صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







فتنة تثور

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم   
 

فتنة تثور 1 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنِي هَرَمِيُّ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُسَامَةُ بْنُ خُرَيْمٍ، قَالَ: كَانَا يُغَازِيَانِ فَحَدَّثَانِي وَلَا يَشْعُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ حَدَّثَنِيهِ، عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ:  (كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةٍ تَثُورُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي الْبَقَرِ؟) [يريد لتشابهها بعضا] قَالُوا: نَصْنَعُ مَاذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِهَذَا وَأَصْحَابِهِ)، قَالَ فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَطَفْتُ إِلَى الرَّجُلِ، قُلْتُ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: (هَذَا) فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [صحيح ابن حبان وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط]

وروى أحمد بسند رواته ثقات عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ دَخَلَ عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ قُتِلَ عَمَّارٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَزِعًا يُرَجِّعُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ مَا شَأْنُكَ قَالَ قُتِلَ عَمَّارٌ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ قَدْ قُتِلَ عَمَّارٌ فَمَاذَا؟ قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ) فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: دُحِضْتَ فِي بَوْلِكَ [زلقت في بولك] أَوَ نَحْنُ قَتَلْنَاهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ جَاءُوا بِهِ حَتَّى أَلْقَوْهُ بَيْنَ رِمَاحِنَا أَوْ قَالَ بَيْنَ سُيُوفِنَا

وروى أحمد عن عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُحَدِّثُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَهْدَى إِلَى نَاسٍ هَدَايَا فَفَضَّلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ)

لذلك كان حري بعمرو أن يخطط لإنهاء المعركة بعد هذا الحدث الجلل وتفتق ذهنه العبقري عن فكرة إرسال المصحف إلى سيدنا علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- والاحتكام إلى كتاب الله تعالى.

روى الإمام أحمد عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فِي مَسْجِدِ أَهْلِهِ أَسْأَلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّهْرَوَانِ فَفِيمَا اسْتَجَابُوا لَهُ وَفِيمَا فَارَقُوهُ وَفِيمَا اسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ، قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ فَلَمَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِأَهْلِ الشَّامِ اعْتَصَمُوا بِتَلٍّ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ أَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ بِمُصْحَفٍ وَادْعُهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْبَى عَلَيْكَ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23] فَقَالَ: عَلِيٌّ نَعَمْ أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّه.

وروى عبد الرزاق في مصنفه: فلما اجتمع الحكمان وتكلما خاليين .. فقال عمرو: قد أخلصت أنا وأنت أن نسمي رجلا يلي أمر هذه الأمة، فسم يا أبا موسى فإني أقدر على أن أبايعك منك على أن تبايعني، فقال أبو موسى أسمي عبد الله بن عمر بن الخطاب -وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب فيمن اعتزل- فقال عمرو فأنا أسمي لك معاوية بن أبي سفيان.

فلم يبرحا من مجلسهما ذلك حتى اختلفا واستبا ثم خرجا إلى الناس ثم قال أبو موسى يا أيها الناس إني قد وجدت مثل عمرو بن العاص مثل الذي قال الله تبارك وتعالى:  {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175] حتى بلغ {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

وقال عمرو بن العاص: يا أيها الناس إني قد وجدت مثل أبي موسى مثل الذي قال الله تبارك وتعالي: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] حتى بلغ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ثم كتب كل واحد منهما بالمثل الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار.

يقول الأستاذ منير الغضبان: ولا نعرف في الحقيقة علام اختلف الحكمان حتى استبا .. إن الجو المشحون بالتوتر قاد إلى هذه الآراء التي صدرت عن كل صحابي في صاحبه ويحسن أن يكون واضحا في ذهننا أن ما وراء النص يوحي بالقصد المباشر منه، فعمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يرى في أبي موسى القارئ المتقن لكتاب الله لا يحسن العمل بما فيه، فيصر على رجل من المعتزلة للفتنة من جماعته وهو لا يريد الخلافة، وأبو موسى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يرى في عمرو أنه تخلى عن مسئوليته الإسلامية حين يصر على معاوية وخلافته وهو أحد الخصمين المتنازعين.

