اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/alnaim/31.htm?print_it=1

انتكاسة العقول

د.محمد بن إبراهيم النعيم -رحمه الله-

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الذي أحسن كلَّ شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد الأنبياء والمرسلين، صل الله عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم أجمعين وسلم تسليماً كثيرا.
 أما بعد:
لقد وهب الله تبارك وتعالى للإنسان عقلا مبدعا ومدبرا ميزه به عن الحيوانات ليفكر به ويبدعَ فيه ويعرفَ الصواب من الخطأ، ولقد خاطب الله تعالى هذا العقل في كتابه ودعا الإنسان مرات عديدة وبصيغ مختلفة إلى تحكيم عقله، فقال له (لعلكم تعقلون) ثماني مرات في كتابه، وقال (أفلا تعقلون) ثلاث عشرة مرة، وكرر كلمة (يعقلون) اثنين وعشرين مرة كمثل قوله تعالى (لقوم يعقلون). كل ذلك ليبين لنا أهمية تحكيم العقل على الهوى.
ولماذا لم يؤاخذ الله تعالى المجنون والنائم والصغير؟ لأنهم لا يعقلون، وأما العاقل فخصيم نفسه.
ولذلك سيعترف الكفار وهم في النار أنهم لم يستخدموا عقولهم لمعرفة الحق، فقال تعالى في شأنهم }وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ{. فمن لم يستخدم عقله في التمييز بين الحق والباطل فهو إنسان غبي ومنتكس. والإنسان إذا ابتعد عن منهج الله، وُكِلَ إلى نفسه وأصبح يتخبط في أمر مستقبله وتنقلب عنده القيم والمفاهيم.
دعونا نأخذ جولة سريعة لبعض صور الغباء وانتكاسات عقول بعض الناس الذين لم يحكموا عقولهم، لقد ذكر الله تعالى لنا في كتابه بعض صور انتكاسة العقول، وانقلاب موازين البشر خاصة إذا ابتعدوا عن منهج الله، وإليكم بعض الأمثلة:

الانتكاسة الأولى:

أشار الرب جل وعلا إليها في سورة البقرة وفي سورة آل عمران، فقال تعالى ]وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ [البقرة: 80]، وقال تعالى ]ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ[ [آل عمران: 24]،
هذه الآية تفيد أمرين خطيرين:
الأمر الأول: أن بعض الكفار يؤمنون بالآخرة وبالجنة والنار وأن هؤلاء قد أقروا بألسنتهم بأنهم سيدخلون النار، بمعنى أنهم كانوا يعلمون أنهم على خطأ، والمصيبة أنهم مصرين على ذلك الخطأ استكبارا.
الأمر الثاني: أنهم رضوا لأنفسهم بدخول النار والتعذب فيها، وكأنهم مستهترين بالنار وبحرِّها. ولم يقولوا: لن تمسنا النار إلا لحظات معدودات، بل قالوا: أياما معدودات. ومن يا ترى يرضى لنفسه أن يعذب بالنار ولو للحظات، ومن يقوى على حرق النار للأجساد؟ إنها انتكاسة عجيبة، رضوا بالهوان والذل والعذاب.
وكلا الأمرين موجودان عند بعض المسلمين وإن لم ينطقوا بذلك.
تأملوا كيف أقرّ أولئك الكفار وهم بكامل قواهم العقلية أنهم سيدخلون النار ورضوا بذلك، أي أنهم يعلمون أنهم عصاة لخالقهم، وأنهم على خطأ، وأنهم يتبعون شهواتهم ويخالفون أمر ربهم، وأنهم سيعذبون على ذلك، فلماذا الإصرار على المعصية إذن؟ إنه الكبر.
إننا نجد صاحب الشهوة وشارب الدخان إذا نُصِحَ قال: إني مقصر وأسأل الله أن يعينني على تركه، يقول ذلك بلسانه، ولكنه يصر على عدم تركه، مع علمه بضرره، بل تراه ينصح ابنه أو طلابه بعدم شرب الدخان وأن هذا عيب ومضر بالصحة ولكنه ينسى نفسه.
ألا تذكرون قصة ذلك اليهودي الذي سمح لابنه الذي كان على مشارف الموت بطاعة رسول  صلى الله عليه وسلم  قائلا له: أطع أبا القاسم، فنطق الابن بالشهادة ثم مات على التوحيد، فلماذا ذلك الأب لم يطع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أيضا؟ ولماذا فرط بابنه؟ فلو كان ذلك الأب موقنا ببطلان دين محمد  صلى الله عليه وسلم  لما فرط بابنه وجعله يموت على دين الإسلام، بل على دين اليهودية، ولو كان معتقدا بصدق دين محمد  صلى الله عليه وسلم  فلماذا أنقذ ابنه ولم ينقذ نفسه؟ ففي كلا الحالتين تظهر انتكاسة عقل ذلك الرجل.
فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ غُلامًا مِنْ الْيَهُودِ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  يَعُودُهُ وَهُوَ بِالْمَوْتِ فَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلامِ، فَنَظَرَ الْغُلامُ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ) رواه مسلم وأحمد. ألا تستنبطون من هذا القصة المكابرة في قبول الحق، وأن ذلك اليهودي كان يعرف الحق ولكنه لم يحكم عقله، فنصح ابنه بقبول الحق وترك نفسه. إنها انتكاسة العقل.
ألا تذكرون أيضا قصة الرجل الذي ستندلق أقتابه في النار يوم القيامة، كان يعرف الحق ويدعو إليه ولكنه لم يعمل به، وكان يعرف المحرمات وينهى الناس عنها، ولكنه كان يقع فيها. أين عقله؟ إنها انتكاسة ما بعدها انتكاسة والعياذ بالله.
فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ) متفق عليه.
