صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







صيانة الإسلام للمرأة

محمد بن شاكر الشريف


الإسلام هو الدين الذي أنزله الله - تعالى - على رسله جميعاً من لدن آدم - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورضيه للناس ديناً ولم يرضَ ديناً سواه، فليس هو مجموعة أفكار لبعض المفكرين، وليس هو اختيار لبعض أقوال الفقهاء، لذا كان الاعتراض على ما يقرره الدين هو اعتراض على رب العالمين.
وقد جاء الإســلام فــي تشريعــاته المتعلقــة بالمــرأة بما يصونها ويحفظ عليها كرامتها في كل شأنها، وليس التحقير لها والحجر عليها تغليباً لجنس الرجل؛ كما يزعم ذلك من لا خلاق له من الناس، فما أمرُ الله للنساء بالقرار في البيوت ومنع اختلاطهن بالرجال ومنع الخلوة بهن؛ إلا من هذه الصيانة المتعلقة بالعلاقات الاجتماعية بين الجنسين؛ فإن الله - تعالى - خلق النساء على صفة وطبيعة معينة، وقد شرع الله لهن من الأحكام ما يناسب الخلقة التي خلقهن عليها. وفي ظل الحملة المسعورة التي توظف لها كبرى المؤسسات العالمية كالأمم المتحدة لجعل الفساد والشذوذ والتفلُّت من القيود الخلقية عن طريق المؤتمرات والقرارات والاتفاقيات؛ نعالج تلك الصيانة في ثلاثة محاور؛ الأول: الأمر بالقرار في البيت، والثاني: منع الاختلاط بالرجال عند الخروج إذا احتجن إليه، والثالث: منع الدخول عليهن والاختلاء بهن.

أولاً: أمر المرأة بالقرار في بيتها:

أمر الله - سبحانه وتعالى - نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - - ونساءُ المسلمين تبع لهن في ذلك - بالقرار في بيوتهن، فقــال - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: ٣٣]، وقد قرئ قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ} بفتح القاف؛ قرأ بذلك عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين، وهي بمعنى: اقررن، والقرار: الاستقرار والإقامة الدائمة من غير تحوُّل أو انتقال، كما قرأ عامة قراء الكوفة والبصرة بكسر القاف (وقِرن) وهي بمعنى: كنَّ أهل سكينة ووقار. والآية الواحدة إذا ورد فيها أكثر من قراءة كانت كل قراءة فيها في إفادة المعاني والأحكام بمنزلة الآية المستقلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلُّها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلهــا واتبــاع ما تتضمن من المعنى علماً وعملاً، لا يجوز ترك موجب إحداها لأجل الأخرى)[1]. وعلى ذلك؛ فإن قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ} يعبر عن الحالة أو الكيفية التي تكون عليها المرأة في البيت فهي في استقرار دائم وما يتبع ذلك الاستقرار من الطمأنينة وعدم الاضطراب أو القلق، وقراءة (وقِرن) تدل على السكينة والوقار الذي يصاحب الاستقرار والإقامة، ولو جاء التعبير بلفظ (الْزَمْنَ) أو (احتبسْنَ) أو (ابقيْنَ) لأدَّت تلك الألفاظ معنى البقاء في البيت لكنها لن تؤدي معنى الراحة والسكينة والطمأنينة والوقار، وهكذا البيت بالنسبة للمرأة في ميزان الشرع. وقد رشح نظم الآية استقرار المرأة في البيت وذلك بقوله - تعالى -: {فِي بُيُوتِكُنَّ} ولم يقل في البيوت، فأضاف البيوت إلى النساء إضافة تمليك مع أن البيوت في غالب الأحوال ملك الرجل أو مستأجرة عن طريقه - لأن سكن الزوجة ونفقتها تلزم الزوج - وهذه الإضافة تشعر اختصاص المرأة بالقرار في البيوت، فلما اختصت بذلك أنزلتها الآية منزلة المالك للبيت، فإضافته إليها للدلالة على الترابط الوثيق بين المرأة والبيت، وقد نبَّه على هذا المعنى وأشار إليه - فيما يظهر لي - الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - حيث بوَّب في صحيحه على تلك الآية فقال: (باب ما جاء في بيوت أزواج النبــي - صلى الله عليه وسلم - وما نسب من البيوت إليهن، وقول الله - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ} و {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: ٣٥]) فبيَّن البخاري - رحمه الله تعالى - أن البيوت على الحقيقة هي بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بــدليــل قولــه - تعالــى -: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} ومع ذلك فقد أضيفت البيوت إلى أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى -: {فِي بُيُوتِكُنّ}. وقد جاءت إضافة البيت إلى المــرأة في أربعة مواضع من كتاب الله - تعالى - وهي على ترتيب المصحف كما يلي:
الأول: قوله - تعالى -: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: ٣٢].
الثاني: قوله - تعالى -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ}[الأحزاب: ٣٣].
الثالث: قوله - تعالى -: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: ٤٣].
الرابع: قوله - تعالى -: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: ١].
وهناك موضع خامس لم يضف فيه البيت إلى المــرأة وهو قوله - تعالى -: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْـمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } [النساء: ٥١] ولم يقل المولى - جل وعلا -: بيوتهن، وربما كان السبب في ذلك أنها خانت فلم تحافظ على شرف البيت وطهارته، فلذلك لم تستحق أن يضاف إليها.

ثم جاء بعد ذلك ترشيح آخر لاستقرار النساء في البيوت وهـو النهـي عـن التـبـرج الــوارد فـي قـولـه - تعالـى -: {وَلا تَبَرَّجْنَ} [الأحزاب: ٣٣] فكأن عدم القرار في البيت وكثرة الخروج بغير مسوِّغ شرعي يؤدي إلى تبرج المرأة وإظهار زينتها للرجال، وعلى ذلك فإن تركيب ألفاظ الآية قد انتظم حضَّ المرأة على القرار في البيت من ثلاثة أوجه:
الأول: التعبير عن ذلك بالقرار الذي فيه الراحة والوقار والطمأنينة.
الثاني: إضافة البيوت إليهن للدلالة على الارتباط الوثيق بين المرأة والبيت.
الثالث: النهي عن التبرج الذي غالباً ما يكون الخروج من البيت سبباً فيه أو مدعاة له، فكأن عدم القرار في البيت من الوسائل المعينة على التبرج.
يتبين مما تقدم أن قرار المرأة في بيتها هو الأصل وهو العزيمة التي ينبغي على كل امرأة أن تحرص عليها، والتي ينبغي على كل ولي أمر أن يحضها عليها ويلزمها بها، إذا لم تلزم نفسها بذلك، ومما يدل على ذلك الأصل أيضــاً ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خرجت سودة بعدما ضُرِبَ الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا؛ فانظري كيف تخرجين! قالت: فانكفأتْ راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْق، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رُفِعَ عنه، وإن العَرْق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أُذِنَ لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن»[2]. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه قد أُذِنَ لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن» يدلّ على أن الإذن بالخروج مقيَّد بالحاجة؛ فما لم تكن هناك حاجة فالخروج غير مأذون فيه، وهو يبين أن مستقر المرأة إنما هو بيتها، وأن الخروج منه إنما هو أمر عارض في نطاق الحاجة التي أَذِنَ الشرع بها.
يردد أصحاب الفكر النسوي (النساء والرجال) المتغربون أن الحديث عن قرار المرأة في بيتها إنما يعبر عن رغبة بعض الرجـال في التسلـط على النــساء، وإرجاعهن إلى ما يسمونه بـ (عصر الحريم)، أو عن عـــدم الثقة في المـــرأة، أو أن هذا مما يضعف من شخصية المرأة ويحط من قـــدرها ويزري بمكانتها ويمنعها من حقوقها، وأن هذا من التمــييز ضــد المــرأة، أو ما يسمونه بـ (دونية) المـــرأة في المجتمـع الإســـلامي. ولا شك أن هذا رأي خاطئ وظن فاسد، ونقول لهؤلاء: إن الكلام عن قرار المرأة في البيت ليس مجـــرد تصـــور شخصي أو رؤية فردية إنما هو حديث عن حكم شرعي ثبت بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة الثابتة، وما كان كذلك فلا يقال عنه: إن فيه ازدراءً للمرأة وإضعافاً لشخصيتها إلى غير ذلك من الكلمات الشاردة الخاطئة التي لا يرددها إلا من لم يجعل النصوص الشرعية حَكَماً على تصرفات الناس.

فوائد قرار المرأة في البيت:

ولقرار المرأة في بيتها فوائد عظيمة تعود على المرأة نفسها كما تعود على أسرتها وعلى المجتمع الذي تعيش فيه؛ فأُولى تلك الفوائد وأعلاها وأزكاها وأجلُّها: طاعة الله مولاها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الجالبة لرضوان الله وتوفيقه وتسديده، ومنها: التفرُّغ لرعاية الزوج، والتفقد لمواضع رضاه وغضبه واحتياجاته والقيام بواجبها نحوه، ومنها: التفرغ لرعاية أولادها من البنين والبنات وتربيتهم والإحسان إليهم والقيام على شؤونهم ومتابعة أمورهم وعــدم تـرك ذلك للخــادمات أو الخدم، ومنها: التفقد لبيتها واحتياجاته ولوازمه والإشراف على نظافته وطهارته وترتيبه، ومنها: حفظ الوقت الذي هو من أثمن الأشياء، فالوقت هو العمر من حافظ عليه حفظ عمره ومن ضيَّعه ضيَّع عمره، فينفعها ذلك في توفير الوقت للاطلاع على الكتب النافعة المفيدة التي تزيدها علماً وإيماناً وكذلك الاستماع إلى الأشرطة المفيدة، ومنها: إراحة الجسد من تعب الخروج والانتقال، ومنها: القدوة الحسنة لغيرها من النساء القريبات أو الجارات مما قد يحملهن على الاقتداء بها فيعود عليها من وراء ذلك النفع الكثير والأجر العظيم.
كما أن قرار المرأة في بيتها يحفظ عليها دينها ويصونها، ويكف شرها عن الناس وشر الناس عنها، وتأمن بذلك أذيَّة الناس لها وشرهم؛ سواء بالنظر إليها، أو التحــدث معهــا، أو التضييق عليها في الطرقات.

