بسم الله الرحمن الرحيم

زهدهم وزهدنا


كان سلف هذه الأمة يزهدون في الدنيا الفانية
وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الزهد فيها
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : مـرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أطيـّن حائطا لي أنا وأمي ، فقال : ما هذا يا عبد الله ؟ فقلت : يا رسول الله شيء أصلحه . فقال : الأمر أسرع من ذاك . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه .
وفي رواية للترمذي : فقال ما هذا ؟ فقلنا : قد وَهَـى فنحن نصلحه . قال : ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك .

بارك الله فيك إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزهد في الدنيا ، والرضا منها باليسير ، والقناعة بالرزق ، والكفاف .
قال عليه الصلاة والسلام : ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك . رواه ابن ماجه .
قال محمد بن واسع : إني لأغبط رجلا معه دينه ، وما معه من الدنيا شيء ، وهو راض .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغل بعض المواقف لتذكير أصحابه بقدر الدنيا ، وهوانها على الله ؛ لأجل أن يزهدوا فيها .
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مـرّ بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفته ، فمـرّ بجدي أسكّ ميت ، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال أيكم يحب أن هذا له بدرهم فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به قال أتحبون أنه لكم قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت فقال فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم . رواه مسلم .
وفي رواية لمسلم قالوا : فلو كان حيا كان هذا السكك به عيبا . ( الأسكّ : صغير الأذنين )

قال عمر رضي الله عنه : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير ، فجلست ، فأدنى عليه إزاره ، وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثّـر في جنبه ، فنظرت ببصرى في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، ومثلها قرظا في ناحية الغرفة ، وإذا أَفيقٌ مُعلّق . قال : فأبتدرت عيناي .
قال : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟
قلت : يا نبي الله ! ومالي لا أبكى ، وهذا الحصير قد أثّـر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار ، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته وهذه خزانتك ؟
فقال : يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ، ولهم الدنيا ؟ متفق عليه .
( القَرَظ : ورق شجر السّلم )
( أَفيق : الجلد الذي لم يُدبغ )
( فابتدرت عيناي : لم أتمالك نفسي أن بكيت فسالت دموعي )

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير ، فأثّـر في جنبه ، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه ، فقلت : يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالي وللدنيا ؟ ما أنا والدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها . رواه الإمام أحمد .

فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّق قلوب أصحابه بالدنيا ، ولا كان يعدهم إياها إلا نادراً ، بل كان يُعلّق قلوبهم بالآخرة ، ويُرغّبهم بالجنة .

قال ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته بوضوئه وحاجته . فقال لي : سَـلْ . فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . قال : أوَ غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك . قال : فأعِنِّـي على نفسك بكثرة السجود . رواه مسلم .

والتربية العملية ، كالتربية بالقدوة ربما كانت أفضل من ألف موعظة .
ولذا لما كشف الصحابة رضي الله عنهم عن بطونهم يشكون الجوع ، وقد ربطوا الحجارة على بطونهم كشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه فإذا هو قد ربط حجرين !
ولسان الحال يقول : لست بأحسن حال منكم !

قال أبو طلحة رضي الله عنه : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين . رواه الترمذي .

بل إنه عليه الصلاة والسلام خُيّـر بين أن يكون عبداً رسولا أو ملكاً نبياً فاختار الأولى .
جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى السماء ، فإذا ملك ينزل ، فقال جبريل : إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خُلق قبل الساعة ، فلما نزل قال : يا محمد أرسلني إليك ربك . قال : أفملكاً نبيا يجعلك ، أو عبدا رسولا . قال جبريل : تواضع لربك يا محمد . قال : بل عبداً رسولاً . رواه الإمام أحمد .

بل كانت قلوب القوم مُعلّقـة بالله ونيل رضاه .
جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتّبَعَهُ ثُمّ قال : أُهَاجِرُ مَعَكَ ، فَأَوصَى بِهِ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْض أَصْحَابِهِ ، فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَبْياً ، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ ، فَلَمّا جَاءَ دَفَعُوهُ إلَيْهِ ، فَقَال : مَا هَـذَا ؟ قَالُوا : قسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَال : مَا هَـذَا ؟ قَال : قَسَمْتُهُ لَكَ ، قَال : ما على هَذَا اتّبعتك ، وَلَكِنّي اتّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إلَى هَهُنَا - وَأَشَارَ إلَى حَلْقِهِ - بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنّةَ ، فقال : إنْ تَصْدُقِ اللّهَ يَصْدُقْكَ . فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثُمّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوّ ، فَأُتِيَ بِهِ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ ، فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قال : صَدَقَ اللّهَ فَصَدَقَهُ ، ثُمّ كَفّنَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي جُبّةِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، ثُمّ قَدّمَهُ ، فَصَلّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ اللّهُمّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِراً فِي سَبِـيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيداً أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ . رواه النسائي والحاكم .

وما كانت الدنيا تدخل إلى قلوبهم بل كانت في أيديهم ، وما كان في اليد فما أسرع أن يُلقى .

روى البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي بن حسين قال : قال لي أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار . قال سعيد بن مرجانة : فانطلقت به إلى علي بن حسين ، فعمِد علي بن حسين رضي الله عنهما إلى عبدٍ له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار ، فأعتقه .

قال حماد بن زيد قال رجل لمحمد بن واسع أوصني . قال : أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة قال : كيف ؟ قال : ازهد في الدنيا .

هذا كان زهد القوم ، فكيف زهدنا اليوم ؟

لا تُعرضن بذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ

القوم زهدوا في الفاني ، ونحن قد زهدنا ، ولكن في الباقي !
الدنيا كانت في أيدي القوم ، ونحن أُشربت قلوبنا حبّ الدنيا!

القوم تسابقوا وتسارعوا في الباقيات الصالحات
ونحن نتسابق ونُسارع في الفانيات الذاهبات !

تأمل في زهد كثير من الناس في الباقيات الصالحات ، ثم قارن ذلك بتسابقهم المحموم على مساهمة مشبوهة أو ربوية صريحة واضحة !

حدّث ابن عمر رضي الله عنهما : أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تبع جنازة فله قيراط . فقال ابن عمر : أكثر أبو هريرة علينا ، فصدّقت عائشة أبا هريرة ، وقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله . فقال ابن عمر رضي الله عنهما : لقد فرطنا في قراريط كثيرة . رواه البخاري ومسلم .

يرى أن أجوراً عظيمة فاتت عليه ، وفرّط فيها .
وكانوا يرون أن الدلالة على الأجور من المغانم التي تُهدى .
قال محمد بن واسع قدمت مكة فلقيت بها سالم بن عبدالله بن عمر فحدثني عن أبيه عن جده عمر عن النبي أنه قال : من دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير . كَتَبَ الله له ألفَ ألفَ حسنة ورفع له ألفَ ألفَ درجة ، وبَنى له بيتا في الجنة قال محمد بن واسع : فقدمت خراسان ، فأتيت قتيبة بن مسلم فقلت : أتيتك بهدية ، فحدثته الحديث . قال : فكان قتيبة يركب في موكبه حتى يأتـي السوق ، فيقولَها ، ثم ينصرف .
قال الذهبي : هذا إسناد صالح غريب . والحديث حسنه الألباني .

ولكننا نفتقد ذلكم الحسّ – إلا من رحم الله - .
بل نشاهد الزهد في الأجور العظيمة التي تُقدّر بمئات الألوف بل ربما بلغت الملايين ، ولعل تعجّل الحجاج يوم الثاني عشر أوضح شاهد على ذلك .
أما لو جلسوا في تلك البقاع الطاهرة ، والرحاب المباركة لأدركوا صلوات الواحدة منهن بمائة ألف صلاة .

بل قد نزهد في مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في كفالة يتيم .
ونزهد في بناء قصر في الجنة ، أو نغرس نخلا لنا فيها ، أو نحصل على كنز من كنوزها .
ونزهد في دعاء ملائكة الرحمن ، في صبيحة كل يوم : اللهم أعطِ مُنفقاً خلفا .
ونستكثر أن نُنفق في وجوه البر والخير .
كل ذلك نزهد فيه ، ولكننا لا نستكثر أن نُنفق على مدار العام في لهو وباطل ، أو على أقل الأحوال فيما لا فائدة فيه .

قبل أيام رأيت شخصاً دخل سوقا من الأسواق ، واشترى ثلاث صُحف يومية ، وأكاد أجزم – من مظهره – أنه من صغار الموظفين !
فإذا كان يشتري الصحف بشكل يومي ، فكم هي نفقات تلك الصحف فقط ؟
السنة 354 يوماً × 6 ( قيمة 3 صحف ) = 2124 ريالاً
هذه قيمة ثلاث صحف لشخص واحد ! لسنة واحدة .
فكيف به لعشر سنوات أو لعشرين سنة ؟
2124 × 20 = 42480 ريالاً !
إنه مبلغ ليس باليسير .
وسوف يُسأل عن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيمَ أنفقـه ؟

ماذا لو قيل له : اكفل يتيماً ، مع أن كفالته السنوية قد لا تتجاوز ألف ريال ؟!!
أكاد أجزم أنه سوف يعتذر بقلّـة ذات يده ، ومحدودية دخلـه !
ألا يستطيع أن يستغني عن صحيفة بل عن الصحف اليومية ؟؟؟

ماذا لو قيل له : خلّف مشروع صدقة جارية تجري لك بعد الموت ؟
لا تزيد نفقته على خمسة آلاف ريال ، وادفعها على أقساط !

فماذا سيكون الجواب حينها ؟!!

المُدخّـن ... كم يُنفق على إتلاف صحّـته ؟؟؟

مُدمن الأغاني ... كم يُنفق على أشرطة الأغاني ؟؟؟

وفي عالم المرأة – خاصة المرأة العاملة – حدّث ولا حـرج !

مكياج وعطورات وكماليات و .... و .... و ....

وماذا لو قيل لها : أنفقـي ؟!
لتبادرت الأعذار في ذهنها الواحد يسبق الآخر !!

وغيرها من الأمثلة التي تحتاج إلى وقفات ووقفات .

أليس هذا من الزهد في الآخرة ، والإقبال بِـنَـهمٍ على الدنيا ؟؟؟

ولا يعني هذا أن كاتب هذه الأسطر بريئاً مما قال !
كما لا يعني أنه لا يوجد من يُنفق ويبذل .
فأمة الإسلام لا زالت بخير – والحمد لله - .

فيا رب
إن زهدنا في الباقيات ، وتنافسنا في الذاهبات ، فاغفر لنا الزلاّت ، وتجاوز عن الخطيئات .

إلهي لا تعذبني فـإني = مُـقِـرٌّ بالذي قد كان مني
وما لي حيلة إلا رجائي = لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا = وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها = عضضت أناملي وقرعت سني
أُجن بزهرة الدنيا جنونا = وأقطع طول عمري بالتمني
ولو أني صدقت الزهد عنها = قلبت لأهلها ظهر المجنِّ
يظن الناس بي خيراً وإني = لشرّ الخلق إن لم تعفُ عنِّي

( وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ )

كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم
assuhaim@al-islam.com

الصفحة الرئيسة