فالمتأمل في هذا الحديث، يجد أناسا في النار يحترقون، والعذاب الذي يعذبون به كافيهم، ومع ذلك فقد اجتمعوا حول هذا الرجل الذي اندلقت أمعاؤه، مما يدل على بشاعة ذنبه وشدة عذابه، وقد شُبِهَ بالحمار، إذ لا غباء أعظم من أن يعرف المرءُ الحق ويدعو الناس إليه، ثم لا يعمل به، وتأملوا كيف أن الله تبارك وتعالى جمع في النار بين هذا الداعية وبين بعض أتباعه الذين كانوا يستمعون لمواعظه ولكنهم لم يمتثلوا، ليزيدهم فضيحة فوق العذاب، فالمعذبون في هذا الحديث صنفان: أناس كانوا يَعلمون الحق ويُعلمونه غيرهم، ولكنهم لم يعملوا به، وأناس كانوا يسمعون العلم والوعظ ولكنهم لم يعملوا بما سمعوا، فمن لم يعمل بعلمه، أو خالف قوله فعله، استحق العذاب المهين. وكل ذلك من انتكاسة البشر حينما لا يُحكِّمون عقولهم.
ألا تذكرون قصة أبي لهب وأبي جهل ومجموعة من صناديد قريش حينما كانوا يتسمعون إلى قراءة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أثناء تهجده ويتلذذون بمعاني القرآن العجيبة، فهم أهل اللغة والفصاحة وكانوا يعرفون أن القرآن ليس بكلام بشر، فإذا أسفر النهار تلثم كل واحد منهم ورجع إلى بيته، فيلتقون في طريق عودتهم وينكشف حالهم لبعض، ثم يتعاهدون أن لا يكرروا ذلك لئلا يراهم العامة فيسلموا، ولكنهم لم يستطيعوا مقاومة حلاوة القرآن، فيعودون إلى سماعه في ليلة ثانية وثالثة، فقد كانوا يعرفون الحق ولكنهم كابروا، فوقعوا في الانتكاسة؛ لأنهم لم يحكموا عقولهم.
كثير من الناس يعرف الحق وطريق الاستقامة ويعرف طريق الانحراف والغواية ومع ذلك يكابر أو يغالط نفسه، فإذا نصحه أحد بترك الحرام من أفلام ونحوه قال: كل الناس ينظرون إلى الأفلام والممثلات وهذا شيء عادي، أو يدَّعي أن القصد هو التسلية، ونحو ذلك من مبررات شيطانية، وهو يعلم في قرارة نفسه بأن ذلك حرام، وأن ما يفعله لا يرضي الله تعالى، ومع ذلك يجادل في الباطل ويقنع نفسه به.
لذلك ينبغي للمسلم أن يكثر من الدعاء: (اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه)، (اللهم إهدنا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
والأمر الثاني المستفاد من الآية السابقة فهو رضا هؤلاء الكفار بدخول النار وتحمل العذاب الأليم.
\  وههنا أن نسأل لماذا رضي هؤلاء الكفار بدخول النار ولو لأيام معدودة؟ هل منا أحد يرضى أن يعذب بالنار ولو لثانية واحدة؟ أترضى أن يقال لك ادخل هذا الفرن لثانية واحدة وسنعطيك مليون ريال؟ أو أدخل يدك فيه؟
المشكلة أنهم لا يعرفون حر نار جهنم، ولو كانوا يعرفون ما قالوا كلمتهم تلك، حتى لو كانت نار الآخرة مثل نار الدنيا، فمن يقوى على حر النار؟ ألم تر إلى شكل الحديد أو الفولاذ المنصهر وهو يخرج من الأفران سائلا مثل الماء؟ فماذا ستفعل النار بالأجساد إذا؟
فلماذا الرضا بهذا الهوان والعذاب يا ترى؟ لا شك أنهم لم يستخدموا عقولهم البتة، وأن شهواتهم تتحكم فيهم.
بعض الناس يرضى لنفسه الهوان والذل، فلو خيرته بين أمرين: إما أن يُضرب بالمسطرة أو بنعل فماذا يختار؟ بعض الناس سيختار المسطرة لأنه ليس فيها إذلال مقارنة بالنعال، ولكن الجواب خاطئ؛ لأنه رضي لنفسه الهوان ابتداء، فلماذا يرضى أن يُضرب في الأصل؟ فالواجب عليه أن يأبى أن يُضرب، قائلا: لماذا أضرب وأهان؟
فالذي يقول }لن تمسنا النار إلا أياما معدودات{ لا يعرف عظم حر نار جهنم التي شررها كالقصر.
وهناك صور مماثلة لكثير من المسلمين الذين يرضون بدخول النار في سبيل البقاء على شهواتهم. فالذي يقول أن المسلم لن يخلد في النار ويستمر على معصية الله، لا يعرف قدر حر نار جهنم.
فكثير من الناس يقر أنه عاص لله وأنه مقصر وأنه لا يسير في الطريق الذي يرضي الله تعالى وأنه يسلك مسلك المنحرفين، وسبب ذلك أن لديه مفهوم في قرارة نفسه أنه لن يخلد في النار أحد قال: لا إله إلا الله. وهل ترضى يا مسكين أن تعذب في النار ولو للحظات ثم تخرج منها بسبب ذنوب أنت مصر عليها؟ ومن منا يتحمل نار الدنيا فضلا على نار الآخرة التي فضلت على نار الدنيا بمئة ضعف؟ إنها انتكاسة.
إذا كانت نار الدنيا تذيب الحديد الصلب والمعادن فما بالكم بنار يزيد حرها على مئة ضعف من نار الدنيا، فهي سوداء مظلمة.
فقد روى ابو هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم) (صحيح الترغيب والترهيب).
تخيل إنسان وسط جهنم، في نار سوداء مظلمة، لهبها يرتفع فوقه أعظم من ناطحات السحاب، الشرارة الواحدة كالقصر الكبير، قال تعالى }إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ{، فالشرارة في حجم القصر، ثم قال تعالى }إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ{32} كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ{ أي كمثل الجمال السوداء، لأن النار سوداء مظلمة، حتى شرارها أسود في حجم القصور، من يقوى على هذه النار (إنها عليهم مؤصدة) لا يستطيعون الخروج منها.
إن الذي يبقى على معاصيه ولا يتوب ولا يستغفر، بحجة أن المسلم لن يخلد في النار وأن مصيره النهائي في الجنة ولا يبذل الأسباب المنجبة من النار لإنسان طمس على قلبه، ومنكوس العقل والقلب.
لقد أمرنا الرسول  صلى الله عليه وسلم  أن نبذل الغالي والنفيس كي ننجو من النار فقال  صلى الله عليه وسلم  (من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل)،
ويأتي منكوس العقل ويقول لن تمسنا النار إلا أياما معدودات.
وبعض الأغبياء يقول: النار سندخلها سندخلها، فتمتع وخذ راحتك والمقدر كائن، ويحتج بقوله تعالى )وإن منكم إلا واردها( سبحان الله، إذا كنت موقنا بأنك ستدخل النار بسبب جرائمك وغوايتك، فلماذا لا تكف عن المعاصي وتنقذ رقبتك من النار؟ المسألة ليس فيها سجن ولا جلد؛ المسألة فيها نار تلظى لا يقوى عليه الحديد فكيف بالأجساد. فأين عقول هؤلاء الناس؟
فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا).
والأمر الآخر أن قوله تعالى )وإن منكم إلا واردها( قال بعض أهل العلم بأن الورود نوعان دخول ومرور....
فإن كنت لا تفقه فاسأل أهل العلم ولا يخدعنك الشيطان، وأنقذ نفسك من نار جهنم وقودها الناس والحجارة.
فالمسلم مطالب أن يستجير من النار دبر كل صلاة، وأن يستجير منها بالأعمال الصالحة التي تقيه حر جهنم.


الانتكاسة الثانية: دعاء الأغبياء

قال تعالى في سورة الأنفال حاكيا حال كفار قريش ]وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[ [الأنفال: 32].
\ فهم لم يطلبوا آية تقنعهم وإنما طلبوا الهلاك لأنفسهم، فمن الغباء أن يدعو الإنسان على نفسه.
الذي قال هذا الدعاء هو أبو جهل بن هشام، فنزل قوله تعالى في الآية التي تليها ]وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[ [الأنفال: 33]. وقد كان أبو جهل يلقب بأبي الحكم لرجاحة عقله ولكنه عندما رفض الإسلام تكبرا أصبح من أجهل الناس وسمي بأبي جهل.
فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فَنَزَلَتْ ]وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[ الآيَةَ رواه البخاري.
والغريب في الأمر أن هؤلاء الكفار على مقولتهم الشنيعة تلك إلا أنهم كانوا يستغفرون مما كانوا يقولونه لأنهم يعلمون أن مقولتهم خاطئة ولكنهم يصرون ويكابرون على رأيهم، لذلك أخبر تعالى بأنه لم ينزل عليهم عذاب استئصال؛ لأمرين اثنين: الأول لوجود النبي  صلى الله عليه وسلم  بينهم، والثاني لاستغفارهم. فقال تعالى ]وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[ [الأنفال: 33].
فالآية السابقة تفيد عن وجود مشكلتين
الأولى: مشكلة الدعاء على النفس بالعذاب والهلاك.
الثانية: مشكلة الإصرار على الرأي مع العلم بخطأ هذا الرأي.
فانظروا إلى جهل أولئك الكفار وغبائهم وانتكاسة عقولهم وحماقتهم، لم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا، أو أنزل علينا هداية، أو بصرنا وأرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وإنما قالوا: }فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{ يعني نزِّل علينا حجارة أو عذاب وأهلكنا إن كان محمد صادقا في نبوته. فلماذا ترضى أن ينزل عليك العذاب؟ إنها الانتكاسة.
\ لذلك رُوي عن معاوبة بن سفيان رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة؟ فقال: بل أجهل من قومي قومك حين قالوا: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التفسير المنير).
فلماذا يدعو الإنسان على نفسه بالشر؟
فتأملوا انتكاسة أولئك الكفار حين دعوا على أنفسهم، فما ضرهم لو دعوا لأنفسهم بالهداية؟ فلو كان محمدُ صادقا في نبوته فسيستجاب دعاؤهم ويفوزوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن كان كاذبا والعياذ بالله، فلن يخسروا شيئا، فهم على وضعهم؟
أما أن تدعوا على نفسك بأن ينزل عليك حجارة لكي تهلك؟ فهذا دعاء الأغبياء.
\ ولقد تكررت مثل هذه الانتكاسة مع أحد المشركين الأغبياء حيث روى بريدة رضي الله عنه: أن رجلا قال يوم أُحد: اللهم إن كان محمدُ على الحق، فاخسف بي، قال: فخُسف به، رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رجاله رجال الصحيح.
كما تكررت مثل هذه الانتكاسة وهذا الغباء مع قوم لوط، حينما دعاهم لوط عليه السلام إلى ترك ما هم فيه من فواحش فقال تعالى في سورة العنكبوت }َولُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ{28} أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{29}[.
كما تكررت مثل هذه الانتكاسة مع قوم شعيب، حينما دعاهم شعيب عليه السلام إلى تقوى الله وعدم تطفيف الكيل، فطلبوا منه أن يسقط عليهم قطعا من السماء، ولم يقولوا: أسقط لنا وإنما قالوا: أسقط علينا
 فقال تعالى في سورة الشعراء: }قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ{185} وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ{186} فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{187} قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ{188} فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{189} إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ{190}{.
   ألا نكون كحال الغلام الذي أرسله أهله إلى ساحر كي يعلمه فنون السحر والكفر، وفي طريق عودته للبيت رأى راهبا فتعلم منه الدين الحق، فعندما ظهرت دابة في طريق الناس دعا الغلام ربه أن يقتل الدابة قائلا (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة)
فعَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  قَالَ: (كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ، مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ...) رواه مسلم.
فالشاهد من هذا الأمر أنه ينبغي للعاقل أن لا يدعو على نفسه البته، فإن النبي  صلى الله عليه وسلم  نهانا أن ندعو على أنفسنا أو على ممتلكاتنا، فقد روى جابر رضي الله عنه قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ وَكَانَ النَّاضِحُ –البعير - يَعْقُبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ فَدَارَتْ عُقْبَةُ – أي نوبة - رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ – أي تباطئ وتوقف- فَقَالَ لَهُ شَأْ لَعَنَكَ اللَّهُ – كلمة زجر للبعير- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  (مَنْ هَذَا اللاَّعِنُ بَعِيرَهُ)؟ قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال:َ (انْزِلْ عَنْهُ فَلا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ ) رواه مسلم.
فبعض الناس إذا تعطلت سيارته أو كثر عليه تصليحها، يغضب وينفعل فيدعو الله قائلا: الله لا يبارك فيها من سيارة، ونحو ذلك من دعوات، فمن الخاسر إذا لم يبارك الله في سيارتك؟ أليس أنت؟ فلماذا تدعوا على نفسك؟
\ لماذا نهى النبي  صلى الله عليه وسلم  المصلي أن يصلي وهو نعسان؟  لئلا يدعو على نفسه دون أن يشعر.
فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ، لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ) متفق عليه
وفي رواية قال  صلى الله عليه وسلم . ‌(إِذَا نَعَسَ الرَّجُلُ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ فَلْيَنْصَرِفْ لَعَلَّهُ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لا يَدْرِي) رواه النسائي وابن حبان، ومعنى فلينصرف أي فليخفف من الصلاة وليتجوز فيها حتى ينهيها كي لا يدعو على نفسه.
وإن طول السهر خاصة في فصل الصيف سيمنعك في الغالب من الاستيقاظ لصلاة الفجر، وإذا قمت وفيك النعاس وقعت في المحذور، لأنك قد تدعو على نفسك أثناء السجود وأنت لا تشعر.
دعاء المذنب على نفسه بتعجيل عقوبته:
وهناك نوع آخر من الدعاء على النفس، يظن البعض أن فيه مصلحة أخروية، وهو الدعاء على النفس بتعجيل العقاب في الدنيا بدلا من الآخرة، وقد حصل مثل هذا لأحد الصحابة رضي الله عنه حينما زاره رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  عاد رجلا قد جهد حتى صار مثل فرخ فقال له: (أما كنت تدعو أما كنت تسأل ربك العافية)؟ قال: كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم : (سبحان الله إنك لا تطيقه، أو لا تستطيعه، أفلا كنت تقول: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) رواه الترمذي.
فلماذا ترضى لنفسك العذاب في الدنيا أو الآخرة؟ فالله تعالى ما طلب منك أن تختار عذاب الدنيا أو الآخرة، فالله عز وجل جواد كريم، فاسأله خيري الدنيا والآخرة، وكثيرا ما يطلب النبي  صلى الله عليه وسلم  من أصحابه أن يسألوا الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
\ أما بالنسبة للفائدة الثانية المستنبطة من الآية، فهو التحذير من الإصرار على الرأي خاصة إذا علمت خطأ رأيك، فقد حذر النبي  صلى الله عليه وسلم  أن من أصر على رأي وهو يعلم خطئه ودافع عن هذا الرأي وقع في سخط الله تعالى. فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: (ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع) رواه أبو داود والحاكم.