حالات الخروج المأذون فيها:
وقرار المرأة في بيتها لا يعني عدم خروجها منه أبداً بل تخرج للحاجة كما دل على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - السابق. والحاجة هذه قد تكون حاجة دينية وقد تكون حاجة دنيوية كما أنها قد تكون حاجــة المــرأة إلـى الخروج أو حاجة المجتمع إلى خروجها، ولذلك أمثلة متعددة:
1 - فمن ذلك: الخروج للصلاة في المسجد بعد استئذان الزوج أو الولي، وإن كانت صلاتها في بيتها خير لها وأفضل.
2 - ومن ذلك: الخروج لطلب العلم الشرعي المطلوب منها علمه والعمل به إذا لم تتمكن المرأة من تحصيله عن طريق الأب أو الأخ أو الزوج أو الَمحْرَم، أو عن طريق الكتاب والشريط، ولم يمكنها تحصيل العلم الواجب عليها تعلُّمه إلا بالخروج إلى مجلس العلم؛ فإن الخروج حينئذ يكون لطلب علمِ ما أُمرت به أو نُهيت عنه وهذا من الحوائج الشرعية.
3 - ومن ذلك: الخروج لصلاة العيدين، وقد ورد التأكيد على ذلك في السنة الصحيحة، حتى إن بعض أهل العلم يذهب إلى وجوبه.
4 - ومن ذلك: الخروج لحضور العرس والمناسبات الاجتماعية، وقد بوَّب البخاري باباً في صحيحه فقال: باب: ذهاب النساء والصبيان إلى العرس، قال ابن حجر - رحمه الله -: (كأنه ترجم بهذا لئلا يتخيل أحد كراهة ذلك، فأراد أنه مشروع بغير كراهة)[3]، لكن ذلك مقيد بعدم وجود المنكر في الأعراس؛ فإن كان فيها منكر فعليها أن تعمل على إزالته، فإذا لم تكن قادرة على ذلك فلا ينبغي لها الذهاب.
5 - ومن ذلك: الخروج لحاجتها الدنيوية أو الدينية من عمل مشروع ونحوه قد تحتاج المرأة إليه أو يحتاجه منها المجتمع، كما خرجت ابنتا الرجل الصالح لسقي الأنعام؛ إذ كان أبوهما شيخاً كبيراً كما ورد في قصة موسى - عليه السلام - وكما كانت تخرج بعض النساء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد يسقين الماء ويداوين الجرحى.
وينبغي للمرأة عند الخروج - إذا احتاجت إليه - ألا تخرج متبرجة كاشفة عن زينتها أو بعضها، ولا أن تقوم بعمل مما يـدل على الزينة المخفية، أو تخرج متعطرة، بل عليها أن تخـرج بغيـر ذلك؛ فالعطر من المرأة فتنة قد يدفع إلى ما لا تحمد عقباه، ولذا جاء في الحديث: «إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا، قال قولاً شديداً، وفي رواية: فهي زانية»[4]، ولتكن مشيتها سوية بغير تكسُّر أو تهتُّك، بل تكون مستقيمة في مشيتها إلى حيث تريد، يزينها الحياء كما جاء في وصف ابنة الرجل الصالح التي أتت إلى موسى - عليه السلام - تدعوه لمقابلة أبيها قال - تعالى -: {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: ٥٢]، وإذا احتاجت إلى الكلام مع الرجال فليكن الكلام بغير خضوع أو ليونة في الحديث، ولا تكتمل الصيانة في الجانب الاجتماعي إلا بغضِّ البصر، فيغضُّ الرجل بصره عن المرأة، وتغضُّ المرأة بصرها عن الرجل.

والخروج من غير حاجة له مفاسد كثيرة، فمن ذلك:
- تبذُّل المرأة واضطرارها للتحدث مع الرجال الأجانب.
- حدوث الاختلاط بين الرجال والنساء.
- إضاعة الأوقات.
- حدوث الخلافات الأسرية.
- تشتت الأولاد وتعرضهم للضياع.
- تعرض النساء للأذى من الفسّاق.
- حدوث الخلوة المنهي عنها إذا ركبت مع السائق بمفردها.
- الوقوع في التبرج والسفور نظراً إلى كثرة الــخــروج، أو على الأقل التعرض لانكشاف شيء منها نظراً إلى ذلك.

ثانياً: منع الاختلاط عند الخروج:
والاختلاط في اللغة هو الممازجة، واختلط الرجال والنساء أي: تداخل بعضهم في بعض.
جاء في معجم (لسان العرب) في مادة خلط: خلط الشيء بالشيء يخلِطه خلطاً وخلَّطه فاختلط: مزجه واختلطا، وخالط الشيء مخالطة وخِلاطاً: مازجه[5].
قد تحتاج المرأة إلى الخروج على ما سبق ذكره وبيانه، وحينئذ عليها أن تجتنب مخالطة الرجال، وقد دل على ذلك عدة أدلة؛ فعن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو تركنا هذا الباب للنساء» قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات[6]. وقد بيَّن أهل العلم العلة في تخصيص النساء بباب من أبواب المسجد؛ فقال العلَّامة أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في شرحه على ذلك الحديث: (لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد، والحديث فيه دليل أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال، بل يعتزلن في جانب المسجد ويصلين هناك بالاقتداء مع الإمام)[7].
وعن أبي هــريرة - رضــي اللــه عنه - قــال: قــال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيــر صفـوف الـرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها»[8]. قال النووي - رحمه الله تعالى -: (أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صليـن متميــزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها، والمراد بشرِّ الصفوف في الرجال أقلها ثواباً وفضلاً وأبعدها من مطلب الشرع، وخيرها بعكسه). ثم أردف - رحمه الله تعالى - معللاً ذلك بقوله: (وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبُعْدهن عن مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحــو ذلك، وذم أول صفــوفهــن لعكــس ذلــك. والله أعلم)[9]، وما روته أم سلمة: «أن النساء في عهــد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلَّمن من المكتــوبة قُمْــن وثبــت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال»[10]. وفي لفظ: «كان يسلم فينصرف النســاء فيدخلن بيوتهــن من قبل أن ينصــرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»[11]. قال محمد بن شهاب الزهري - رحمه الله - في تفسير مكث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (فـــأرى - واللــه أعلم - أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف مـن القــوم)[12]. قال ابن حجــر - رحمــه الله تعالى -: (وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، وفيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البـيوت. ومقتضــى التعليــل المذكور أن المــأمــومــين إذا كانوا رجالاً فقط أن لا يستحب هذا المكث)[13]. وما رواه ابن عبـاس - رضـي الله تعـالى عنهـما -: «أشهـد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلَّى قبل الخطبة قال: ثم خطب فرأى أنه لم يُسمِع النساء فأتاهن فذكَّرهن ووعظهن...» الحديث[14].
قال النووي - رحمه الله تعالى -: (وفي هذه الأحاديث استحباب وعظ النساء وتذكيرهن الآخرة وأحكام الإسلام وحثهن على الصدقة، وهذا إذا لم يترتب على ذلك مفسدة وخوف على الواعظ والموعوظ أو غيرها، وفيه أن النساء إذا حضرت صلاة الرجال ومجامعهم يكُنّ بمعزل عنهم خوفاً من فتنة أو نظر أو فكر ونحوه)[15]. وفي لفظ البخاري: «ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكَّرهن».. الحديث، قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (قوله: «ثم أتى النساء» يُشعر بأن النساء كن على حِدَةٍ من الرجال غير مختلطات بهم، قوله: «ومعه بلال» فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظـة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه؛ لأن بلالاً كان خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومتولِّي قبض الصدقة)[16]. ومن ذلك: ما رواه حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء: «استأخرن؛ فإنه ليس لَكُنَّ أن تحْقُقْن الطريق[17]، عليكن بحافات الطريق»، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به[18]. فكما منع الإسلام الاختلاط في أماكن التجمعات الدائمة كالمساجد ونحوها كذلك منعه في أماكن التجمعات المؤقتة كالطريق الذي يجمع من مرَّ فيه من الناس، ومع أن هذا الاجتماع عارض؛ فهذا يمشي لشأنه وذاك يمشي لشأنه وقد يمضيان معاً في طريق واحد ثم لا يلتقيان بعد ذلك أبداً؛ ومع ذلك فإن النص الشرعي قد جاء بالمنع من الاختلاط في هذه الحالة العارضة؛ لما يترتب على الاختلاط من مفاسد. ولما كان وسط الطريق وصدره من شأنه أن يبرز ويظهر من يمشي فيه؛ فقد منع النص النساء من التصدر في الطريق، وبيَّن أن وسط الطريق وصدره إنما هو للرجال وليس للنساء، وأن أمر النساء مبني على الستر، فعليها لذلك أن تنتحي جانباً من جوانب الطريق استكمالاً للستر المطلوب، وذلك أحفظ لهن وأبعد عن مخالطة الرجال؛ وفي هذا صيانة لهن ولدينهن. ولقد تجاوبت النساء الكريمات مع هذا التوجيه النبوي الكريم الذي يحفظ للمرأة مكانتها ويحافظ عليها، فكانت الواحدة منهن - رضي الله تعالى عنهن - تمشي أقصى حافة الطريق حتى تلتصق الواحدة منهن بجدار البيوت التي في الطرق من شدة بُعْدهن عن وسط الطريق.
وهذا الحديث فيه بيان لفساد توهم قد يتوهمه بعض الناس وهو أن الاختلاط إنما يُنهى عنه إذا كان بالجلوس وطول المكث في مكان واحد مع ما يصاحب ذلك من كلام وأحاديث، فهذا وإن كان منهياً عنه بلا شك؛ فإن مجرد الاختلاط العارض الذي يقع في الطريق فإنه منهي عنه أيضاً، وهذا الحديث موافق لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قــال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس للنساء وسط الطريق»[19]. ولعل ذلك ما دعا علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أن ينكر ما رآه مخالفاً لتلك النصوص من اختلاط النساء بالرجال، فقال: «أما تغارون أن يخرج نساؤكم»، وفي رواية: «ألا تستـحيــون أو تغارون؛ فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج»[20]. وفيه إشارة إلى أن ترك النساء يزاحمن الرجال في الأسواق دليل على ضعف الغيرة أو الحياء.
قال ابن القـيم - رحمه الله تعالى -: (وليُّ الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق، والفُرَج، ومجامع الرجال). وقال: (وقد منع أمير المؤمنين عــمر بن الخــطاب - رضــي الله عنه - النساء من المشي في طريق الرجال، والاختلاط بهم في الطريق. فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك..). إلى أن يقول: (ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة)[21].
ومن ذلك: ما قاله ابن جريج: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الرجال؟ قلت: أَبَعْدَ الحجاب أو قبل؟ قال: إي! لَعَمْري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يَكُنَّ يخالطن، كانت عائشة - رضي الله عنها - تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين! قالت: انطلقي عنك، وأبت...)[22]. ولما ظن ابن جريج أن اعتراض عطاء على فعل ابن هشام يعني اختلاط النساء بالرجال أثناء الطواف احتاج أن يستفسر منه: أطواف نساء النبي مع الرجال بعد الحجاب أو قبله؟ فبين له عطاء أنه لم يدرك ذلك إلا بعد الحجاب قطعاً؛ لأنه تابعي، والتابعي لم يعاصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتشريع الحجاب إنما نزل في عصره - صلى الله عليه وسلم -، حينئذ قال ابن جريج مستفهماً أو مستنكراً: كيف يخالطن الرجال؟ وذلك لظنِّه أن طواف الرجال والنساء معاً يستلزم الاختلاط، وهنا بيَّن عطاء - رحمه الله - أن طواف النساء في وقت طواف الرجال لا يستلزم بالضرورة الاختلاط؛ إذ كن النساء يطفن مبتعدات عن الرجال ولذا ردَّ عليه بقوله: لم يَكُنَّ يخالطن، كانت عائشة - رضي الله عنها - تطوف حَجْرة من الرجال أي: مبتعدة عنهم لا تخالطهم. أقول: هذا الحوار الدائر بين ابن جريج وبين عطاء - رحمهما الله تعالى - يدل على أن المنع من اختلاط النساء بالرجال كان من أمر الناس القديم، وأنه كان مقرراً معروفاً عندهم، وهذا يبين أيضاً أن منع الاختلاط داخلٌ في معنى الحجاب المأمور به.
ثالثاً: منع الدخول عليهن والاختلاء بهن:
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ»[23].
أمرت الشريعة المرأة بالقرار في بيتها، ومنعتها من الخروج إلا لحاجة، فإذا احتاجت المرأة إلى الخروج جاز لها ذلك، وفق الضوابط الشرعية التي تقدم ذكر بعض منها؛ صيانة للمجتمع وحفظاً لدينه؛ فلما سدَّت الشريعة منافذ اجتماع الرجال والنساء واختلاطهم مع بعضهم بما تقدم من التدابير السابقة؛ بقي منفذ واحد: ألا وهو دخول الرجال الأجانب على النساء في بيوتهن، ولا يكتمل الحفظ والصيانة المطلوبة إلا بإغلاق هذا المنفذ، ومنع الدخول عليها في بيتها والخلوة بها؛ فإن الدخول عليها في بيتها والخلوة بها فيه من الشر أكثر مما في خروجها، لذا كانت العلة التي دعت إلى منع خروجها إلا لحاجة قاضية بمنع الدخول عليها والخلوة بها، وهو ما جاء في هذا الحديث وما شابهه.
فاختلاط الرجال والنساء إما يكون بخروج المرأة إلى مجامع الرجال، وإما يكون بدخول الرجال بيوت النساء، والشريعة قد سدَّت هذا وهذا، ووضعت لكل حالة ضوابطها، وقد حذَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب أشد التحذير من الدخول على النساء الأجنبيات، فقال: «إياكم والدخول على النساء»، أي: أحذركم التحذير الشديد من الدخول على النساء. وقد فهم الصحابة - رضوان الله عليهم - من ذلك العموم، وأن هذا دال على المنع من دخول الرجال جميعهم على النساء، فاحتاجوا إلى الاستفسار عن حكم دخول أقارب الزوج على المرأة، وكأن عادة الناس قبل هذا التشريع التساهل في هذا الأمر؛ اعتماداً على الثقة الناتجة من القرابة، التي تجعل الحفاظ على أعراض الأقارب همّاً مشتركاً، فكان جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك جواباً حاسماً قاطعاً، لم يدع لسامع مجالاً أن يفهم غير تحريم دخول الرجال الأجانب على النساء، وقد كان التعبير النبوي عن ذلك في أعلى درجات البلاغة والبيان، بل كان أبلغ من أن يقول: حرام، وأقدر على تأدية المعنى المراد وتوصيل الرسالة المطلوب إيصالها، وأوقع في ذهن السامع، وجالب لصورة من الصور البشعة في مخيلة السامع، حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «الحمو الموت»، فكأن أشد الداخلين على المرأة خطراً وأعظمهم مصيبة: الحمو.
قال النووي - رحمه الله تعالى -: (فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره، والشر يتوقع منه، والفتنة أكثر؛ لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن يُنكر عليه، بخلاف الأجنبي)[24]. وقال ابن حجر: (قال عياض: معناه أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت، وأورد الكلام مورد التغليظ، وقال القرطبي في المفهم: المعنى أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة؛ أي: فهو محرم معلوم التحريم، وإنما بالغ في الزجر عنه وشبَّهه بالموت لتسامح الناس به من جهة الزوج والزوجة؛ لإلفهم بذلك حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة، فخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت، والحرب الموت، أي: لقاؤه يفضي إلى الموت، وكذلك الدخول على المرأة قد يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج، أو إلى الرجم إن وقعت الفاحشة)[25].
والدخول على المرأة يفضي غالباً إلى الخلوة بها، خاصة مع تزيين الشيطان ذلك، وهذه مفسدة خالصة ليس وراءها مصلحة شرعية معتبرة، لذلك حرمت الشريعة الدخول على النساء والخلوة بهن، ولذلك أيضاً قال الرســول - صلى الله عليه وسلم -: «ألا لا يخلُوَن رجــل بامرأة؛ فإن ثالثهما الشيطان»[26]، فإذا كان الشيطان هو جليس الرجل والمرأة في الخلوة، فبماذا عساه أن يأمر؟ وإلى أي شيء يدعو؟ إن الشيطان داعية كل شر، فإذا خلا رجل بامرأة حضرهما الشيطان وزيَّن لهما الشر، ووسوس به وحضَّ عليه، وسهَّل لهما أمره، ووعدهما ومنَّاهما أن الأمر مستور، وأن الحال غير مكشوفة، وأن باب التوبة بعد ذلك مفتوح، ليوردهم موارد الهلكة؛ {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُورًا} [النساء: 120].

لكن الحاجة قد تدعو وتلجئ إلى دخول الأجنبي على المرأة؛ فما العمل حينئذ؟ لقد راعت الشريعة ذلك لكن في ظل الحفظ والصيانة والديانة، فاشترطت لذلك وجود الَمحْرَم الذي يمثل وجوده صِمَام أمان؛ حيث يكون وجوده في هذه الحالة طارداً لكل وساوس الشيطان. وقد ورد اشتراط المحرم في أكثر من حديث؛ فمن ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يخلُوَنْ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم..» الحديث[27]؛ قال النووي - رحمه الله تعالى -: (قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومعها ذو محرم»، يحتمل أن يريد محرماً لها، ويحتمل أن يريد محرماً لها أو له، وهذا الاحتمال الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء؛ فإنه لا فرق بـين أن يكون معـها محرم لها كابنها وأخيها وأمها وأختها، أو يكون محرماً له كأخته وبنته وعمته وخالته، فيجوز القعود معها في هذه الأحوال، ثم إن الحديث مخصوص أيضاً بالزوج؛ فلو كان معها زوجها كان كالمحرم وأَوْلى بالجواز، وأما إذا خلا الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما فهو حرام باتفاق العلماء، وكذا لو كان معهما من لا يستحي منه لصغره؛ كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك؛ فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام، بخلاف ما لو اجتمع بنسوة أجانب فإن الصحيح جوازه... قال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة أو غيرها، ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة؛ بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك فيباح له استصحابها، بل يلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهـذا لا اختـلاف فـيه، ويـدل عليه حديث عائشة في قصة الإفك، والله أعلم)[28].

والخلوة المنهيّ عنها ليست هي الخلوة التي تكون بحيث تحتجب أشخاصهما عن أعين الناس داخل حجرة أو بناء أو ما أشبه ذلك فقط، بل لو خلا بها بحيث احتجبت أشخاصهما عن أعين الناس، ولو كانا في فضاء أو خلاء، أو ظلام، أو كانا في طريق أو مكان مهجور لا يسلكه الناس؛ فإن هذا من الخلوة المنهي عنها، والشر حاصل منها. أما إذا خلا الرجل المأمون بالمرأة بحيث لا تحتجب أشخاصهما عن أعين الناس، بل بحيث لا يسمع الناس كلامهما فقط مع رؤية الناس لهما؛ فإن هذا مما يجوز عند الحاجة إليه، وقد دل على ذلك حديث أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: «جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فخلا بها، فقال: والله إنكم لأحب الناس إليَّ»[29]، وقد بوَّب عليه البخاري بقوله: (باب: ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس)، قال ابن حجر في شرح ذلك: (أي: لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما، إذا كان بما يُخـافَتْ بـه؛ كالشـيء الذي تسـتحي المرأة مـن ذكره بـين الـناس، وأخـذ المصنف قوله: عند الناس، من قوله في بعض طرق الحديث: فخلا بها في بعض الطرق أو في بعض السكك، وهي الطرق المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالباً). ثم نقل عن المهلب قوله: (لم يُرِدْ أنس أنه خلا بها بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما من الكلام؛ ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما لأنه لم يسمعه).. ثم قال ابن حجر معلقاً على شرح الحديث: (وفيه أن مفاوضة الأجنبية سراً لا يقدح في الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة: وأيكم يملك إربه، كما كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يملك؟)[30].

وممن يُنهى عن الدخول على النساء والخلوة بهن: المخنثون. والمخنث هو: (من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة لم يكن عليه لوم، وعليه أن يتكلف إزالة ذلك، وإن كان بُقصَد منه وتكلَّف له فهو المذموم. ويطلق عليه اسم مخنث سواء فعل الفاحشة أو لم يفعل؛ قال ابن حبيب: المخنث هو المؤنث من الرجال، وإن لم تُعرَف منه الفاحشة؛ مأخوذ من التكسر في المشي وغيره)[31]، فمن كان من هؤلاء المخنثين لا يفطن لشيء من أمر النساء مما يفطن له الرجال ولا إربة له في ذلك؛ فإن دخوله على المرأة وخلوته بها لا محذور فيه، وهي مما تجوز ولا ينهى عنها؛ لأنه مثل المرأة، وأما إن كان ممن يتكلف الانخناث، ويفطن من أمر النساء ما يفطن له الرجال، فإنه لا يحل دخوله على النساء والخلوة بهن، وقد جاء في ذلك حديـث؛ فعن أم سلمة - رضــي الله تعــالى عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عندهــا وفي البــيت مخنــث، فقال المخنـث لأخـي أم سلمة - عبد الله بن أبي أمية -: إن فتح الله لكم الطائف غداً أدلُّك على ابنة غيلان؛ فإنها تُقْبِل بأربع وتُدْبِر بثمان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخلن هذا عليكن»[32]. فهذا المخنث كان يدخل على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان منظوراً إليه لمشابهته للنساء على أنه من غـير أُولــي الإربـة من الرجـال، الــذين لا يفطنون لأمر النسـاء، كمــا دل عــلى ذلــك حـديث عائـشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: «كان يدخل علــى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث، فكانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة، قالت: فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقــال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا أرى، هذا يعرف ما ها هنا، لا يدخلن عليكن! قالت: فحجبوه»[33]. فلما تبيَّن أنه ليس كذلك بدليل كلامه على ابنة غيلان ووصفه لها بما يدل على معرفته بمواطن الجمال في النساء؛ منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من دخوله على النساء، وقد بوَّب البخاري على هذا الحديث بقــوله: (باب: ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة).

وخـلو الرجـل بالمرأة ومساررته لها مظنة التهمة، لذا ينبغي لمن رُئي في مكان ومعه امرأة وهو مَحْرَم لها أن يتحرَّز من التعرض لسوء الظن من الناس، ويطلب السلامة لنفسه في ذلك ويعتذر بالأعذار الصحيحة الواضـحة صيانةً لعرضه؛ فعــن أنس - رضي الله عنه - أن النبـي - صلى الله عليه وسلم - كــان مع إحــدى نـــسائه، فمــر به رجـل، فــدعـاه فجـاء، فـقـال: يا فـلان! هذه زوجتي فلانـة، فقـال: يا رسـول الله! مـن كنت أظن، فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشـيطان يجري من الإنسان مجرى الدم»[34]. فالإنسان متى مــا فعل ما هو حق مما قد يُنكَر ظاهره عند من لا يعلم حقيقة الأمر؛ فعليه أن يبين حاله ليدفع عن نفسه ظن السوء، وليرحم إخوانه من وقوعهم فيه، وقد قال النووي في ترجمة هذا الحديث: «يستحب لمن رئي خالياً بامــرأة، وكــانت زوجتــه أو محرماً لها، أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء»[35].

تنبيه: في حكم الخلوة بالأمرد:

الأمرد هو الفتى الذي لم تنبت له لحية؛ قال النووي: «والمختار عند أصحابنا أن الخلوة بالأمرد الأجنبي الحسن كالمرأة، فتحرم الخلوة به حيث حرمت بالمرأة إلا إذا كان في جمع من الرجال المصونين»[36]
وهكذا يتبين لنا أن الشرع الإســلامي، في كــل ما تقدم، لا يهــدف إلا إلى حمــاية المــرأة وصــيانتهــا؛ لأن الــله - تـعالى - هو الذي خلق الذكر والأنثى وهــو أعلم بهــما، بعكــــس ما يحاوله الكثيرون من فتح أبواب الاختلاط والخروج بدون ضوابط، والدخول على النساء والخلوة بهن في غير وجود محرم؛ بزعم الثقة (الكاذبة) وأن المرأة قد بلغت رشدها، وأن المدنية قد هذَّبت من طباع الناس، ويوشك هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: ٩١].


----------------------------------------
[1] مجموع الفتاوى: 13/392.
[2] أخرجه البخاري: كتاب التفسير، رقم4421. ومسلم: رقم 2170. العَرْق: عَظْمٌ عليه قليل من اللحم.
[3] فتح الباري: 9/156.
[4] أخرجه أبو داود: كتاب الترجل، رقم 4173. والترمذي: كتاب الزينة، رقم 5126. وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. كما أخرجه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما.
[5] لسان العرب: مادة: خلط، 7/291.
[6] أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، رقم 484، وقال: رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع قال: قال عمر وهو أصح، وصحح الألباني المرفوع منه «لو تركنا هذا الباب للنساء» صحيح أبي داود رقم 534. فالحاصل أن الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، قال شمس الحق صاحب عون المعبود: والأشبه أن يكون الحديث مرفوعاً وموقوفاً. وعبد الوارث (الراوي عن أيوب عن نافع) ثقة تقبل زيادته (عون المعبود: 2/92).
[7] عون المعبود: 2/130.
[8] أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، رقم 664.
[9] المنهاج شرح النووي على صحيح مسلم: 4/210.
[10] أخرجه البخاري: كتاب الأذان، رقم 819.
[11] أخرجه البخاري: كتاب الأذان، رقم 803.
[12] أخرجه البخاري: كتاب الأذان، رقم 793.
[13] فتح الباري: 2/391 - 392.
[14] أخرجه مسلم: كتاب صلاة العيدين، واللفظ له، رقم 1465. والبخاري: كتاب الزكاة، رقم 1375.
[15] المنهاج شرح النووي على صحيح مسلم: 6/246.
[16] فتح الباري: 2/540.
[17] تحققن الطريق: تركبن حُقَّها وهو وسطها.
[18] أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، رقم 4588، وقال الألباني: حسن (صحيح أبي داود رقم 4392).
[19] أخرجه ابن حبان في صحيحه: 12/415، وقال الألباني: حسن لشواهده (السلسلة الصحيحة: 2/511، رقم 856).
[20] أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند: رقم 1063، وقال الشيخ أحمد بن محمد شاكر: إسناداه صحيحان، والعلوج: جمع علج وهو الرجل الكافر من العجم.
[21] الطرق الحكمية، ص 237 - 239.
[22] أخرجه البخاري: كتاب الحج، رقم 1513. وعبد الرزاق في المصنف: 5/66، وفيه حجزة بدلاً من حجرة.
[23] أخرجه البخاري: كتاب النكاح، رقم 5232. ومسلم: كتاب النكاح، رقم 2172.
[24] المنهاج، شرح صحيح مسلم: 14/220.
[25] فتح الباري: 9/243 - 244.
[26] أخرجه ابن حبان في صحيحه: 12/399. والحاكم في المستدرك: 1/197، وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي، والترمذي: كتاب الفتن رقم2091. وقال: حديث حسن صحيح غريب. وأحمد: رقم 109. قال الشيخ الأرناؤوط: صحيح.
[27] أخرجه البخاري: كتاب النكاح، رقم 5233. ومسلم: كتاب الحج، رقم 1341.
[28] المنهاج، شرح صحيح مسلم: 9/155 - 156.
[29] أخرجه البخاري: كتاب النكاح، رقم 5234. ومسلم: فضائل الصحابة، رقم 2509.
[30] فتح الباري: 9/244 - 245.
[31] فتح الباري: 9/246.
[32] أخرجه البخاري: كتاب النكاح، رقم 2235.
[33] أخرجه مسلم: كتاب السلام، رقم 2181.
[34] أخرجه مسلم: كتاب السلام، رقم 2174.
[35] المنهاج، شرح صحيح مسلم: 14/223.
[36] المنهاج، شرح صحيح مسلم: 9/156.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية