اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/alsaber/93.htm?print_it=1

خطبة : أصحاب الجنة  
للشيخ محمد السبر بجامع موضي السديري بالرياض 

محمد بن ابراهيم بن سعود السبر

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق تقاته: ( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

عباد الله : يقول الله تبارك وتعالى: ( لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)

أصحاب الجنة هم المؤمنون الموحدون، فكل من أشرك بالله أو كفر به، أو كذب بأصل من أصول الإيمان فإنه يحرم من الجنان، ويكون في النيران.

والقرآن الكريم ذكر كثيراً أن أصحاب الجنة هم المؤمنون الذين يعملون الصالحات، وفي بعض الأحيان يفصل الأعمال الصالحة التي يستحق بها صاحبها الجنة، فهم دخلوها بأسباب إيمانهم وأعمالهم الصالحة، ولكن الذي أوجب ذلك رحمة الله ومغفرته، كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " فدخولهم الجنة برحمة الله وفضله، لا بمجرد أعمالهم، بل أعمالهم أسباب، والذي يسرها وأعان عليها وأوجب دخول الجنة ومَن بذلك هو الله وحده سبحانه.

ومن المواضع التي نص القرآن العظيم على استحقاق أهل الجنة الجنة بالإيمان والأعمال الصالحة قوله تعالى: ( وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ) ، وقوله: ( وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) وغيرها من الآيات ..

فأصحاب الجنة استحقوها بالإسلام والإيمان: ( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) .

أصحاب الجنة أخلصوا دينهم لله: (إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَناتِ النَّعِيمِ ) .

أصحاب الجنة قوي ارتباطهم بالله وعظمت رغبتهم إليه وعبادتهم له : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

ومن أعمال أصحاب الجنة الصبر والتوكل : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ).

ومن أعمالهم الاستقامة على الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .

ومنها الاخبات إلى الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ، ومن ذلك الخوف من الله : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) . وقال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ .

أصحاب الجنة يحققون عقيدة الولاء والبراء بالحب في الله والبغض في الله فلا يوادون الكفرة والمشركين : ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).

وذكر الله في سورة الرعد أنهم استحقوها باعتقادهم أن ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، وبوفائهم بالعهود، وعدم نقضهم الميثاق، ووصلهم ما أمر الله بوصله، وخشيتهم لله، وخوفهم من سوء الحساب، وصبرهم لله، وإقام الصلاة، والإنفاق سراً وعلانية، ودرئهم بالحسنة السيئة ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِما رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدار ) .

وفي مطلع سورة المؤمنون حكم تبارك وتعالى أن الفلاح إنما هو للمؤمنين، ثم بين الأعمال التي تؤهلهم للفلاح، وأعلمنا أن فلاحهم إنما يكون بإدخالهم الفردوس خالدين فيها أبداً : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .

وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أعمال عظيمة يستحق بها أصحابها الجنة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: " وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال "

الجنة درجة عالية، والصعود إلى العلياء يحتاج إلى جهد كبير، وطريق الجنة فيه مخالفة لأهواء النفوس ومحبوباتها، وهذا يحتاج إلى عزيمة ماضية، وإرادة قوية، ففي الحديث الذي يرويه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره" ولمسلم حفت بدل حجبت . قال النووي في (شرحه على مسلم): هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، ومعناه لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادة، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك " أ. هـ.  

والضعفاء أكثر أهل الجنة الذين لا يأبه الناس لهم، ولكنهم عند الله عظماء، لإخباتهم لربهم، وتذللهم له، وقيامهم بحق العبودية لله، روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى، قال: كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره "  . قال النووي في شرحه للحديث: ومعناه يستضعفه الناس، ويحتقرونه، ويتجبرون عليه، لضعف حاله في الدنيا، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء... وليس المراد الاستيعاب . وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" . وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"    
نسأل الله أن يجعلنا من أصحاب الجنة الفائزين، وأن يغفر لنا ذنوبنا، ويجنبنا النار، إنه سميع مجيب
.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

الخطبة الثانية :

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد، فاتقوا الله عباد حق التقوى . واعلموا أن الله جل في علاه يقول : ( لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ) أي في الفضل والرتبة، فهل يستوي من حافظ على تقوى الله ونظر لما قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن غفل عن ذكر الله، ونسي حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون.

 ( أصحاب الجنة هم الفائزون  (قال ابن كثير: أي : الناجون المسلمون من عذاب الله عز وجل .أهـ . وقيل : أي المقربون المكرمون . وصدق الله تبارك وتعالى : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) ، ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) ، (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار).

هذا وصلوا رحمكم الله على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبدالله ..

  
 

محمد السبر
  • خطب دعوية
  • مقالات دعوية
  • تحقيقات وحوارات صحفية
  • الصفحة الرئيسية