اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/alsaqa/18.htm?print_it=1

وعاء القوم المشروخ

طارق حسن السقا

 
يظل الإنسان محاطاً بهالة من الغموض والإجلال والمهابة مادام صامتاً , فإذا ما تحدث فإما أن تزداد هذه المهابة وهذا الإجلال وإما أن تتهاوى مع أول كلمة ينطق بها ,
فاللغة ما هي إلا وعاء يعكس الفكر والحياة والسلوك , لذلك يرى البعض أنه من الصعب أن تكون اللغة متدنية وصاحبها ناجح في عمله أو تكون لديه رؤية أو يرجى منه خيرا .

وحدث أن نطق أحد طلاب كلية الآداب جامعة القاهرة اسم
الشاعر العربي المُجيد( أبو نُواس) مفتوحا في حضرة عميد الكلية آنذاك الدكتور طه حسين, فما كان من الأخير إلا أن أصدر قرارا بفصل الطالب من كلية الآداب وقال كلمته المشهورة : كيف ننعم عليه بدرجة الليسانس وهو لا يستطيع أن يفرق بين أبي نُواس و أبي نَواس ؟! وكانت الفتحة التي حلت محل الضمة هي القشة التي قصمت ظهر البعير .

و لما قامت
ثورة يوليو1952 م , وعقب إذاعة البيان العسكري الأول للثورة , قال بعض المحللين : إن مصر وقعت في أيدي عصبة من اللصوص , وإن هذا الانقلاب مآله إلى الفشل . لقد تولد هذا الانطباع عند من قالوا به بعد سماعهم لبيان الثورة الأول الذي جاء مليئا بالأخطاء النحوية واللغوية , ومن هذا البيان الركيك تولد الانطباع الأول عن الثورة ورجالها عند كثير من المحللين .

ولما جاء السادات إلى الحكم – بعد
عبد الناصر – قارن الناس بين خطب السادات التي كانت مترعة باللغة العامية والبساطة المصرية , وبين خطب ناصر التي كانت مترعة بالفصاحة والحماسة والعصبية , وبعد سماعه لأول خطاب سياسي للسادات توقع هنري كيسنجر - وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق في الولايات المتحدة - أن السادات لن يبقى في حكم مصر سوى أسابيع قليلة , وأن فترة حكم السادات هي مجرد فترة انتقالية حتى تظهر الخلافة الحقيقية لعبد الناصر .لقد تكون حكم كيسنجر على السادات بناءً على الانطباع الأول الذي عكسته خطب السادات ذات الأسلوب العامي الركيك من وجهة نظر كيسنجر.

هذا يأخذنا إلى قناعة يؤمن بها علماء اللغة - ويجب أن نؤمن بها نحن كذلك – وهي أن اللغة هي وعاء الفكر، فإذا كانت اللغة تافهة , فإن الأفكار والرؤى والمضامين حتما ستكون تافهة ، وإذا كان الوعاء الذي يحمل الأفكار منكسرا مشروخا , فمن الطبيعي أن يكون التفكير فاشلا ومنهارا ، وبالتالي تكون حياتنا مسلسلا من الفشل والإخفاق , ذلك لأن الفكر جزء من الحياة كما يقول
الدكتور أحمد كشك .

إن المتتبع للمستوى الذي وصلت إليه لغتنا العربية يصعق لما وصلت إليها في بلادنا اليوم , فلم تعد ظاهرة الأخطاء اللغوية - نطقًا وكتابة - يقع فيها
طلاب الجامعات وطلاب المدارس فقط , بل تسللت إلى أصحاب مهن رفيعة يعجب المرء من إهمال أربابها لمحور اللغة في حياتهم , كما تسللت إلى وسائل إعلام مفترض أنها محترمة تقوم بتنمية الذوق العام للمجتمع , وتثقف حواس أبنائه وتنميها ؛ تسللت إلى سياسيين ليس فقط في محافل محلية داخلية , بل في محافل رسميه دولية ؛ تسللت إلى قطاعات أخرى عديدة يفترض أنها تربي المجتمع وتشكل عقليته .

إن سياسية تشجيع تخريب لغتنا العربية هو جزء من محاولات حثيثة بدأت منذ زمن بعيد بهدف القضاء على هذه اللغة , فأعداؤنا يعلمون – ويجب أن نعلم نحن كذلك – أن ضياع اللغة العربية واندثارها معناه اندثار هذا الدين وتواريه
( هناك 3500 لغة من أصل سبعة آلاف مهددة بالاندثار ) , ولعل ذلك يوضح لنا معنى الحملات المتتالية التي نجحت في جعل اللغة العربية موضع ازدراء وتهكم عند كثيرين من أبناء العرب , ومعنى الدعوات التي خرجت تنادي بضرورة تبسيط النحو والصرف , ومعنى الدعوات التي خرجت تنادي بضرورة استبدال العربية بالعامية , ومعنى الدعوات التي نادت بتدوين العلوم باللغة العامية المصرية , ومعنى الحملات التي نجحت في تأليف أذهان قطاعات عريضة من أبناء المجتمع الإسلامي بأن اللغات الأوروبية هي لغات التحضر
والتقدم , كما أنها دليل على أن متحدثها من جنس أرقى من بقية الأجناس الأخرى , مما جعل الناس يتكالبون على تعليم تلك
اللغات , ومن ثم تحلوا بثقافتها , وأداروا ظهورهم للغة العربية وثقافتها وحضارتها ورموزها .

إن الاهتمام باللغة العربية والحرص عليها واجب ديني ووطني ، فكما يقول
ابن تيمية " إن معرفة اللغة من الدين , ومعرفتها فرض واجب , كما أن فهم الكتاب والسنة فرض , ولا يفهم إلا بفهم العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " , وكما يقول العلامة أبو منصور الثعالبي في مقدمة كتابه ( فقه اللغة وسر العربية ) : " من أحب الله تعالى أحب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , ومن أحب الرسول العربي أحب العرب , ومن أحب العرب أحب العربية , ومن أحب العربية عُنِيَ بها , وثابر عليها , وصرف همته إليها " . نعم الحرص عليها واجب ديني ووطني لأنه " ما ذلت لغة شعب إلا ذل ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار " كما قال مصطفى صادق الرافعي في كتابه ( وحي القلم ) ؛ واجب نضعه في رقاب الشرفاء والمخلصين من أبناء هذه الأمة خاصة أولئك الذين أخذوا على عاتقهم النهوض بهذه الأمة , والسعي من أجلها , والتضحية من أجل استعادة مجدها التليد .

إن
لغتنا العربية كنز كبير , والمؤامرة عليها أكبر وأكبر , فمحور اللغة من بديهيات المواجهة مع أعداء هذا الدين على اختلاف عباءاتهم وتلون أساليبهم الإجرامية , لذلك وجب علينا جميعا الدفاع عنها والحفاظ عليها , لأن اندثار لغتنا يعني اندثار شخصيتنا الحضارية وهويتنا الإسلامية , ولنعلم جميعا أنه حينما يفرط شاب أو فتاة , إعلامي أو سياسي, معلم أو متعلم في هذه اللغة ويتساهل فيها فإنه بذلك يهدي أعداء الأمة نصرا سهلا يسيرا .

لذلك نرى أنه آن الأوان أن يلبس كل غيور من أبناء الأمة لأمته للدفاع عن لغتنا العربية , ولنوقن تماما بأن الدفاع عن اللغة يصب مباشرة في خانة الحفاظ على الدين والهوية والحضارة والثقافة والتراث , وكلها مستهدفات كبيرة تشير كل الدلائل أن عدونا النهم وضعها على المائدة وليس بينه وبين أن يلتهمها التهاما إلا إحضار
الشوكة والسكين .

فليجتهد كل منا في أن يتكلم العربية الفصحى قدر استطاعته , فإن ذلك من شعائر الإسلام كما يقول الإمام
حسن البنا في وصاياه العشر , لنجتهد في توريث هذه اللغة إلى الأجيال القادمة - جيلا تلو جيل - سليمة نقية عفية , لنجتهد في أن ندرأ عنها العجمة واللحن , وأن نسعى لنعيد لها رواءها وجمالها ونصاعتها , ولنسعى السعي الجاد بأن نجعل الفصحى هي اللغة الأولى في مختلف ميادين المعارف والآداب والعلوم , لنجتهد في جعلها اللغة السائدة في محافلنا السياسية والعلمية والفنية , ليبذل كل منا جهده قدر استطاعته في ترميم وعاء القوم , فوعاء القوم مشروخ مشروخ مشروخ .


طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com

 

طارق السقا
  • الفرد المسلم
  • الأسرة المسلمة
  • المجتمع المسلم
  • الحكومة المسلمة
  • أستاذية العالم
  • أعداء الأمة
  • الصفحة الرئيسية