الانتكاسة الثالثة: الملل من النعم والدعاء بزوالها

لقد أنعم الله تعالى على قوم سبأ بالنعم حتى ذكر لنا تلك النعم في كتابه الكريم، فقد كانت المسافة بين سبأ والشام قرابة أربعة أشهر، وكانت ممرا تجاريا آمنا جعله الله تعالى لأهل سبأ فكانوا يسيرون فيه غير خائفين ولا جياع ولا ظمأ، لكثرة القرى التي يمرون عليها، وكانت تلك القرى مليئة بالأشجار المثمرة والمياه الطيبة، فكان المسافر لا يحتاج في سفره أن ينقل معه طعاما ولا ماء طيلة الأربعة أشهر، فكانوا لا يحسون أنهم في سفر ولا يعانون ما يعانيه بقية المسافرين، فلم يحمدوا الله تعالى على تلك النعمة وإنما زاد بطرهم وزاد دلعهم وكأنهم سئموا الراحة ولم يصبروا على العافية، فطلبوا طول السفر حتى يشعروا أنهم مسافرين، فقالوا دعائهم الأثيم: ربنا باعد بين أسفارنا، إنها انتكاسة ودعاء صدر من أغبياء لم يشكروا النعمة وإنما طلبوا المشقة والشدة، قال تعالى في شأنهم مسجلا ما قالوه من دعاء ليكون لنا درسا ولئلا نقول مثله: ]فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[ [سبأ: 19]، طلبوا أن يفصل بين قراهم مفاوز وصحارى حتى يحسوا بطعم السفر، وهذا إمعان في رفض الحضارة والتمدن والحياة الهادئة.
فبدلا من أن يقولوا الحمد لله الذي سهل علينا السفر وزادنا من النعم، سألوه المشقة.
\ فمن الانتكاسة أن يسئم الإنسان النعمة ويطلب من الله الشدة ولا يشكر الله على هذه النعمة.
فقصة قوم سبأ تحذرنا من أمرين خطيرين:
الأول هو: الملل من النعم وسؤال الله الشدة.
الثاني هو : الكفر بالنعمة وعدم شكرها وحمد الله عليها.
 
فالله تعالى نهى عن التشديد على النفس بما لم يشرع، ولماذا يحب تعالى أن تؤتى رخصه؟ لأنه يحب التيسير ولا يحب التشديد، والرخص كلها تيسير.
فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) رواه أحمد.
ألا ترون أن النبي  صلى الله عليه وسلم  نهى ذلك الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس ولا يستظل؟
* فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ وَلا يَسْتَظِلَّ وَلا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) رواه البخاري.
* وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي  صلى الله عليه وسلم  لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية قال: إن الله لغني عن نذرها مرها فلتركب) رواه أبو داود.
فالذي يطلب من الله أن يشدد عليه قد يبتلى ويحرم النعم كما حصل لقوم سبأ.
\ تأملوا إلى خطورة الكلمة وكيف يؤاخذ الله بها، وقد روى عَلْقَمَةَ عَنْ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، قَال:َ فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ كَمْ مِنْ كَلامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ ([1]).
وهناك أمثلة من أمنيات بعض الناس المنكوسة تنم على عدم شكرهم لنعم الله عليهم وطلبهم للشدة وعدم التيسير.
\ ففي رمضان ترى البعض وهو جالس تحت المكيف المركزي يقول: الله يرحمنا نحن ما نحس بعطش ولا جوع أثناء الصيام بسبب المكيفات، أشعر أن أجرنا ناقص يا ليت وضعنا مثل أول حتى يعظم أجرنا وعلى الأقل نحس بالجوع والعطش. فلا شك أن هذا جهل وعدم شكر للنعمة، وماذا تفعل إذا كان رمضان في الشتاء؟
\ والبعض حينما يرى كثير من الفواكه الموسمية متوفرة طوال العام يمل منها ويقول لقد مللنا من وجود البرتقال والموز والتفاح طوال السنة، ألا ينبغي أن تشكر الله على هذه النعم؟ فإذا مللت فلا تشتريها وخير لك أن تصمت لئلا تتفوه بكلمة تكفر نعمة الله تعالى عليك وتغضب الله عليك.
وإذا مللت من هذه النعمة فاتركها لفترة، أو قم بزيارة من فَقَدَ هذه النعمة لتعرف نعمة الله عليك.
\ والبعض يقول: يا أخي لقد كسلتنا السيارات واعتمدنا عليها اعتمادا كليا، يا ليتنا نعيش على ما عاش عليه أجدادنا فقد كانوا يركبون الدواب وكانوا أكثر صحة منا ونحو ذلك من كلمات، فهذا لم يشكر النعمة، أتريد أن تسافر إلى الرياض على دابة فتمضي أسبوعا في سفرك لكي تصل؟ ألا تشكر نعمة الله عاليك؟ إذا مللت منها فلا تستخدمها ولكن لا تكفرها. أتريد أن يصيبك ما أصاب قوم سبأ؟
\ والبعض من النساء إذا أزعجها أولادها قالت: يا ليت ما عندي أولاد لكي أرتاح من هذا الإزعاج، أفلا تشكر الله على هذه النعمة التي يتمناها من ابتلاه الله بالعقم؟ فلماذا تدعوا المرأة على نفسها أن يحرمها من الأولاد؟
 الأمر الثاني فإن الله تعالى يحب الحمد ويطلب من عباده أن يحمدوه على نعمه، ولذلك أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون.
فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (إن أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون) رواه الطبراني، ولذلك وضع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  جدولا حافلا للمسلم منذ استيقاظه حتى منامه كله حمد وثناء لله تعالى على نعمه التي لا تحصى.
\ فمنذ أن يستيقظ العبد من نومه يقول:
دعاء الاستيقاظ: الحمد لله الذي أحياني بعد أن أماتني وإليه النشور.
وإذا لبس ثيابه قال: الحمد لله الذي ألبسني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة.
ثم يقول دعاء شكر يومه: من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر يومه ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته
وإذا رأى رؤيا حسنة، وإذا أكل طعامه، وإذا ركب دابته، حتى يرجع إلى فراشه لينام فيقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي.


الانتكاسة الرابعة: أن يكون التطهر والعفاف عيبا في المجتمع

قال تعالى في قصة قوم لوط: } فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ{ [النمل: 56]، وقال تعالى }وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ{ [الأعراف: 82].
إن قوم لوط أصيبوا بانتكاسة في عقولهم، حين خالفوا فِطرة الله التي فَطر الناس عليها حتى فضلوا الذكور على الإناث، فقال تعالى }أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ{ [النمل: 55[، ولذلك أصبح لديهم التطهر عن فعل اللواط عيبا يُزدرى صاحبه ويعير بطهره، فإذا وصل مستوى البشر إلى هذا الحد من الانتكاسة كان اللائق بهم الفناء بأبشع صورة وهي الرجم، لذلك أنزل الله عز وجل عليهم حجارة من سجيل منضود.
وتأملوا في الآيات السابقة نجد أن أهل الباطل لا يتحملون البقاء مع أهل الحق، ولذلك طالبوا بإخراج المتطهرين من قريتهم، فجريمتهم ليسوا أنهم مفسدون في الأرض، وإنما لأنهم يتطهرون، فأهل الباطل لا يقبلون التعايش مع أهل الحق، لأن أهل الحق ينكرون ولا يسكتون وهذا واجبهم.
\ وفي مجتمعنا نجد صورا متكررة من انقلاب موازين البعض حين يعير الناس بعضهم بعضا بالفضائل وليس بالرذائل، ومثال ذلك:
(1) فترى بعض أرباب الأقلام في الصحافة من منافقين وليبراليين يلمزون المستمسكين بالكتاب والسنة بألقاب هي مدح في أصلها، ولكنهم اعتبروها قدحا وعيبا، كوصفهم لهؤلاء بالأصوليين، أي الذين يتمسكون بالأصول وهو الدين، فهل هذه عبارة مدح أم قدح؟ إنها كلمة مدح لنا بينما يراها الليبراليون كلمة ذم؛ لأنها تخلف إلى الوراء والى العصور الغابرة.
(2) بعض الناس يسمى الملتزم (بمطوع) ولم يجعلها صفة مدح أو إخبار عن حال، وإنما جعلها صفة ذم فيقولها مستهزئا: يا مطوع، كأنه يقول يا مجنون يا معقد، لماذا تطيع الله وتنفذ الأوامر الربانية بحذافيرها، كأنهم يقولون يا مستقيم، وهل الاستقامة عيب؟ انقلبت عندهم الموازين وأصيبوا بانتكاسة.
\ وهنالك نوع آخر من انقلاب الموازين حين تُغير الحقائق وتُقلب المعايير فيصبح البطل ليس هو المجاهد وإنما هو الممثل.
(1) جعل الممثلون والممثلات والمغنون والمغنيات نجوم المجتمع ومن وجهاء الناس، فهم الذين يمجدون في وسائل الإعلام، وتسلط عليهم الأضواء وتنشر أخبارهم وسيرهم وحياتهم للناس ليكونوا قدوات، بل وصل الأمر أن يقال: الفلم الفلاني بطولة الراقصة القديرة فلانة، فمتى أصبحت الراقصة والممثلة قديرة؟ إنه في زمن انقلاب الموازين والمفاهيم، وفي وقت الانفلات من أوامر الدين.
\ فمن علامات الساعة انقلاب مثل هذه الموازين: يخون الأمين ويؤتمن الخائن، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: (إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ) قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: (السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ) رواه أحمد والحاكم، وفي رواية قال: (قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
 
الانتكاسة الخامسة: أن يلعن الرجل والديه وهما سبب حياته

 
(إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه فاستغرب القوم أن يلعن رجل عاقل مؤمن والديه وهما سبب حياته فقالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : ( يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)
جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

-----------------------------
([1]) رواه الإمام أحمد  واللفظ له–الفتح الرباني- ()، والترمذي ()، والنسائي ()، وابن حبان ()، والحاكم ()، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1619).


 

د.محمد النعيم
  • مقالات
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية