صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







خِصَالُ العاقلِ من روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان

فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد :

فمن أجلِّ نعم الله عز وجل على عبده الإنسان : نعمة العقل, فإن كان معها الدين المقبول عند الله وهو الإسلام, فقد سُعِدَ من حضي بهما, وفاز بالمُنى, حيث كان عبداً مسلماً مستسلماً لله, عاقلاً لبيباً, متحلياً بكريم الأخلاق.

والمسلم يتطلع إلى معرفة خصال وصفات العقلاء ليتحلى بها, وقد ألف الإمام الحافظ محمد بن حبان البستي رحمه الله المتوفى سنة ( 354) كتاباً جميلاً في ذلك, سماه " روضة العقلاء ونزهة الفضلاء " وهو روضة يتنقل القارئ فيه من أشياء جميلة إلى ما هو  أجمل منها, ومن أمور حسنة إلى ما هو أحسن منها.

والإمام ابن حبان رحمه الله له تصانيف مشهورة, أثنى عليها أهل العلم والفضل :

قال الإمام ابن الأثير : له تصانيف لم يسبق إليها...وتصانيفه مشهورة كثيرة الفائدة.

وقال الحافظ العراقي : صنف كتباً حسنة...وتصانيفه...كثيرة نفيسة.

وقال الشيخ سعد بن عبدالله آل حميد : كانت تصانيفه محطّ إعجاب العلماء به.

وقال الأستاذ محمد عوامة : صاحب نوادر الكتب الدالة على عظم إمامته.

وقال الشيخ عبدالفتاح أبو غدة : صاحب...الكتب النفيسة الممتازة.

وقال الأستاذ  يحيى بن عبدالله الشهري : له مصنفات سارت بها الركبان.

وقال الأئمة : الحاكم وابن نقطة والقفطي وياقوت الحموي وابن حجر : صنف...في الحديث ما لم يسبق إليه.

وقال الشيخ شعيب الارناؤوط: مصنفاته نفيسة...يلحظ من خلال تأليفه عقلاً محققاً وفكراً عميقاً ونظراً ثاقباً كان يشبع المسائل بحثاً وتمحيصاً ودراسة واستقصاء واستنباطاً, وقال الخطيب البغدادي : من الكتب التي تكثر منافعها...مصنفاته.

لبن حبان تصانيف كثيرة من أشهرها المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع, المعروف بصحيح ابن حبان, ومنها : روضة العقلاء ونزهة الفضلاء, وقد أثنى أهل العلم علي هذا الكتاب : قال محمد صالح العثيمين : من أحسن ما رأيت كتاب (روضة العقلاء)..وهوكتاب مفيد على اختصاره, وجمع عدداً كبيراً من الفوائد ومآثر العلماء والمحدثين وغيرهم, وقال طارق عبدالواحد علي : هذا الكتاب النفيس...من الكتب التي لا تنكر مكانتها وقيمتها العلمية, وقال محمد عبدالرزاق حمزة : من خيار كتبه.

وقال عبدالرحمن إبراهيم فودة  : جاء في أسلوب سهل ممتع.

وقال علي مشرف العمري : يعد أجود مراجع علم السلوك والآداب الشرعية.

وحيث أن الكتاب يحوي فوائد عظيمة, في خصال وصفات العاقل, فقد قمتُ بانتقاء أبرز ما جاء في الكتب, أسأل الله الكريم أن ينفع بذلك ويبارك فيه.

قال الإمام ابن حبان البستي رحمه الله :    

آفة العقل

آفة العقل العُجب, والعاقل لا يستحقر أحداً, لأن من استحقر السلطان أفسد دنياه, ومن استحقر الأتقياء أهلك دينه, ومن استحقر الإخوان أفنى مروءته, ومن استحقر العام [عامة الناس] أذهب صيانته.

وآفة العقل الصلف [الكِبر] والبلاء المردي, والرخاء المفرط, لأن البلايا إذا تواترت عليهم أهلكت عقله, والرخاء إذا تواتر عليه أبطره.

فضيلة العقل

أفضل مواهب الله لعباده العقل.

وأفضل قسم الله للمرء عـقله         فليس من الخيرات شيء يقاربه

قيل لابن المبارك رحمه الله :  ما خير ما أعطى الرجل ؟  قال : غزيرة عقل.

ولا يتم دين أحد حتى يتم عقله.

وعمود السعادة العقل, والعقل لو كان شجرة, لكانت من أحسن الشجر.

ومحبة المرء المكارم من الأخلاق وكراهته سفاسفها هو نفس العقل.

وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل:

إن المكارم    أبواب  مصـنفة         فالعقل أولها والصـمت  ثانـيها

والعلم ثالثها   والحلم  رابعها           والجود خامسها والصدق  ساديها

والصبر سابعها والشكر ثامنها          واللين  تاسعها والصدق   عاشيها

العقل اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب, والعلم باجتناب الخطأ,

فإذا كان المرء في أول درجته يسمى : أدبياً, ثم أربياً, ثم لبيباً, ثم عاقلاً.

ورأس العقل المعرفة بما يمكن كونه قبل أن يكون.

قوت الأجساد المطاعم, وقوت العقل الحكم, فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب, كذلك العقول إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت.

من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه أخاف أن يكون حتفه في أقرب الأشياء إليه...

جعلنا الله ممن ركب فيه حسن وجود العقل.

العاقل اللبيب

العاقل...لا يبالي ما فاته من حطام الدنيا مع ما رزق من الحظ في العقل.

والعاقل لا يطول أمله, لأن من قوي أمله ضعف عمله, ومن أتاه أجله لم ينفعه أمله.  

ومن عقل العاقل دفن عقله ما استطاع, لأن البذر وإن خفي في الأرض أياماً فإنه لا بد ظاهر في أوانه, وكذلك لا يخفى عقله وأن أخفى ذلك جهده.

وأفضل ذوي العقول منزلهم أدومهم لنفسه محاسبة, وأقلهم عنها فترة.

والعاقل لا يخفى عليه عيب نفسه, لأن من خفي عليه عيب نفسه خفيت عليه محاسن غيره, وإن من أشدِّ العقوبة للمرء أن يخفى عليه عيبه, لأنه ليس بمُقلع عن عيبه من لم يعرفه, وليس بنائلٍ محاسن الناس من لم يعرفها.

والعاقل يحسم الداء قبل أن يبتلى به, ويدفع الأمر قبل أن يقع فيه, فإذا وقع فيه رضي وصبر

والعاقل...لا يدعي ما يحسن من العلم, لأن فضائل الرجال ليست ما ادعوها ولكن ما نسبها الناس إليهم

ولا يجب للعاقل أن يغتم, لأن الغم لا ينفع, وكثرته تزري بالعقل, ولا أن يحزن, لأن الحزن لا يرد المرزئه [المصيبة] ودوامه ينقص العقل.

والعاقل لا يخيف أحداً أبداً ما استطاع, ولا يقيم على خوف وهو يجد منه مذهباً.

والعاقل لا يبتدئ الكلام إلا أن يسال, ولا يكثر التماري إلا عند القبول, ولا يسرع الجواب إلا عند التثبت.

والعاقل لا يتكل على المال, وإن كان في تمام الحال, لأن المال يحلُّ ويرتحل, والعقل يقيم ولا يبرح. 

 

والعاقل لا يقاتل من غير عُدّة, ولا يخاصم من غير حجة, ولا يصارع بدون قوة.

الواجب على العاقل إذا لم يعرف بالسماحة أن لا يعرف بالبخل, كما لا يجب إذا لم يعرف بالشجاعة أن يعرف بالجبن, ولا إذا لم يعرف بالشهامة أن يعرف بالمهانة, ولا إذا لم يعرف بالأمانة أن يعرف بالخيانة.

لا يجب للعاقل أن يتوسل في قضاء حاجته بالعدو, ولا بالأحمق, ولا بالفاسق, ولا بالكذاب, ولا بمن له عند المسئول طعمه.

والعاقل يبتدئ بالصنائع قبل أن يُسال, لأن الابتداء بالصنيعة أحسن من المكافأة عليها....والعاقل يستعمل مع أهل زمانه لزوم بعث الهدايا بما قدر عليه لاستجلاب محبتهم إياه, ويفارق تركه مخافة بغضهم.

وإني لاستحب للعاقل المداومة على إطعام الطعام, والمواظبة على قري الضيف.

ما يزيد في نماء العقل

التجارب

لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب, وكانت العرب تقول : العقل التجارب.

معاشرة العقلاء, وتجنب الحمقى والسفهاء

والذي يزداد به العاقل من نماء عقله هو التقرب من أشكاله, والتباعد من أضداده, فعن محمد بن أبي مالك الغزي قال : سمعت أبي يقول : جالسوا الألباء أصدقاء كانوا أو أعداء, فإن العقول تلقح العقول.

 قال شعبة رحمه الله : عقولنا قليلة, فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلا منا ذهب ذلك القليل, وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلاً منه فأمقته.

 

الكريم واللئيم

أكرم الناس من اتقى الله, والكريم التقي, والتقوى هي العزم على إتيان المأمورات, والانزجار عن جميع المزجورات.

الكريم لا يكون حقوداً ولا حسوداً, ولا شامتاً, ولا باغياً, ولا ساهياً, ولا لاهياً, ولا فاجراً, ولا فخوراً, ولا كاذباً, ولا ملوماً, ولا يقطع إلفه, ولا يؤذي إخوانه, ولا يضيع الحفاظ, ولا يجفو في الوداد, يعطي من لا يرجو, ويعفو عن قدرة, ويصل عن قطيعة.

الكريم يلين إذا استعطف, ويجل الكرام, ولا يهين اللئام, ولا يؤذي العاقل, ولا يمازح الأحمق, ولا يعاشر الفاجر, مؤثرا إخوانه على نفسه, باذلاً لهم ما ملك.

الكريم من أعطاه شكره, ومن منعه عذره, ومن قطعه وصله, ومن وصله فضله, ومن سأله أعطاه, ومن لم يسأله ابتدأه, وإذا استضعف أحد رحمه...واللئيم بضد ما وصفنا من الخصال كلها.

أجمع أهل التجارب للدهر, وأهل الفضل في الدين, والراغبون في الجميل : على أن أفضل ما اقتنى الرجل لنفسه في الدنيا وأجل ما يدخر لها في العقبى هو لزوم الكرم, ومعاشرة الكرام, لأن الكرم يحسن الذكر, ويشرف القدر.

الكريم محمود الأثر في الدنيا, مرضى العمل في العقبى, يحبه القريب والقاصي, ويألفه المتسخط والراضي, يفارقه الأعداء واللئام, ويصحبه العقلاء والكرام.

وما رأيت شيئاً أكثر عملاً في نقص كرم الكريم من الفقر, سواء كان ذلك بالقلب أو بالموجود. 

شعب العقل

لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة

أول شعب العقل هو لزوم تقوى الله وإصلاح السريرة, لأن من صلح جُوانيه [باطنه] أصلح الله برّانيه [ظاهره], ومن فسد جوانيه أفسد الله برانيه.

والواجب على العاقل الاهتمام بإصلاح سريرته, والقيام بحراسة قلبه عند إقباله وإدباره...وأن لا ينسى تعاهد قلبه بترك ورود السبب الذي يورث القساوة له عليه.

طلب العلم والمداومة عليه

الواجب على العاقل إذا فرغ من إصلاح سريرته أن يثني بطلب العلم والمداومة عليه, إذ لا وصول للمرء إلى صفاء شيء من أسباب الدنيا إلا بصفاء العلم فيه.

والعاقل لا يشتغل في طلب العلم إلا وقصده العمل به, لأن من سعى فيه لغير ما وصفنا ازداد فخراً وتجبراً, وللعمل تركاً وتضيعاً, فيكون فساده في المتأسين به فيه أكثر من فساده في نفسه ويكون مثله كما قال الله تعالى  } ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ ألا ساء ما يزرُون { [النحل:25] والواجب على العاقل مجانبة ما يدنس علمه من أسباب هذه الدنيا, مع القصد في لزوم العمل بما قدر عليه.

ويجب على العاقل أن لا يطلب من العلم إلا أفضله...وفضل العلم قي غير خير مهلكة, كما أن كثرة الأدب في غير رضوان الله موبقة, والعاقل لا يسعى في فنونه إلا بما أجدى عليه نفعاً في الدارين معاً, وإذا رزق منه الحظ لا يبخل بالإفادة, لأن أول بركة العلم الإفادة. 

لزوم الصمت وحفظ اللسان

الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه أن يتكلم, فما أكثر من ندم إذا نطق, وأقل من يندم إذا سكت, وأطول الناس شقاء وأعظمهم بلاء : من ابتلي بلسان مطلق, وفؤاد مطبق.

والواجب على العاقل أن ينصف أذنيه من فيه, ويعلم أنه إنما جعلت له أذنان وفم واحد ليسمع أكثر مما يقول.

ولسان العاقل يكون وراء قلبه, فإذا أراد القول رجع إلي القلب, فإن كان له قال, وإلا فلا.

والعاقل لا يبتدئ الكلام إلا أن يسال, ولا يقول إلا لمن يقبل, ولا يُجيب إذا شوتم, ولا يجازي إذا أسمع, لأن الابتداء بالصمت وإن كان حسناً, فإن السكوت عند القبيح أحسن منه.

والواجب على العاقل أن يروض نفسه على ترك ما أبيح له من النطق لئلا يقع في المزجورات فيكون حتفه فيما يخرج منه, لأن الكلام إذا كثر منه أورث صاحبه التلذذ بضد الطاعات.

لزوم الصدق ومجانبة الكذب

الصدق ينجي, والكذب يُردي, ومن غلب لسانه أمّرهُ قومه, ومن أكثر الكذب لم يترك لنفسه شيئاً يُصدّق به, ولا يكذب إلا من هانت عليه نفسه.

ولو لم يكن للكذب من الشين إلا إنزاله صاحبه بحيث إن صدق لم يُصدق لكان الواجب على الخلق كافة لزوم التثبت بالصدق الدائم, وإن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسياً.

ــــ

لزوم المدارة

الواجب على العاقل أن يداري الناس مدارة الرجل السابح في الماء الجاري, ومن ذهب إلى عشرة الناس من حيث هو كدّر على نفسه عيشه, ولم تصف له مودته, لأن وداد الناس لا يستجلب إلا بمساعدتهم على ما هم عليه, إلا يكون مأثما, فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة.

ومن التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك, ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بدا, وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها, واستقباح أشياء كان يستحسنها – ما لم يكن ماثما – فإن ذلك من المداراة, وما أكثر من دارى فلم يسلم, فكيف توجد السلامة لمن لا يداري.

مؤاخاة الإخوان

الواجب على العاقل أن لا يغفل عن مؤاخاة الإخوان وإعداده إياهم للنوائب والحدثان.والواجب..أن لا يعد في الأدواء إخاء من لم يواسه في الضراء, ولم يشاركه في السراء ورب أخي إخاء خير من أخي ولادة. والعاقل لا يواخي لئيماً, لأن اللئيم كالحية الصماء, لا يوجد عندها إلا اللدغ والسم, ولا يصل اللئيم ولا يواخي إلا عن رغبة أو رهبة, والكريم يود الكريم على لقيةٍ واحدة,ولو لم يلتقيا بعدها أبداً.

عدم معادة الناس

العاقل لا يعادي ما وجد إلى المحبة سبيلاً....ولا يجب على العاقل أن يكافئ الشر بمثله, وأن يتخذ اللعن والشتم على عدوه سلاحاً, إذ لا يستعان على العدو بمثل إصلاح العيوب, وتحصين العورات حتى لا يجد العدو إليه سبيلاً...والعاقل لا يغيره إلزاق العدو به العيوب والقبائح, لأن ذلك لا يكون له وقع, ولا لكثرته ثبات.

 

ترك مصاحبة الحمقى

الواجب على العاقل ترك مصاحبة الحمقى..كما يجب عليه لزوم صحبة العاقل الأريب, وعشرة الفطن اللبيب, لأن العاقل وإن لم يصبك الحظ من عقله أصابك الاعتبار به, والأحمق إن لم يُعدك حمقه تدنّست بعشرته.

ومن علامات الحمق : سرعة الجواب, وترك التثبت, والإفراط في الضحك, وكثرة الالتفات. والوقيعة في الأخيار, والاختلاط بالأشرار, والأحمق إذا أعرضت عنه اغتم, وإن أقبلت عليه اغتر, وإن حلمت عنه جهل عليك, وإن جهلت عليه حلم عنك, وإن أسأت إليه أحسن إليك, وإن أحسنت إليه أساء إليك, وإذا ظلمته انتصفت منه, ويظلمك إذا أنصفته, ومن أعظم أمارات الحمق في الأحمق لسانه, فإنه يكون قلبه في طرف لسانه, ما خطر على قلبه نطق به لسانه.

الأحمق إن صحبته عناك, وإن اعتزلته شتمك, وإن أعطاك منَّ عليك, وإن أعطيته كفرك, وإن أسرَّ إليك اتهمك, وإن أسررت إليه خانك, وإن كان فوقك حقرك, وإن كان دونك غمرك, والأحمق يتوهم أنه أعقل من ركب فيه الروح, وأن الحمق قسم على العالم غيره, والعاقل يجنب عليه مجانبة من هذا نعته, ومخالطة من هذه صفته, فإنهم يجترئون على من عاشرهم

من شيم العاقل : الحلم, والصمت, والوقار, والسكينة, والوفاء, والبذل, والحكمة, والعلم, والورع, والعدل, والقوة, والحزم, والكياسة, والتمييز, والتواضع, والعفو, والإغضاء, والتعفف, والإحسان, فإذا وفق المرء لصحبة العاقل فليشدد يديد به. 

صحبة الأخيار ومفارقة الأشرار

العاقل يلزم صحبة الأخيار, ويفارق صحبة الأشرار, لأن مودة الأخيار : سريع اتصالها, بطيء انقطاعها, ومودة الأشرار : سريع انقطاعها, بطيء اتصالها.

وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار, ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم, فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب, لئلا يكون مريباً, فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير كذلك صحبة الأشرار تورث الشر..لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار تعقب الضغائن لا يستقيم وده ولا يفي بعهده

والواجب على العاقل أن يستعيذ بالله من صحبة من إذا ذكر الله لم يعنه, وإن نسي لم يُذكره, وإن غفل حرّضه على ترك الذكر.

العاقل لا يصادق المتلون, ولا يواخي المتقلب.

العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه, ويفارق صحبة المتهم في دينه, لأن من صحب قوماً عُرف بهم, ومن عاشر امرئ نُسب إليه, والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله.

والواجب على العاقل أن لا يصحب من لا يستفيد منه خيراً...وكل جليس لا تستفيد منه خيراً فلا تجالسه قريباً كان أو بعيداً. 

لزوم الحياء

الحياء اسم يشتمل على مجانبة المكروه من الخصال.

والواجب على العاقل لزوم الحياء, لأنه أصل العقل, وبذر الخير, وتركه أصل الجهل, وبذر الشر, والحياء يدل على العقل كما أن عدمه دال على الجهل.

والواجب على العاقل أن يعود نفسه لزوم الحياء من الناس, وإن من أعظم بركته تعويد النفس ركوب الخصال الحميدة, ومجانبتها الخلال المذمومة.

 

لزوم التواضع ومجانبة الكبر

الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر, ولو لم يكن في التواضع خصلة تُحمد إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره...والتواضع يرفع المرء قدراً, ويعظم له خطراً, ويزيده نبلاً.

والعاقل إذا رأى من هو أكبر سنا منه تواضع له, وقال : سبقني إلى الإسلام, وإذا رأى من هو أصغر سنا تواضع له, وقال : سبقته بالذنوب, وإذا رأى من هو مثله عده أخاً, فكيف يحسن تكبر المرء على أخيه ؟ !

التحبب إلى الناس

الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق وترك سوء الخلق, لأن حسن الخلق يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد, وإن الخلق السيِّئ ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل, وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها وخلق سيء فيسد الخلق السيِّئ الأخلاق الصالحة كلها....ومن أعظم ما يتوسل به إلى الناس ويستجلب به محبتهم البذل لهم مما يملك المرء من حطام هذه الدنيا, واحتماله عنهم ما يكون منهم من الأذى.

مجانبة الغضب

سرعة الغضب من شيم الحمقى, كما أن مجانبته من زي العقلاء, وسرعة الغضب أنكى في العاقل من النار في يبس العوسج, لأن من غضب زايله عقله, فقال ما سولت نفسه, وعمل ما شأنه وأراده.

والغضب بذر الندم, فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسده بعد الغضب

 

مجانبة الحسد على الأحوال كلها

الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها, فإن أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء, وإرادة ضد حكم الله جل وعلا لعباده, ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عن المسلم, والحاسد لا تهدأ روحه, ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه...والحسد من أخلاق اللئام وتركه من أفعال الكرام, ولكل حريق مطفئ, ونار الحسد لا تطفأ.

والعاقل إذا خطر بباله ضرب من الحسد لأخيه أبلغ المجهود في كتمانه, وترك إبداء ما خطر بباله.

بئس الشعار للمرء الحسد, لأنه يورث الكمد, ويورث الحزن, وهو داء لا شفاء له  

ترك التجسس عن عيوب الغير

الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس, مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه, فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه, ولم يتعب قلبه, فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه, وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه, وتعب بدنه, وتعذر عليه ترك عيوب نفسه, وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم, وأعجز منه من عابهم بما فيه, ومن عاب الناس عابوه, ولقد أحسن الذي يقول :

إذا أنت عبت الناس عابوا وأكثروا          عليك وأبدوا منك ما كان  يستر 

التجسس من شعب النفاق, كما أن حسن الظن من شعب الإيمان, والعاقل يحسن الظن بإخوانه, وينفرد بغمومه وأحزانه, كما أن الجاهل يسيء الظن بإخوانه, ولا يفكر في جناياته وأشجانه.

ترك الحرص والرغبة في الدنيا

أغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيراً, وأفقر الفقراء من كان الحرص عليه أميراً...ولو لم يكن في الحرص خصلة تذم إلا طول المناقشة بالحساب يوم القيامة على ما جمع لكان الواجب على العاقل ترك الإفراط في الحرص.

الواجب على العاقل أن لا يكون بالمفرط في الحرص على الدنيا فيكون مذموماً في الدارين, بل يكون قصده لإقامة فرائض الله, ويكون لبغيته نهاية يرجع إليها, لأن من لم يكن لقصده منها نهاية آذى نفسه, وأتعب بدنه, فمن كان بهذا النعت فهو من الحرص الذي يحمد.

ترك الطمع إلى الناس

الواجب على العاقل ترك الطمع إلى الناس كافة...إذ الطمع فيما لا يشك في وجوده فقر حاضر, فكيف بما أنت شاك في وجوده أو عدمه ؟

ومن أحب أن يكون حراً فلا يهوى ما ليس له, لأن الطمع فقر كما أن اليأس غنى, ومن طمع ذل وخضع, كما أن من قنع عف واستغنى.

العاقل لا يسأل الناس شيئاً فيردوه, ولا يلحف في المسألة فيحرموه, ويلزم التعفف والتكرم, ولا يطلب الأمر مدبراً, ولا يتركه مقبلاً, لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها, وإن من سأل غير المستحق حاجة حط لنفسه مرتبتين, ورفع المسئول فوق قدره.

لا يجل للعاقل أن يبذل وجهه لمن يكرم عليه قدره, ويعظم عنده خطره, فكيف بمن يهون عليه رده, ولا يكرم عليه قدره, وأبغض اللقاء الموت, وأشد منه الحاجة إلى الناس دون السؤال, وأشدّ منه التكلف بالسؤال.

 

الحث على لزوم القناعة

ليس أروح للبدن من الرضا بالقضاء, والثقة بالقسم, ولو لم يكن في القناعة خصلة تحمد إلا الراحة, وعدم الدخول في مواضع السوء لطلب الفضل, لكان الواجب على العاقل ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال

ومن عدم القناعة لم يزده المال غنى, فتمكن المرء بالمال القليل مع قلة الهم أهنأ من الكثير ذي التبعة, والعاقل ينتقم من الحرص بالقنوع كما ينتصر من العدو بالقصاص, لأن السبب المانع رزق العاقل هو السبب الجالب رزق الجاهل.

لزوم التوكل

الواجب على العاقل لزوم التوكل على من تكفل بالأرزاق, إذ التوكل هو نظام الإيمان, وقرين التوحيد, وهو السبب المؤدي إلى نفق الفقر ووجود الراحة, وما توكل أحد على الله جل وعلا من صحة قلبه حتى كان الله جل وعلا بما تضمن من الكفالة أوثق عنده بما حوته يده, إلا لم يكله الله إلى عباده, وآتاه رزقه من حيث لا يحتسب.

لزوم الرضا بالشدائد والصبر عليها

الواجب على العاقل أن يوقن أن الأشياء كلها قد فرغ منها, فمنها ما هو كائن لا محالة, وما لا يكون فلا حيلة للخلق في تكوينه, فإن دفعه الوقت إلى شدة فيجب أن يتزر بإزار له طرفان : أحدهما : الصبر, والآخر : الرضا, ليستوفي كمال الأجر لفعله ذلك, فكم من شدة قد صعبت وتعذر زوالها على العالم بأسره ثم فرج عنها السهل في أقل من لحظة.

 توطين النفس على لزوم العفو عن الناس

الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة...إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان, و لا سبب لنماء الإساءة وتهيجها أشد من الاستعمال بمثلها.

والواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورد الإساءة عليه من العالم بأسرهم, رجاء عفو الله جل وعلا عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه, لأن صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء, وصاحب الانتقام وإن انتقم كان إلى الندم أقرب.

ولو لم يكن في الصفح وترك الإساءة خصلة تحمد إلا راحة النفس ووداع القلب لكان الواجب على العاقل أن لا يكدر وقته بالدخول في أخلاق البهائم, بالمجازاة على الإساءة إساءة.

الإغضاء عما ينقل الوشاة

النميمة...تهتك الأستار, وتفشي الأسرار, وتورث الضغائن, وترفع المودة, وتجدد العداوة, وتبدد الجماعة, وتهيج الحقد, وتزيد الصد.

والواجب على العاقل لزوم الإغضاء عما ينقل الوشاة, وصرف جميعها إلى الإحسان, وترك الخروج إلى ما لا يليق بأهل العقل.

كتم السِّر

من استودع حديثاً فليستر, ولا يكن مهتاكاً ولا مشياعاً, لأن السر إنما سمى سراً لأنه لا يفشى...ومن كتم سره كانت الخيرة في يده, ومن أنبأ الناس بأسراره هان عليهم وأذاعوها, ومن لم يكتم السر استحق الندم, ومن استحق الندم صار ناقص العقل, ومن دام على هذا رجع إلى الجهل.

 

الاعتذار عن الخطأ

الاعتذار يذهب الهموم, ويجلي الأحزان, ويدفع الحقد, ويذهب الصد...فلو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي العجب عن النفس في الحال لكان الواجب على العاقل أن لا يفارقه الاعتذار عند كل زلة

قبول عذر المعتذر

الواجب على العاقل إذا اعتذر إليه أخوه لجرم مضى أو لتقصير سبق أن يقبل عذره, ويجعله كمن لم يذنب. ..ومن اعترف بالزلة استحق الصفح عنها, لأن ذل الاعتذار عن الزلة يوجب تسكين الغضب عنها.

المشورة

الواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار, فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه.

ومن اُستشير فليشر بالنصيحة, وليجتهد بالرأي, وليلزم الحق وقصد السبيل, وليجعل المستشير كنفسه, بترك الخيانة, وبذل النصيحة

والواجب على العاقل إذا استشير قوم هو فيهم أن يكون آخر من بشير, لأنه أمكن من الفكر, وأبعد من الزلل, وأقرب إلى الحزم, وأسلم من السقط.

النصيحة للمسلمين

الواجب على العاقل لزوم النصيحة للمسلمين كافة, وترك الخيانة لهم بالإضمار والقول والفعل معاً...وعلامة الناصح إذا أراد زينة المنصوح له أن ينصحه سراً, وعلامة من أراد شينه أن ينصحه علانية, فليحذر العاقل نصحه الأعداء في السر والعلانية.

 الحلم

الواجب على العاقل إذا غضب واحتد أن يذكر كثرة حلم الله عنه, مع تواتر انتهاكه محارمه, وتعديه حرماته, ثم يحلم, ولا يخرجه غيظه إلى الدخول في أسباب المعاصي.....والحليم عظيم الشن, رفيع المكان, محمود الأمر, مرضى الفعل.

والحلم اسم يقع على زمِّ النفس عن الخروج عند الورود عليها ضد ما تحب إلى ما نهي عنه, والحلم أجمل ما يكون من المقتدر على الانتقام.

الرفق

الواجب على العاقل لزوم الرفق في الأمور كلها, وترك العجلة والخفة فيها.

والرافق لا يكاد يُسبق, كما أن العجل لا يكاد يلحق, وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.

والعجل يقول قبل أن يعلم, ويجيب قبل أن يفهم, ويحمد قبل أن يُجرب, ويذم بعد ما يحمد, ويعزم قبل أن يفكر, ويمضي قبل أن يعزم.

العجلة موكل بها الندم, وما عجل أحد إلا اكتسب ندامة واستفاد مذمة, لأن الزلل مع العجل, والإقدام على العمل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه, ولا يكون العجول محمود أبداً.

أداء الحقوق في المال والسخاء به

الواجب على العاقل إذا أمكنه الله تعالى من حطام هذه الدنيا الفانية, وعلم زوالها عنه, وانقلابها إلى غيره, وأنه لا ينفعه في الآخرة إلا ما قدم من الأعمال الصالحة : أن يبلغ مجهوده في أداء الحقوق في ماله, والقيام بالواجب في أسبابه, مبتغياً بذلك الثواب في العقبى والذكر الجميل في الدنيا, إذا السخاء محبة ومحمدة, ومن جاد ساد.

ــــ

عدم الاغترار بالدنيا وزهرتها

الواجب على العاقل أن لا يغتر بالدنيا وزهرتها وحسنها وبهجتها, فيشتغل بها عن الآخرة الباقية والنعم الدائمة, بل ينزلها حيث أنزلها الله , لأن عاقبتها لا محالة تصير إلى فناء, يخرب عمرانها, ويموت سكانها, وتذهب بهجتها, وتبيد خضرتها, فلا يبقى رئيس متكبر مؤمر, ولا فقير مسكين محتقر إلا ويجري عليهم كأس المنايا, ثم يصيرون إلى التراب...فالعاقل لا يركن إلى هذا نعتها, ولا يطمئن إلى دنيا هذه صفتها, وقد ادخر له ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, فيضن بترك هذا القليل, ويرضي بفوت ذلك الكثير.

لزوم ذكر الموت على الأوقات كلها

الواجب على العاقل أن يضم إلى رعاية ما ذكرنا من شعب العقل في كتابنا هذا لزوم ذكر الموت على الأوقات كلها, وترك الاغترار بالدنيا في الأسباب كلها, إذ الموت رحى دوارة بين الخلق, وكأس يُدار بها عليهم, لا بد لكل ذي روح أن يشربها, ويذوق طعمها, وهو هاذم اللذات, ومنغص الشهوات, ومكدر الأوقات.

العاقل لا ينسي ذكر شيء هو مترقب له, ومنتظر وقوعه, من قدم إلى قدم, فكم من  مُكرم في أهله, مُعظم في قومه, مُبجل في جيرته, لا يخاف الضيق في المعيشة ولا الضنك في المصيبة, إذ ورد عليه مذلل الملوك, وقاهر الجبابرة, وقاصم الطغاة, فألقاه صريعاً بين الأحبة, مفارقاً لأهل بيته وإخوانه, لا يملكون له نفعاً, ولا يستطيعون له دفعاً...فالعاقل لا يغتر بحالة نهايتها تؤدى إلى ما قلنا, ولا يركن إلى  عيش مغبته ما ذكرنا, ولا ينسى حالة لا محالة هو مواقعها, وما لا شك يأتيه, إذ الموت طالب لا يعجزه المقيم, ولا ينفلت منه الهارب.
 

كتبه / فهد  بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
فهد الشويرخ
  • كتب
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية