويُقال : من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يُذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال ، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن ، وأن الله لا يُرى في الآخرة ، ولا يَعلم الأشياء قبل وقوعها ، وعن أبي يوسف رحمة الله أنه قال : ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر .
وأما الشخص المعيّن إذا قيل : هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر ؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة ، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معيّن أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت
، ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب باب النهي عن البغي ، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يُذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصِر ، فوجده يوما على ذنب ، فقال له : أقْصِر ، فقال : خلني وربي ، أبُعثت عليّ رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الله الجنة ، فَقَبَضَ أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما ؟ أو كنت على ما في يدي قادرا ؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار . قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبَقَتْ دنياه وآخرته ، وهو حديث حسن .
ولأن الشخص المعيّن يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له ، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر للذي قال : إذا متّ فاسحقوني ، ثم اذروني ، ثم غفر الله له لخشيته ، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته ، أو شك في ذلك ، لكن هذا التوقّف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته ، وأن نستتيبه ، فإن تاب وإلا قتلناه .
ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل : إنه كفر ، والقائل له يَكْفر بشروط وانتفاء موانع ، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقا زنديقا ، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقا زنديقا ، وكتاب الله يبين ذلك ، فإن الله صنّف الخلق فيه ثلاثة أصناف :
صنف كفار من المشركين ومن أهل الكتاب ، وهم الذين لا يُقرّون بالشهادتين .
وصنف المؤمنون باطنا وظاهرا .
وصنف أقرّوا به ظاهرا لا باطنا .
وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة ، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر ، وكان مُقرّاً بالشهادتين فإنه لا يكون إلا زنديقا ، والزنديق هو المنافق .
وهنا يظهر غلط الطرفين ، فإنه من كَفّر كل من قال القول المبتدع في الباطن ، يلزمه أن يُكفِّر أقواما ليسوا في الباطن منافقين ، بل هم في الباطن يُحبّون الله ورسوله ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر أن رجلا كان على عهد النبي كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا ، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله قد جلده في الشَّراب ، فأُتيَ به يوماً ، فأمر به فجُلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ! ما أكثر ما يؤتى به ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تلعنوه ، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله .
وهذا أمر متيقّن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدّين ، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدِّين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة بل بفرع منها ، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير .
فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يُكفِّرون .
ولكن بقي هنا إشكال يَرِد على كلام الشيخ رحمه الله ، وهو أن الشارع قد سمّى بعض الذنوب كفرا ، قال الله : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )

وقال صلى الله عليه وسلم : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر . متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
وقال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .
و " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " . متفق عليهما من حديث ابن عمرو رضي الله عنه .
وقال : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر . متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد .
وقال صلى الله عليه وسلم : بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة . رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلم : من أتى كاهنا فصدّقه ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد كفر بما أُنزل على محمد .
وقال صلى الله عليه وسلم : من حلف بغير الله فقد كفر . رواه الحاكم بهذا اللفظ .
وقال : ثنتان في أمتي بهم كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت .
ونظائر ذلك كثيرة .
والجواب : أن أهل السنة متّفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يَكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية ، كما قالت الخوارج ، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملّة لكان مرتداً يُقتل على كل حال ، ولا يُقبل عفو ولي القصاص ، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر ، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام .
ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ، ولا يدخل في الكفر ، ولا يستحق الخلود مع الكافرين ، كما قالت المعتزلة ، فإن قولهم باطل أيضا .
إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى )
إلى أن قال : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ )
فلم يُخرج القاتل من الذين آمنوا ، وجعله أخاً لولي القصاص ، والمراد أخوّة الدين بلا ريب .
وقال تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) إلى أن قال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ )
ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يُقتل بل يُقام عليه الحد ، فدلّ على أنه ليس بمرتد .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فطُرحت عليه ، ثم ألقي في النار .
فثبت أن الظالم يكون له حسنات يَستوفي المظلوم منها حقه ، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما تعدّون المفلس فيكم ؟ قالوا : المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار . قال : المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال ، فيأتي وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، فيَقتص هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا فَنِيَتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ، ثم طُرح في النار . رواه مسلم .
وقد قال تعالى : ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ )
فدلّ ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته ، وهذا مبسوط في موضعه .
والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلّد في النار ، لكن قالت الخوارج : نُسميه كافرا ، وقالت المعتزلة : نُسميه فاسقا ، فالخلاف بينهم لفظي فقط .

وأهل السنة أيضا متّفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب ، كما وردت به النصوص ، لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضرّ مع الإيمان ذنب ، ولا ينفع مع الكفر طاعة .
وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تَبيّن لك فساد القولين ، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى .

ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافا لفظيا لا يترتب عليه فساد .
وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب كفراً دون كفر ؟
كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب إيماناً دون إيمان ؟
وهذا الاختلاف نشا من اختلافهم في مسمى الإيمان هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافرا ، إذ من الممتنع أن يُسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ، ويُسمي رسوله - من تقدّم ذكره - كافراً ، ولا نُطلق عليهما اسم الكفر .
ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال هو كفر عملي لا اعتقادي ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده .
ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان قال : هو كفر مجازي غير حقيقي ! إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة ، وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان كقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )
أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، إنها سميت إيمانا مجازا لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالّة على كون مؤدّيها مؤمنا ، ولهذا يُحكم بإسلام الكافر إذا صلّى صلاتنا .
فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مُقرّين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد ، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة .
ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادّهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه ، وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف ؟
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) .

وهنا أمر يجب أن يُتفطن له ، وهو :
أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة .
وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة .
ويكون كفراً إما مجازيا ، وإما كفراً أصغر على القولين المذكورين .
وذلك بحسب حال الحاكم :
فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر .
وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ويسمى كافراً كفرا مجازيا أو كفراً أصغر .
وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور .
وأراد الشيخ رحمه الله بقوله : " ولا نقول لا يضرّ مع الإيمان ذنب لمن عمله " مخالفة المرجئة ، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك ، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة وتأوّلوا قوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ )
فلما ذَكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جُلدوا ، وإن اصرّوا على استحلالها قُتلوا ، وقال عمر لقدامة : أخطأتْ استك الحفرة ! أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر ، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرّم الخمر ، وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، فقال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يُحرّم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين ، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس ، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك يُذمّون على أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة ، فكتب عمر إلى قدامة يقول له : ( حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ )
ما أدري أي ذنبيك أعظم ؛ استحلالك المحرّم أولاً ، أم يأسك من رحمة الله ثانيا ؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام .
انتهى كلام ابن أبي العز رحمه الله بطوله .


وبعد هذا لا يُظنّ أنني أُدافع عن أئمة الكفر
ولا أُنافح عن أهل الظلم والجور
فلكل نظام وزارة أعلام !

ولا أقصد الذين بدّلوا نعمة الله كفرا ، وبدّلوا شرعه دساتير من زبالة أفكار الغرب
ولا أعني الذين يُوالون الكفّار جملة وتفصيلا .

ولكنني أردت وضع الأمور في مواضعها ، وتبيان بعض الحق في هذه المسألة التي زلّت بها أقدام
وهي مزلق كبير ، ومنعطف خطير
وزلّة القدم في مسائل المعتقد ربما أخرجت صاحبها من دين الإسلام .

وفرق بين أن يتحدّث الشخص في مسألة يُقال له إذا جانب الصواب : أخطأت
وبين أن يتكلّم في مسألة إذا جانب الصواب فيها يُقال له : كفرت

ولكي يُعلم خطورة هذا المزلق - وهو المسارعة في تكفير المعيّن - أسوق قوله عليه الصلاة والسلام في التحذير من التكفير
قال عليه الصلاة والسلام : أيما امرئ قال لأخيه : يا كافر ؛ فقد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : إذا كفّر الرجل أخاه ، فقد باء بها أحدهما .

أُخيّ :
لن تُسأل في قبرك إلا عن هذا الرجل الذي بُعث فيكم . ما تقول فيه ؟
ويوم القيامة تُسأل في خاصة نفسك وعن من ولاّك الله عليهم

فدع عنك هذا الأمر فالسلامة لا يعدلها شيء
إن الأنبياء يأتون يوم القيامة وكل يقول : نفسي نفسي !
بل كل نبي إذا أتته الخلائق للشفاعة لهم قال : نفسي ، ثم ذكر ذنبه ، إلا عيسى لا يذكر ذنبا ، ثم يُحيل الخلائق على سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام .

هل تأملت هذا ؟!
هذا وهم أنبياء يُلقون باللائمة على أنفسهم وينظرون في ذنوب أنفسهم
فهل نظرنا في ذنوبنا وعيوبنا قبل عيوب غيرنا ؟!

وكلك عورات وللناس ألسنُ


وثمة شُبهات يستمسك بها الجُرءاء على التكفير ، منها :

1 - استدلالهم بقوله تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ )
فيستدلّون بهذه الآية على كُفر جنوده الحاكم وأتباعه بعد أن يُكفّروا الحاكم .
وهذا خطأ من وجوه :

الوجه الأول : أن كُفر فرعون كان كفراً أصلياً ، بخلاف المسلم الذي يكفر فله أحكامه في الشريعة المختلفة عن حُكم الكافر الأصلي ، وهي أحكام المرتد .

الوجه الثاني : أصعب في الحُـكم عليه .
فالكافر الأصلي يجب أن لا يختلف في كُفره اثنان
بينما المرتد اختلف في حكمه خيار هذه الأمة بعد نبيِّها عليه الصلاة والسلام .

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب . قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم منِّي ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عِقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر بن الخطاب : فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .

لو كان كفر المرتد واضحاً بيِّنا لما اختلف فيهم خيار هذه لأمة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم .

أما لماذا ؟

فلأن الإسلام عنده يقين ، فلا يُخرج من هذا اليقين بشبهة أو شكّ
فاليقين لا يزول بالشكّ .

ولا أعني أيضا عدم كُفر المعيّن ، إلا أن الحُكم على مُعيّن بالكفر وأن الله لا يغفر له من الصعوبة بمكان .

2 – نظرهم إلى بعض القوانين والأنظمة المستوردة من الغرب
فأقول : ليس كل نظام يُعتبر كُفرا

فالقوانين والأنظمة المتعلقة بحياة الناس تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم يوافق الشريعة ، فلا إشكال فيه .
وقسم يُخالف الشريعة ، وهذا محل النظر .
وقسم لا يُخالف ولا يُوافق ، فهذا تقوم به مصالح الناس دون الإضرار بهم ، كأنظمة المرور ونحوها .

وأما ما يُخالف الشريعة – ويضربون لذلك مثلاً بالمُحاكمات العسكرية – فأقول :
ليس كل حاكم خالف حُكما شرعيا يكون به كافراً ، وقد تقدّم تفصيل ذلك في كلام ابن أبي العز رحمه الله .

فلو علِم الحاكم حكم الله ثم عدل عنه في قضية أو في مسألة فلا يكون كافرا كفرا يُخرج عن الملّة .

أرأيت إلى القاضي الذي يعلم بحكم الله عز وجل ثم يعدل عنه في قضية أو في مسألة محاباة لشخص أو خوفا من آخر ، هل تُراه يكفر بهذا الفعل ؟

الجواب : لا

وإن كان هذا الحكم الذي حكم به ليس هو حكم الله في تلك المسألة .
وإن كان يدخل في الكفر الأصغر ، إلا أنه لا يُخرجه ذلك عن الملّة .

بل أرأيت حكم القبائل التي تتحاكم إلى شرع الله ثم تعدل عنه في قضية من القضايا إلى عاداتها وأعرافها ، هل يُحكم بكفر القبيلة بأسرِها ؟

الجواب : لا ، وإن كان يدخل في الكفر الأصغر أيضا .

بل أرأيت الرجل يتقدّم إليه الخاطب الذي لا يُرتضى دينه ولا خلقه ، بل قد يكون زانيا ، فيُزوّجه ويُعرض عن حكم الله في هذه المسالة ( الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً )
فهل يُحكم بكفره وخروجه عن ملّة الإسلام ؟

الجواب : لا ، بل يُحكم بأنه وقع في الشرك الأصغر ، والشرك الأصغر أكبر من الكبائر ، كما يُقرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .

هل تستطيع أن تحكم لهؤلاء بالكفر ثم بالخلود في النار ؟!

وهذا على سبيل المثال ، وعلى هذا فـ قِس .

وخذ على سبيل المثال :
الحجاج بن يوسف الثقفي ، وما اشتُهر عنه من سفك الدماء بل سفَكَ دماء بعض الصحابة والعلماء ، كابن الزبير رضي الله عنه وسعيد بن جبير رحمه الله .

وهذه القضية قضية الدماء كان يعدل فيها عن شرع الله إلى رأيه وجبروته وبطشه .
والصحابة مُتوافرون ، ومع ذلك لم يَحكموا بكفره ، وإن سمّوه ظالما ، أو قالوا عنه : خبيثاً ، ونحو ذلك ، إلا أنهم لم يُكفِّروه .

ليُعلم أنه ليس كل من فعل الكفر يُعتبر كافرا
ولا كل من فعل بدعة يُعتبر مُبتدعاً

فمعاذ رضي الله عنه لما رأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها رأى في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ أن يُعظّم فلما قدم قال : يا رسول الله رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها ، فرأيت في نفسي أنك أحق أن تعظم ، فقال : لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها . رواه الإمام أحمد .
وفي رواية : فلما قدم معاذ سجد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكر ذلك .

ومثله قصة الرجل الإسرائيلي الذي ظنّ أن الله لا يقدر عليه
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان رجل يُسرف على نفسه ، فلما حضره الموت قال لبنيه : إذا أنا متّ فأحرقوني ، ثم اطحنوني ، ثم ذروني في الريح ، فوالله لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا ، فلما مات فُعل به ذلك ، فأمر الله الأرض فقال : اجمعي ما فيك منه ، ففعلت ، فإذا هو قائم ، فقال : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رب خَشْيَتك ، فغفر له .

فهذه من أفعال الكفار واعتقاداتهم ، ولكن منع مانع من كُفرهم .

وهذا يؤكِّد هذه القاعدة : ليس كل من فعل الكفر يُعتبر كافراً .

3 - التكفير بموالاة الكفّار ، فيقولون : الحاكم الفلاني أعان الكفّار وهذا من اتِّخاذ الكفار أولياء ، والله عز وجل قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )

فهم قد غفلوا عن قوله سبحانه وتعالى : ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )

فالله عز وجل أمر بالإحسان إلى طائفة من الكفّار .

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي بقوله : إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه . رواه البيهقي .
وقبل منه الهدية ، وذلك قبل إسلام النجاشي .

وغفلوا عن قوله تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )

فسماهم ظالمين .
قال ابن جرير رحمه الله في قوله تعالى : ( فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) يقول فالذين يفعلون ذلك منكم هم الذين خالفوا أمر الله فوضعوا الولاية في غير موضعها وعصوا الله في أمره .

كما غفلوا عن فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه يوم فتح مكة
فإنه بعث كتاباً لأهل مكة يُخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فبعث النبي من أتى بالكتاب ، فقال عمر : يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ما صنعت ؟ قال حاطب : والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم . أردت أن يكون لي عند القوم يَـدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، ولا تقولوا له إلا خيرا ، فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه ! فقال : أليس من أهل بدر ؟ فقال : لعل الله أطّلع إلى أهل بدر فقال أعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم ، فدمعت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم . رواه البخاري ومسلم .

فأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعاجله بالحكم بمجرّد فعل الكفر بل سأله :

ما حملك على ما صنعت ؟

فأجاب حاطب بعذره .
فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم ، ودرأ عنه الكُفر .

فهل سألنا من وقعت منه الموالاة : ما حملك على ما صنعت ؟!

وهنا أسأل من يُسارع إلى التكفير :

هل فعل حاطب هذا من موالاة الكفّار أو لا ؟
وهل هو دلالة للكفار على عورات المسلمين ؟
وهل فيه إفشاء سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للكفّـار ؟
وهل فيه مظاهرة ومعاونة لهم على المسلمين أو لا ؟

الجواب :
كل ذلك موجود في فعله ، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُكفِّره بل سأله واستوضح منه الأمر ، فيدلّ هذا دلالة واضحة على أن الأمر يحتمل .
ويدلّ أيضا على أنه ليس كل من فعل الكفر يُعتبر كافراً ، وإلا لحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفره .

بل إن الله تبارك وتعالى سمّى فعل حاطب موالاة ، ومع ذلك لم يُحكم بكفره .
قال سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ )

والأدلة على هذا كثيرة

ومثله الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد اتق الله !
فَرَدّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ويلك ! أوَ لستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟
ثم ولّى الرجل ، فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟
قال : لا ، لعله أن يكون يصلي .
فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم . رواه البخاري ومسلم .

والذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما عَدَلْتَ !

ومع ذلك لم يُحكم بكفر هؤلاء جميعاً ولو فعلوا الكفر أو تلفّظوا به .

بل يَقُوم بالشخص ما يقوم من موانع أو تأويل أو خوف ونحو ذلك .
فلا بد من انتفاء الموانع ومن قيام الحجة على الشخص بنفسه .

وهم يُكفِّرون من وقف مع الكفار أو ساعدهم ، ويعتبرون هذا من الموالاة
ثم يحكمون بِرِدَّّة مَن فعل ذلك .

ولتحرير المسألة يجب ان نقف مع تعريف أهل العلم للولاء :

قال الدكتور محمد بن سعيد القحطاني في كتاب الولاء والبراء ( 89 – 91 ) :
الولاية : هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا .
قال تعالى : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )

فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الود لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا . اهـ .

ثم نقل عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
أن مسمى الموالاة ( لأعداء الله ) : يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات . اهـ .

وحريّ بكل من يُسارع في التكفير أن يعضّ على هذه الكلمات بالنواجذ .

فإذا عرفنا أن : الولاية : هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا .

تبيّن لنا أنه ليست كل نُصرة ولا كل محبة ولا كل إكرام أو احترام أو مدح أو ثناء على الكفار أنه يكون موالاة مُخرجة من الملة ناقلة عن الدِّين .
بل قد تكون مُباحة كما لو تزوّج المسلم كتابية ( نصرانية أو يهودية ) فأحبها حب الرجل لزوجته ، لكان هذا من الحب المباح .
ولو مدح المسلم الكفّار ببعض ما فيهم من الخصال لم يكن كافراً بذلك .
وتقدّم قول النبي صلى الله عليه وسلم في النجاشي .
وفي صحيح مسلم أن المستورد القرشي قال عند عمرو بن العاص : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تقوم الساعة والرّوم أكثر الناس . فقال له عمرو : أبصر ما تقول ؟ قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا : إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة ، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف ، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك .
فهذا من مدح النصارى بما فيهم ولا يكون من الموالاة المحرّمة فضلا عن أن تكون من الموالاة المخرجة عن الإسلام .

فلا بـدّ في الولاية لكي تكون مخرجة عن الإسلام من توافر أركان التعريف :
وهي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا .

بل ألا ترى إلى قول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لما اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه ، فقال قائل منهم : أين مالك بن الدخيشن أو بن الدخشن ؟ فقال بعضهم : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل ذلك ، ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله . قال : الله ورسوله أعلم . قال : فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله . رواه البخاري ومسلم .

وتقدّم فعل حاطب وأنه من جنس الموالاة ، وأن الله سماه موالاة ، ولكنها من جنس الموالاة المحرّمة لا المكفِّرة .

4 – تصريح الربا وتشريع أبواب البنوك الربوية ، وأن هذا من استحلال ما حرّم الله .

ويُردّ على هذا القول بأن فعل الإنسان للمعاصي والموبقات لا يُخرجه من الإسلام إلا باستحلالها ، وفرق بين العمل بها ، وبين استحلالها .
أليس صاحب بيت الدّعارة الذي فتح بيوت الخنا والفجور وقام عليها ودفع فيها مالَه بل وربما حرسها بـحرِّ مَالِه لا نستطيع أن نحكم بكفره ، وإن حكمنا عليه بالفسق والفجور ، وهو يفتح أبواب تلك البيوت ويحميها .
فالإذن بالربا كبيرة من كبائر الذنوب – ولا نهوّن من شأنها – ولكن فرق بين أن نقول كبيرة من كبائر الذنوب ، وبين أن نقول كفر بالله العظيم .

ولكي تتصوّر المسألة أكثر ، تصوّر قريبا لك فتح ملهى ليلي يتعاطى الناس فيه الفواحش والموبقات ؛ هل تحكم بكفره ؟

وأيهما أعظم فتح بنوك الربا وحمايتها ، أو حَمْل الناس عليها وعلى التعامل بها بالقوّة ؟

لقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول : من قال القرآن مخلوق فهو كافر .

ومع ذلك لم يُكفِّر المعتصم ولا كبير قُضاته ابن أبي دؤاد ، مع أنهم حملوا الناس على القول بتلك البدعة المكفِّرة ، وما سجنوا الإمام أحمد إلا ليقول بذلك القول ؟

فهذا القول كُفر ، وحماه المعتصم وتبنّـاه ، ونافح عنه كبير قُضاته ، ومع ذلك لم يُحكم بكفر المعتصم .

وهل يستطيع أحد اليوم أن يحكم بكفر المعتصم أو ابن أبي دؤاد ؟

فالمعتصم حَمَلَ الناس بقوّة السلطان على القول بتلك البدعة المكفِّرة .
ولو حَمَلَ الحاكمُ الناس على بدعة مكفِّرة لم يُحكم بكفره إذا كان عنده أصل الإسلام .
ولو حمل الناس على التعامل بالربا وألزمهم به لكان أهون مما لو فتح البنوك وحَرَسها وحماها .

والله يعلم أني أكره بيوت الربا وبنوكه كراهة شديدة ، إلا أن بيان الحق لا يعني حب الباطل .

5 – اللجوء إلى محكمة العدل الدّولية ، والانضمام إلى هيئة ألأمم وإلى مجلس الأمن ، وهم يحكمون بغير ما أنزل الله .

والجواب عن هذه الشُّبهة

أن يُقال : إنهم أُلجئوا إليها .
وهذا بخلاف من لجأ إليها ابتداء ورضي بها حَكَماً من دون الله .
ولعل قائلا يقول : وما الذي ألجأهم إليها ؟
أقول : كما تُلجئك أنظمة وقوانين البلاد الغربية على احترام أنظمتها عند دخولها بل وقبل دخولها !
وبعض من يحمل لواء التكفير أو قُل المسارعة فيه يعيش في بلاد الكفّار !
وهو مع ذلك يحترم أنظمة البلد وقوانينه .

فهل نحكم بكفره ؟

ولو أُقيمت ضدّه دعوى أو شكاه كافر إلى محاكم بلاده لاضطر إلى اللجوء إلى تلك المحاكم ، ولو لم يستجب سوف يؤخذ بقوّة القانون إلى محاكم تلك الدّول الكافرة .

فهل نحكم بكفره ؟

6 - تقسيم بعضهم الناس إلى فريقين : مؤمنين وكفّار ، والناس إما يوالون المؤمنين فهم منهم ، وإما يوالون الكفار فهم منهم .

وتقدّم التقسيم في كلام ابن أبي العز رحمه الله .

ونسي هؤلاء أن ثمة فريق ثالث ، وهم المنافقون

فـ " المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة " كما في صحيح مسلم .
وفي التنزيل مِن وصف المنافقين : ( وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ )

فهذا وصف المنافقين .
فهم قد يميلون للكفار خوف زوال مُلك ، وقد يُعينونهم في ظرف مُعيّن ، وقد يخذلون المؤمنين في زمن مُعيّن ، فيكونون كما وصف الله عز وجل : ( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ )

أي في ذلك الحال .

ومثله قوله تبارك وتعالى في وصف المنافقين : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ )

فوصفهم بأنهم مرضى قلوب ، ولم يصفهم بالكفر بالله عز وجل .

وهذا مما يغيب عن أذهان من يُسارعون إلى التكفير .

7 – قولهم : يجب تكفير من لم يحكم بما أنزل الله ، أو من والى الكفّار فيحملون الناس على ذلك ، من باب تحقيق التوحيد بالكفر بالطاغوت استدلالا بقوله تعالى :  ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا )

وهذا لا يصح استدلالهم به ، إلا بعد الرجوع لتفسير الاية للنظر في معنى الطاغوت حتى يُكفر به

قال ابن جرير رحمه الله – بعد أن ساق الأقوال في معنى الطاغوت – :
والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله فعُبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عَبَده ، وإما بطاعة ممن عبده له إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء . اهـ .

وقال الحافظ ابن كثير : أي مَن خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو . اهـ .

وقال ابن الجوزي رحمه الله :
والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال . ثم ساق الأقوال كما ساقها ابن جرير رحمه الله ، وليس فيها تكفير المرتد أو البراءة مِن الحـُـكّام !

وهذا يعني أن المسلم ليس مُلزما بتكفير مسلم كائنا من كان .

أما الكفّار فهو مُلزم بالبراءة منهم .

ولأن هذا الأمر – كما تقدّم – يختلف فيه كبار رجالات الأمة ، فكيف بغيرهم ؟
فلا يُكلّف الخلق الكفر بأمر مُشكل كهذا الأمر .
فإذا كان الخلاف في شأن المرتدين وقع بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فكيف بسائر الأمة ؟

فهل تُكلّف الأمة بالكفر بأمر يقع فيه الخلاف بين خيار رجالها ؟

هذه مِن شُبهات القوم ، وهذه بعض أجوبتها .. والله الهادي إلى سواء السبيل .


الدِّين النصيحة ..

وقد رأيت أن عامة من يخوض في مسائل التكفير مِمّن لم ترسخ أقدامهم في العِلم
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ ) قال : حلماء فقهاء .

قال الإمام البخاري رحمه الله : ويُقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره .
عن سعيد بن جبير رحمه الله قال : ( كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ ) قال : علماء فقهاء .

وقال سفيان بن عيينة : يُراد للعلم : الحفظ والعمل والاستماع والإنصات والنشر . اهـ .

وسؤال أُوجِّهه لكل جرئ على التكفير :

هل تعلّمت العلم حتى تُناقش في الأمور الكبار ؟
هل طلبت العلم ؟
هل جالست العلماء وثنيت ركبك عندهم ؟

إنه لا يتكلّم في أمور الطب ولا يصف الدواء إلا طبيب حاذق درس الطب ما يزيد على ست سنوات من عمره !
ولا يتكلّم في هندسة البناء إلا من أمضى قريبا من ذلك في دراسة هذا العلم

وقل مثل ذلك في سائل العلوم

بل إنك أنت لو مرض لك قريب أو مرضت أنت لما ذهبت إلى سبّاك أو نجّار ! لتبحث عنده عن الدواء !

ولو تعطّلت سيارتك لما ذهبت للمنجرة لإصلاح عطل سيارتك !

إذا ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )

وعلوم الشريعة يجب أن لا يتكلّم فيها إلا من درسها ومارسها
وليست علوم الشرع كلأ مباحاً لكل مُتعالم !

وقد قيل : لا تكن أبا شبر !

فمن هو أبو شبر ؟!
وما خبر الأشبار ؟!

قال الشيخ بكر أبو زيد في حلية طالب العلم وهو يذكر المحاذير في طريق طالب العلم :
احذر أن تكون أبا شبر !
فقد قيل : العلم ثلاثة أشبار
من دخل في الشبر الأول تكبّر
ومن دخل في الشبر الثاني تواضع
ومن دخل في الشبر الثالث علِم أنه ما يعلم

وإني لأحسب أن أبا شبر يشتغل بالتكفير !!

وهو لا يعلم أحكام المسح على الخفّين !!

وإن مما يُلحظ من بعض الشباب المتحمّس أنه يتحدّث في مسائل لو عُرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر !
يعني أن عمر رضي الله عنه لما تنزل به النازلة والمسألة الكبيرة ما كان يُفاخر بعلمه ولا يُكابر ولا يدّعي أنه أعلم أهل زمانه – ومن هو عمر ؟ -
وإنما كان يجمع لها كبار أصحابه ، حتى يجمع لها كبار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا غزوة بدر .

فما بال بعضنا يتجرّأ على مسائل كتلك المسائل ؟!

وربما يُقحم نفسه في مسائل يتورّع عن الخوض فيها بعض كبار العلماء – لا خوفا ولكن ورعا –

هل تعلم أن الإمام مالك - الذي كانت تُضرب إليه أكباد الإبل ، وتُقطع لأجله المسافات ، ويُتحمل لأجله عناء الأسفار – وهو الذي كان يُسمى إمام دار الهجرة ( يعني إمام المدينة )
وهو الذي كان كأنه السلطان في زمانه يأمر وينهى وتهابه الأمراء
بل لما رأى ما رأى من أحد العلماء - وهو لم يعرفه – أمر بسجنه فسُجن

ومع ذلك كان يُكثر أن يقول : لا أدري !

بل قيل عُرضت عليه أربعون مسألة أجاب عن ثمان مسائل ! وقال في الباقي : لا أدري !

فهل قلت في يوم من الأيام : لا أدري !

إن من أغفل وترك ( لا أدري ) أصيبت مقاتله
ومن ترك ( لا أدري ) قال على الله بغير علم
ومن تجرأ على القول على الله قال على الله بغير علم

فأقِـلّ - أُخيّ – من القول على الله

لأن من قال بكل مسألة أخطأ ولا بُـدّ
ومن تكلّم بكل ما علِم وقع في القول على الله بغير علم الذي هو قرين الشرك بالله
قال الله عز وجل : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )

ولا بد من احترام العلماء وأهل العلم الذين أمضوا أعمارهم في دراسته وممارسته ، ولو أخطأوا .

فانظر في سيئاته تجد أنها تنغمر في بحور حسناته .

وانظر إلى أثر ذلك العالم في الأمة

ثم انظر إلى أثرك وماذا قدّمت – أنت – للأمـة ؟!

قدّم عمره في مدارسة العلم وتدريسه
وقدّمنا – نحن – الكلام في عرضه !
قدّم جهده ووقته
وقدمنا له الطعن

وهل هناك أحد بعد الأنبياء يخلو من الخطأ

من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها = كفى المرء نُبلا أن تُعدّ معايبه

والله أسأل أن اكون وُفِّقت للهدى والرشاد والصواب .

والله تعالى أعلى وأعلم .

تمت بحمد الله ..


حول قصة حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه وأنه قد ظاهر كفار مكة ، ومع ذلك لم يُكفِّره النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن بعض أهل العلم يستدلّ على أنه ليست كل نوع موالاة يُعتبر كُفراً .

وقد رد عليّ أحد الأخوة وساق كلاما لأحد طلبة العلم فقال :

وسوف أجعل كلام الشيخ
باللون الأحمر
ثم اُجيب عنه :
قال الأخ المعترض :
وقد رد على هذه الشبهة ( الاستدلال بفعل حاطب ) أحد طلبة العلم فقال :
والجواب عن هذه الشبهة ... من وجوه :
الوجه الأول : أن هذا الدليل من أصرح الأدلة على كفر المظاهر وارتداده عن دين الإسلام ، وهذا يظهر من ثلاثة أمور في هذا الحديث :
الأمر الأول : قول عمر في هذا الحديث : دعني أضرب هذا المنافق ، وفي رواية : فقد كفر ، وفي رواية : بعد أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم أوليس قد شهد بدراً ؟. قال عمر : بلى ولكنه نكث وظاهر أعداءك عليك .
فهذا يدل على أن المتقرر عند عمر رضي الله عنه والصحابة أن مظاهرة الكفار وإعانتهم كفر وردة عن الإسلام ، ولم يقل هذا الكلام إلا لما رأى أمراً ظاهره الكفر .

وللجواب عما أورده الأخ الفاضل أقول :

هل من يستدل بالكتاب والسنة يُعتبر استدلاله شُبهة ؟!
ففعل حاطب جاء ذكره في الكتاب والسنة .
وقد علمت أن قصته مخرّجة في الصحيحين وغيرها من دواوين السنة .
وأن العلماء يستدلّون بهذا الحديث على عدم تكفير مَن والى الكفار بصورة من صور الموالاة .

أما الأجوبة عما ذكره الشيخ كإجابات على شُبهة من يستدلّ بالحديث فأقول :

قوله : أما الوجه الأول من الجواب الأول من أن هذا الحديث من أصرح الأدلة على كفر من ظاهر الكفار ، وأنه ورد في رواية : فإنه قد كفر ... إلخ .

فهذا قد أجاب عنه الحافظ في الفتح فقال :
وفي حديث بن عباس قال عمر : فاخترطت سيفي ، وقلت : يا رسول الله أمكني منه فإنه قد كفر . وقد أنكر القاضي أبو بكر بن الباقلاني هذه الرواية وقال : ليست بمعروفة ، قاله في الرد على الجاحظ لأنه احتج بها على تكفير العاصي ، وليس لإنكار القاضي معنى لأنها وردت بسند صحيح وذكر البرقاني في مستخرجه أن مسلما أخرجها ، وردّه الحميدي ، والجمع بينهما أن مسلما خرّج سندها ولم يسُق لفظها ، وإذا ثبت فلعلّه أطلق الكفر وأراد به كفر النعمة ، كما أطلق النفاق وأراد به نفاق المعصية ، وفيه نظر لأنه استأذن في ضرب عنقه فأشعر بأنه
ظن أنه نافق نفاق كفر ، ولذلك أطلق أنه كفر ، ولكن مع ذلك لا يلزم منه أن يكون عمر يرى تكفير من ارتكب معصية ولو كبرت ، كما يقوله المبتدعة ، ولكنه غلب على ظنه ذلك في حق حاطب فلما بين له النبي صلى الله عليه وسلم عذر حاطب رجع . اهـ .

وقال العيني في عمدة القارئ :
إن عمر رضي الله عنه إنما قال لحاطب : إنه منافق ؛ لأنه
ظن أنه صار منافقاً بسبب كتابه إلى المشركين . اهـ .

وقوله في الوجه الثاني من الجواب الأول : إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لما فهمه عمر ، ولم ينكر عليه تكفيره إياه ، وإنما ذكر عُذر حاطب .

فيَرِد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن عمر وعن قوله حتى سأل حاطباً .

أليس الإعراض نوع إنكار ؟
ثم إن عمر رضي الله عنه لما اعتذر حاطب قال عمر مرة ثانية : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه ! فقال عليه الصلاة والسلام : أليس من أهل بدر ؟

أليس من أهل بدر ؟

أليس هذا من الإنكار ؟
أم أن الإنكار أن يُضرب المخالف بالعصا ؟!!

ومما يدلّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على عمر سؤاله لعمر هذا السؤال ثم جواب عمر بعد ذلك بقوله – بعد أن دمعت عيناه - : الله ورسوله أعلم .

كما يَرِد عليه أيضا أن عمر رضي الله عنه عُرف عنه هذا الأمر في الشدّة على المخالف ، كما وقع ذلك منه في حق عبد الله بن أُبيّ
فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال دعوى جاهلية ؟ قالوا : يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال : دعوها فإنها منتنة . فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال : فعلوها ! أما والله ( لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ) فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعْـه ! لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه .

فهل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عمر يعني تصحيح ما عليه ابن أُبيّ ؟!

ولما قال رجل : اعدل يا محمد فإنك لم تعدل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويلك ومن يعدل بعدي إذا لم أعدل ، فقال عمر : دعني يا رسول الله حتى أضرب عنق هذا المنافق . رواه أبو داود ، وأصله في الصحيحين .

فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ثم أخبر عن ذلك الرجل أن الخوارج يخرجون مِن صُلبه !
فهل يعني هذا إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما قاله الرجل عندما سكت عن عمر حتى ولّى الرجل وذهب ؟!

بل لم يُنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر قوله هذا إنكاراً صريحـا .

فهذه الأدلة تدلّ على أن عمر رضي الله عنه عُرف عنه هذا الأمر ، وهو الشدّة مع المخالف أو مع من يظن أنه صدر منه ما يقتضي النفاق أو الكفر .
كما نص على ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح .

قال الحافظ في الفتح :
إنما قال ذلك عمر مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض من ينسب إلى النفاق وظن أن من خالف ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم استحق القتل ، لكنه لم يجزم بذلك ، فلذلك استأذن في قتله ، وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر ، وعذر حاطب ما ذكره فإنه صنع ذلك متأولا أن لا ضرر فيه . اهـ .

قال الشيخ في الوجه الثالث من الجواب الأول : أن حاطباً رضي الله عنه قال : وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام .
وهذا يدل على أنه قد تقرّر لديه أيضاً أن مظاهرة الكفار (كفر وردة ورضا بالكفر) ، وإنما ذكر حقيقة فعله .

فالجواب عنه أن هذا صدر منه في مقام الاعتذار .
وقد عقد الإمام البخاري عليه باباً فقال :
باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا ، وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة : إنه نافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وما يدريك لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال : قد غفرت لكم .

كما يُجاب عما قاله بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يـرَ أن ما صدر من حاطب موجبا للكفر وإلا لأمر بضرب عُنقه ! أو لأمر باستتابته على الأقل .
فهل يفعل حاطب ما تقرّر لديه أنه كفر وردّة ورضا بالكفر ، ثم يحتاج إلى من يسأله قبل المعاتبة ، أو يَستفصل منه ، أو يَلتمس له العُذر ؟!

فلو كان هذا الفعل موجباً للكفر لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم .
ولو كان هذا الفعل موجبا للكفر فهل كان هناك من داعٍ للسؤال قبل المعاتبة ؟

ثم إن هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) نزلت في حاطب رضي الله عنه كما في الصحيحين .

وقد سـمّـى الله عز وجل فعله هذا موالاة للكفار ومودّة لهم .
فهل تُكفّرون حاطباً بذلك ؟!
الجواب : لا
فالآية صريحة
والحديث واضح الدلالة

قال الشيخ في الوجه الثاني : ولم تقع منه مناصرة للكفار على المسلمين مطلقاً ... ولم يكن ذلك منه مظاهرة لهم ولا مناصرة

هذا القول بعضه يردّ على بعض !
فإنه أورد فيه آية الممتحنة ، وفيها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )
وفيها أيضا : ( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )

كما يردّه ما قرره هو سابقا مِن
( إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لما فهمه عمر ، ولم ينكر عليه تكفيره إياه )

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وقد تحصل للرجل موادّتهم لِرحم أو حاجة فتكون ذنباً ينقص به إيمانه ولا يكون به كافرا ، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله فيه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت والله لا تَقتله ولا تقدر على قتله . قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، ولهذه
الشُّبهة سمّى عمر حاطبا منافقا ، فقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنه شهد بدرا ، فكان عمر متأولا فى تسميته منافقا للشُّبهة التي فعلها ، وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين ! هو من هذا الباب ، وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم : منافق . وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين . ولهذا لم يكن المتّهمون بالنفاق نوعاً واحدا بل فيهم المنافق المحض ، وفيهم من فيه إيمان ونفاق ، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق ، وكان كثير ذنوبهم بحسب ظهور الإيمان ولما قوى الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكونوا يعاتبون عليه قبل ذلك . انتهى كلامه رحمه الله .

وهذا القول الفصل من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يُسقط ما استدلّ به الشيخ أو قال به .

كما قال الشيخ في الوجه الثالث : أن رسالة حاطب رضي الله عنه لكفار مكة ليست من المظاهرة والإعانة لهم على المسلمين في شيء .

أقول : أليس مِن المُناصرة إفشاء سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتمه عن كفار مكة ؟
أليس من المناصرة تنبيه الكفار إلى قوة المسلمين ، كما جاء في الكتاب الذي أرسله حاطب ؟
أليس من أعانتهم بالرأي والمشورة أن يُقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على غزوكم ؟
وقد تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخفى أمره وأخذ بالأنقاب وقال: اللهم خذ أبصارهم فلا يروني إلا بغتة . فلما أجمع المسير كتب حاطب بن بلتعة إلى قريش يخبرهم بذلك . كما ذكر ابن سعد في الطبقات .

كما يردّه قول الشيخ نفسه :
وهذا من أعظم الدلائل على أن من ناصر الكفار بنفسه أو بماله أو بلسانه أو برأيه ونحو ذلك فقد ارتدّ عن دين الإسلام ، والعياذ بالله .

أليس إخبار كفار مكة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قصَدَهم وأراد غزوهم ليأخذوا أهبة الاستعداد وليتهيئوا لقتاله .. أليس هذا من الإعانة لهم بالرأي والمشورة والنصيحة ؟!
الجواب في الآية ( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )

كما أقول :
لو لم يكن في رسالة حاطب نوع موالاة أو مناصرة بالرأي لماذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن كتاب حاطب ؟
لكان أقل شأناً من ذلك ؟

هذا من وجه
ومن وجه آخر : لماذا ينتدب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من فرسان جيشه ليُدركوا المرأة قبل أن يصل الكتاب للكفار ؟!

فقد جاء في رواية في الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام وكلنا فارس . قال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين . الحديث .

لماذا يختار النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الفرسان لهذه المهمة ؟
ثم لماذا يأمرهم بالذهاب على وجه السرعة : انطلقوا ؟

إذا كان الكتاب ليس بكبير شأن ، والفعل كذلك ، لماذا كل هذا الاهتمام به ؟

فلو كان شأن الكتاب كما صوّره الشيخ لما كان من شأنه أن ينزل خبره من السماء ثم يكون من شأنه ما يكون !

والحديث بوّب عليه الإمام البخاري : باب الجاسوس ، وقول الله تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )

كما بوّب عليه أيضا : باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره .

وهذا يدلّ على أن فعل حاطب رضي الله عنه ليس بالأمر اليسير في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
ولا يُعفيه من المساءلة كونه في الجيش أو كونه ناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله .

وأما قول الشيخ : الوجه السادس : أن يقال للمستدل بهذا الحديث على عدم كفر المظاهر :
هل هذا الحديث يدل على أن جميع صور مظاهرة الكفار ومناصرتهم ليست كفراً وردة ؟
فإن قال : نعم ، فقد خرق الإجماع ، ولا سلف له ، فلا كلام معه .
وإن قال : لا .
فيقال : فما الصور التي يكفر بها المظاهر للكفار .

فالجواب عنه من وجوه :

الأول : أن الله عز وجل سمى فعل حاطب رضي الله عنه موالاة ومودّة ، ولم يُكفَّر حاطب بفعله ، بل قبِل النبي صلى الله عليه وسلم عُذره .

الثاني : أنه لا يُستدلّ بالحديث على عدم كُفر المظاهر ، بل يُستدلّ به على أنه ليست كل مظاهرة أو مناصرة أو معاونة لهم بالرأي أو بالمشورة أنها تكون كفراً وردّة .

الثالث : أن تحرير المسألة يتبيّن بحدِّها وتعريفها
وقد سبق تعريف الموالاة
بأنه : النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا ، فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم وإظهار الودّ لهم بالأقوال والأفعال والنوايا . اهـ .

وتقرر أن مسمى الموالاة لأعداء الله : يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردّة وذهاب الإسلام بالكلية ، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات .

فإذا عرفنا أن :
الولاية : هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا .
تبيّن لنا أنه ليست كل نُصرة ولا كل محبة ولا كل إكرام أو احترام أو مدح أو ثناء على الكفار أنه يكون موالاة مُخرجة من الملة ناقلة عن الدِّين .

وسؤال الشيخ : فما الصور التي يكفر بها المظاهر للكفار ؟

الجواب عنه في تعريف الموالاة
وهي ما توافر فيها : النصرة والمحبة والإكرام والاحترام ، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطنا .

كما يَرِد عليه السؤال :
إذا كنت ترى أن الموالاة أو المناصرة توجب الكفر والردّة ، فما هي الصور التي لا توجب ذلك ، والتي تجعلنا نسأل قبل الحُـكم : ما حملك على ما صنعت ؟!

والعلماء يعدّون لبس لباس الكفّار والتّشبّه بهم صورة من صور الولاء للكفار ، إلا أنها لا تُخرج من دين الإسلام ، وهذا محلّ اتفاق ، كما بسط القول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم ، وقال به الشيخ حمد بن عتيق في سبيل النجاة والفكاك ، وكما ذكره الدكتور القحطاني في كتاب الولاء والبراء .

فهل من تشبّه بأعداء الله في لباس أو زيّ مما هو من خصائصهم يكون موالياً كافراً بذلك ؟
الجواب : لا
إذا هذه الصورة تنقض الوجه الأخير عند الشيخ .

وأما التفريق بين الموالاة والتولّي فهي مسألة اصطلاحية ولا مشاحّة في الاصطلاح .
ولا يلزم التفريق بين النوعين .
فقد رأيت عامة من كتب في هذه المسالة لم يُفرّق بين النوعين من المتقدمين والمتأخرين .

والله تعالى أعلى وأعلم .


ثم عرضت جميع ما كتبته في هذا الموضوع (1) على فضيلة شيخنا العلامة الشيخ د . عبد الكريم الخضير - الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض – فقرأها في البلد الأمين على عجل وعقب على قولي في آخر الموضوع الأول ( ولا بد من احترام العلماء وأهل العلم الذين أمضوا أعمارهم في دراسته وممارسته ، ولو أخطأوا )

فقال حفظه الله :
يُنظر مدى الخطأ ومدى تأثيره في الأمة ، وزلّة تُتّقى فإذا كثُرت زلاّته ينبغي التحذير منه بأسلوب يُحقق المصلحة وعدم الاغترار به ولا يترتّب عليه مفسدة ، والله المستعان .

----------------------------------
(1) جميع ما كتبته عرضته عليه ما عدا قولي : ( وأما التفريق بين الموالاة والتولّي فهي مسألة اصطلاحية ولا مشاحّة في الاصطلاح .
ولا يلزم التفريق بين النوعين .
فقد رأيت عامة من كتب في هذه المسالة لم يُفرّق بين النوعين من المتقدمين والمتأخرين )


و مما ينبغي أن يُعلم أنني هنا لا أتحدث عن الكافر الأصلي إذ قد فُرغ منه .
لأن من شُبهات القوم قولهم :
( مَن لم يُكفر الكافر فهو كافر )
وهذا لا خلاف فيه بالنسبة للكافر الأصلي ، أما المرتد ومن طرأ عليه الكفر فقد علمت ما فيه من الخلاف .
ولذا جرى الخلاف بين علماء السنة في تكفير الخوارج رغم ما ورد فيهم من النصوص الصريحة الصحيحة .

ولذا يقول العلماء : لا ينبغي الخلاف في تكفير الرافضة
ووُجد من العلماء قديما وحديثا من يتوقف في تكفير الرافضة ، وإن كان لا ينبغي الخلاف في تكفيرهم !
فهل من يتوقف في تكفير أمثال هؤلاء يُعتبر كافراً ؟
الجواب : لا .

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالرحمن السحيم
  • مـقـالات
  • بحوث علمية
  • إنه الله
  • محمد رسول
  • المقالات العَقَدِيَّـة
  • قضايا الأمّـة
  • مقالات تربوية
  • مقالات وعظية
  • تصحيح مفاهيم
  • قصص هادفة
  • موضوعات أُسريّـة
  • تراجم وسير
  • دروس علمية
  • محاضرات مُفرّغة
  • صفحة النساء
  • فتاوى شرعية
  • الصفحة الرئيسية