وقد لخص ابن كثير في البداية والنهاية ما اقتنع به من خلال الروايات فقال: فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين، ونظرا في تقدير أمور ثم اتفقا على أن يعزلا عليا ومعاوية ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم منهما أو من غيرهما، وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له عمرو: فول ابن عبد الله [أي ابن عمرو بن العاص] فإنه يقاربه في العلم والعمل والزهد.

فقال له أبو موسى: إنك قد غمست ابنك في الفتن معك، وهو مع ذلك رجل صدق.

أما خليفة بن خياط الحافظ المحدث الثقة فيقول: فيها [يعني سنة سبع وثلاثين] اجتمع الحكمان أبو موسى الأشعري من قبل علي، وعمرو بن العاص من قبل معاوية، بدومة الجندل في شهر رمضان -ويقال بأذرح وهي من دومة الجندل قريبا- وبعث علي ابن عباس ولم يحضر، وحضر معاوية فلم يتفق الحكمان على شيء، وافترق الناس، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين.

وأخرج البخاري في (التاريخ الكبير) بسند صحيح، أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لما جاء التحكيم التقى مع أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال له: ما ترى في هذا الأمر؟

قال: «أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو عنهم راض» [أي علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ].

فقال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: «فأين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟».

قال: «إن يُستَعِن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما».

ثم انتهى الأمر على هذا فرجع عمرو بن العاص إلى معاوية -رضي الله عنهما- بهذا الخبر، ورجع أبو موسى الأشعري إلى عليٍّ -رضي الله عنهما-.

وروى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ [أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، وأخت عبد الله] وَنَسْوَاتُهَا تَنْطُفُ [ضفائرها تقطر ماء، كأنها كانت قد اغتسلت] قُلْتُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا تَرَيْنَ، فَلَمْ يُجْعَلْ لِي مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ [أي الإمارة والملك] فَقَالَتْ الْحَقْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ فِي احْتِبَاسِكَ عَنْهُمْ فُرْقَةٌ، فَلَمْ تَدَعْهُ حَتَّى ذَهَبَ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ [معرّضًا بابن عمر وأبيه] قَالَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ [رأسه، أي فليظهر لنا نفسه ولا يخفيها] فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ [أي أمر الخلافة] مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ. قَالَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَهَلَّا أَجَبْتَهُ [وكأن كلام معاوية تعريضا بعد الله بن عمر وأبيه] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي [احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه] وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ وَتَسْفِكُ الدَّمَ وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ [أي: ما لم أرده] فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ [يعني لمن صبر واختار الآخرة على الدنيا] قَالَ حَبِيبٌ: حُفِظْتَ وَعُصِمْتَ [أي استصوب حبيب رأيه]

قوله: "قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ مَا تَرَيْنَ" أراد به ما وقع بين علي ومعاوية من القتال في صفين واجتماع الناس على الحكومة بينهم فيما اختلفوا فيه فراسلوا بقايا الصحابة من الحرمين وغيرهما وتواعدوا على الاجتماع لينظروا في ذلك فشاور ابن عمر أخته حفصة في التوجه إليهم أو عدمه فأشارت عليه باللحوق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة.

قوله: "فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ" أي بعد أن اختلف الحكمان وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص.

قوله: "مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الْإِسْلَامِ" فإن عليا رضي الله تعالى عنه قاتل معاوية ووالده أبا سفيان يوم أحد ويوم الخندق، وكانا كافرين في ذلك الوقت وإنما أسلما يوم الفتح.

ولعل معاوية كان رأيه في الخلافة تقديم الفاضل في القوة والمعرفة والرأي على الفاضل في السبق إلى الإسلام والدين، فلذا أطلق أنه أحق، ورأى ابن عمر خلاف ذلك أنه لا يبالغ المفضول إلا إذا خشي الفتنة، ولذا بايع بعد ذلك معاوية ثم ابنه يزيد ونهى بنيه عن نقض بيعته.

فتنة تثور2

 

وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن ميمون بن مهران، قال: دس معاوية عمرا وهو يريد أن يعلم ما في نفس ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ما يمنعك أن تخرج تبايعك الناس، أنت صاحب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر.

فقال: قد اجتمع الناس كلهم على ما تقول ؟ قال: نعم، إلا نفر يسير.

قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة.

قال: فعلم أنه لا يريد القتال.

فقال: هل لك أن تبايع من قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين والأموال؟ فقال: أف لك! اخرج من عندي، إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية.

وكأني بأبي مخنف أتى إلى الروايات الصحيحة فيجد فيها ثغرة فيضيف بها ما يناسب هواه، فيخلط لنا السم بالدسم، ويشوه هذه الشخصيات العظيمة بما يتناسب مع هذا الهوى:

قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي أن عمرًا وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام، يقول: «إنك صاحب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنت أسَنّ مني، فتكلم وأتكلم» فكان عمرو قد عوَّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، اعتزى [أي قصد] بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع عَلِيٍّ.

قال: فنظرا في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمْرًا على عبد الله بن عمر فأبى عليه.

فقال له عمرو: «خبرني ما رأيك؟».

قال: «رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا».

فقال له عمرو: «فإن الرأي ما رأيت».

فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال: «يا أبا موسى، أعْلِمْهم بأن رأيَنَا قد اجتمع واتفق»، فتكلم أبو موسى فقال: «إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله - عز وجل - به أمر هذه الأمة».

فقال عمرو: «صدق وبرّ، يا أبا موسى، تقدم فتكلم».

فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: «ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك. إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده، فإنّ عَمْرًا غادر، ولا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك» وكان أبو موسى مغفّلًا. فقال له: «إنا قد اتفقنا».

فتقدم أبو موسى فحمد الله -عز وجل- وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نَرَ أصلحَ لأمرِها، ولا ألَمَّ لشعثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأيُ عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم. وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا»، ثم تنحى.

وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه. وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه».

فقال أبو موسى: «ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث».

قال عمرو: «إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا».

وحمل شريح بن هانىء على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابنٌ لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم.

وكان شريح بعد ذلك يقول: «ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتيًا به الدهر ما أتى».

والتمس أهل الشام أبا موسى فركب راحلته ولحق بمكة!

قال ابن عباس: «قبح الله رأي أبي موسى حذرته وأمرته بالرأي فما عقل».

فكان أبو موسى يقول: «حذرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئًا على نصيحة الأمة».

ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، وسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانىء إلى علي، وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: «اللهم العن معاوية وعمرًا وأبا الأعور السلمي وحبيبًا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد» فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليًّا وابن عباس والأشتر وحسنًا وحسينًا.

هذه طرق قصة التحكيم المشهورة، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم به حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفًا فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها.

فهي من رواية أبي مخنف الذي قال فيه علماء الجرح والتعديل: هالك، ساقط، متروك، شيعي محترق، فضلا عن أبي جناب الكلبي الذي ضعفوه لكثرة تدليسه  

وتأمل مدى جُرم هؤلاء الكذابين في الافتراء على صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإظهارهم بمظهر أهل السبّ واللعن والغدر.

ومن أوجه بطلان قصة التحكيم المشهورة: إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين عليٍّ ومعاوية -رضي الله عنهما-، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طُلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قرارًا في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يَفْقَهَا موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا.

ولم يكن معاوية -رضي الله عنه- مدعيا للخلافة ولا منكرًا حق عليّ -رضي الله عنه-، وإنما كان ممتنعًا عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقي واليًا فيها زهاء عشرين سنة

فتنة تثور 3

 

وليس الأمر بهذه الصورة التي تحكيها الروايات أن كل من لم يرضَ بإمامه خلعه، فعقد الإمامة لا يحله إلا من عقده، وهم أهل الحل والعقد، وبشرط إخلال الإمام بشروط الإمامة، وهل علي -رضي الله عنه- فعل ذلك واتفق أهل الحل والعقد على عزله عن الخلافة وهو الخليفة الراشد حتى يقال إن الحكمين اتفقا على ذلك، فما ظهر منه قط إلى أن مات -رضي الله عنه-، شيء يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل، والجد والبر والتقوى والخير.

أيضا الزمان الذي قام فيه التحكيم زمان فتنة، وحالة المسلمين مضطربة مع وجود خليفة له، فكيف تنتظم حالتهم مع عزل الخليفة! لا شك أن الأحوال ستزداد سوءًا، والصحابة الكرام -رضي الله عنهم- أحذق وأعقل من أن يُقْدِموا على هذا، وبهذا يتضح بطلان هذا الرأي عقلًا ونقلًا.

وهذه الرواية المكذوبة تطعن في أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- بأنه مغفل وهذا طعْن في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي ولاه على تهائم اليمن زبيد وعدن وغيرهما وهو مغفل!!.

والطعنُ فيه بما ذكر طعنٌ في عمر -رضي الله عنه- الذي ولاه أميرًا على البصرة وقائدًا على جيشها فافتتح الأهواز وأصبهان، وكتب عمر في وصيته: «لا يقر لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين».

فكيف يقرّ عمر -رضي الله عنه- أبا موسى الأشعري أربع سنين وهو مغفل؟!!!

فهؤلاء الوضاعون الكائدون للإسلام ورجاله مغفلون لا يحسنون وضع الأباطيل؛ لأنهم يأتون فيها بما يظهر بطلانها في بادئ الفهم الصحيح لكل مسلم.

وما نقصت هذه الخديعة -لو صحت- مما كان لأمير المؤمنين عليٍّ -رضي الله عنه- عند أتباعه شيئًا وما أفادت معاوية -رضي الله عنه- شيئًا جديدًا زائدًا عما كان له حتى يصح أن يقال فيها إن فلانًا داهية كاد أمة من المسلمين بكيد مقدمها ومحكمها، وغاية أمرها أنها أشبه بعبث الأطفال لا تتجاوز العابث والمعبوث به، وبرَّأ الله تعالى أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من هذا العبث.

ولا يخلو قول عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فيما زعموا عليه: «وأثبت صاحبي معاوية» من أمرين:

الأول: تثبيته في الخلافة كما كان أولًا، وهذا هو المتبادر من لفظ التثبيت، وهو باطل قطعًا؛ فإنه لم يقل أحد ينتسب إلى الإسلام إن معاوية -رضي الله عنه- كان خليفة قبل التحكيم حتى يثبّته حَكمه فيها بعده، ولم يدَّعِها هو لا قبله ولا بعده، ولم ينازع عليًّا -رضي الله عنه- فيها.

الثاني: تثبيته على إمارة الشام كما كان قبل، وهذا هو المتعين دراية وإن لم يصح رواية، وهو تحصيل الحاصل، وأي دهاء امتاز به على أبي موسى في تحصيل الحاصل؟ وأي تغفيل يوصم به أبو موسى مع هذا العبث؟ فهل زاد به معاوية شيئًا جديدًا لم يكن له من قبل؟ وهل نقص به علي عما كان له قبل؟

كما لا يخفى ما تنطوي عليه هذه الروايات من قدح وذمّ في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واتهام بعضهم بالغدر والخيانة وسب ولعن بعضهم بعضًا, وما يخالف هذا امتداح الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- لهم رضي الله عنهم.

يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري في كتابه (العواصم من القواصم) بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً:

هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.

فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين.

وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل.

يقول القاضي أبو بكر بن العربي: وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.

وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالين.

وختاما يقول الأستاذ منير الغضبان: فالروايات الساقطة التي تجعل عمرو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عبدا للدنيا والجاه، يكذب ويخدع من أجل السلطة ومن أجل الوصول إلى ولاية مصر، نقول:

إن هذه الروايات تتناسب مع شاب مغامر في مقتبل العمر لم يذق لذة الدنيا ولم ينل شيئا من جاهها ونعيمها في العشرين أو الثلاثين من عمره، فهل غاب عن أذهان هؤلاء الكذابين الساقطين من الرواة أن عمرا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قد ناهز الثمانين يوم أن انضم إلى معاوية، وأنه تجاوز الخامسة والثمانين من عمره يوم حكم في مصير أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد نال من جاه الدنيا وأمجادها ما لم ينله أحد بطولة وافتخارا وإدارة وسلطانا، أما المال فقد كان ماله في الوهط يحلم به الملوك والحكام فماله وللدنيا؟ قال ابن الأعرابي: الوهط، قرية بالطائف على ثلاثة أميال من وج كانت لعمرو بن العاص، وقد غرس عمرو فيها ألف ألف عود كرم على ألف ألف خشبة ابتاع كل خشبة بدرهم، فحج سليمان بن عبد الملك فمر بالوهط فقال: أحب أن أنظر إليه، فلما رآه قال: هذا أكرم مال وأحسنه ما رأيت لأحد مثله، فأي دنيا يريدها عمرو وقد دانت الدنيا له؟


د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

 
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية