صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم   

 

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} يوفيهم الله تعالى ما كتب لهم من العمر فيموتون. وقد أضاف الله التوفي إليه تارة، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]؛ وإلى ملك الموت تارة، كما في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] وإلى رسله -وهم الملائكة- تارة، كما في قوله تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] فإضافتها إلى الله تعالى؛ لأنها بأمره؛ وإلى ملك الموت؛ لأنه الذي يقبض الروح؛ وإلى الرسل؛ لأنهم يقبضونها من ملك الموت يصعدون بها إلى السماء؛ ولذلك بني الفعل في الآية لمّا لم يسم فاعله؛ ليشمل كل ذلك.

{وَيَذَرُونَ} يتركون {أَزْوَاجاً} زوجات لهم {يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن، وهو هنا الصبر عن النكاح ولزوم البيت والإحداد {بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} أي وعشر ليال بأيامها، فيدخل اليوم العاشر، قيل: وغلب حكم الليالي إذ الليالي أسبق من الأيام، والأيام في ضمنها {وعشرا} أخف في اللفظ، ولا تنقضي عدّتها إلاَّ بانقضاء اليوم العاشر، هذا قول الجمهور. وهذا للحرة، أما عدة الأمة نصف المدة كما بينت السنة.

وروي عن سعيد بن المسيب، والشافعي أنهما قالا: إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر.

ونسخت هذه الآية قوله تعالى: {مَتاعاً إلى الحَوْلِ غَيرَ إخراجِ}، وفي ذلك الوقت الأول, كانت الوصية للأزواج واجبة, وهي النفقة إلى الحول, ثم أبدلت الوصية بالميراث, إما ربعاً في حالة, أو ثمناً في حالة.

قال في البحر المحيط: وأجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وهذا من غرائب النسخ، فإن الحكم الثاني ينسخ الأول، وقيل: إن الحول لم ينسخ، وإنما هو ليس على وجه الوجوب، بل هو على الندب، فأربعة أشهر وعشراً، أقل ما تعتدّ به المتوفى عنها زوجها، والحول هو الأكمل والأفضل.

روى ابن ماجة والترمذي عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ أُخْتَهُ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ قَالَتْ: خَرَجَ زَوْجِي فِي طَلَبِ أَعْلَاجٍ لَهُ فَأَدْرَكَهُمْ بِطَرَفِ الْقَدُومِ فَقَتَلُوهُ فَجَاءَ نَعْيُ زَوْجِي وَأَنَا فِي دَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ شَاسِعَةٍ عَنْ دَارِ أَهْلِي فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ نَعْيُ زَوْجِي وَأَنَا فِي دَارٍ شَاسِعَةٍ عَنْ دَارِ أَهْلِي وَدَارِ إِخْوَتِي وَلَمْ يَدَعْ مَالًا يُنْفِقُ عَلَيَّ وَلَا مَالًا وَرِثْتُهُ وَلَا دَارًا يَمْلِكُهَا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَلْحَقَ بِدَارِ أَهْلِي وَدَارِ إِخْوَتِي فَإِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ وَأَجْمَعُ لِي فِي بَعْضِ أَمْرِي قَالَ فَافْعَلِي إِنْ شِئْتِ قَالَتْ فَخَرَجْتُ قَرِيرَةً عَيْنِي لِمَا قَضَى اللَّهُ لِي عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي بَعْضِ الْحُجْرَةِ دَعَانِي فَقَالَ كَيْفَ زَعَمْتِ قَالَتْ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ (امْكُثِي فِي بَيْتِكِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ نَعْيُ زَوْجِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

وروى البخاري عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الشَّامِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)

وفي الآية وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها سواء دخل بها، أم لم يدخل؛ لقوله تعالى: {أزواجاً}؛ لأن الزوجة تكون زوجة بمجرد العقد بخلاف الطلاق؛ فإن الطلاق قبل الدخول والخلوة لا عدة فيه؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49]

وفيها الآية أيضا أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام سواء كانت تحيض، أو لا تحيض.

وأحدت المرأة إذا حزنت، ولبست ثياب الحزن، وتركت الزينة، ويقال حداد، والمراد به في الإسلام ترك المعتدة من الوفاة الزينة، والطيب، ومصبوغ الثياب، إلا الأبيض، وترك الحلي.

واتفق الكل على أن المرأة المعتدة تخرج للضرورة، وتخرج نهارا لحوائجها، من وقت انتشار الناس إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في المنزل.

ولا خلاف أن هذه الآية خاصة في غير الحامل، فعدتها أن تضع حملها، قال تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وهذا عام في المطلقة والمتوفى عنها زوجها.

ويزيده إيضاحا ما ثبت في الحديث المتفق عليه من إذن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لسبيعة الأسلمية في الزواج بوضع حملها بعد وفاة زوجها بأيام، وكون عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها هو الحق، كما ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلافا لمن قال: تعتد بأقصى الأجلين. ويروى عن علي وابن عباس، والعلم عند الله تعالى.

فروى البخاري عن أَبي سَلَمَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالِسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ: "أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً؟" فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "آخِرُ الْأَجَلَيْنِ" قُلْتُ أَنَا {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ غُلَامَهُ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا فَقَالَتْ: "قُتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ أَبُو السَّنَابِلِ فِيمَنْ خَطَبَهَا"

وقال عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "لو وضعت حملها وزوجها على سريره ولم يدفن لحلت للأزواج"

فلما كان وضع الحمل أدل شيء على براءة الرحم، كان مغنيا عن غيره.

وقد جعل الله عدة الوفاة منوطة بالأمد الذي يتحرك في مثله الجنين تحركا بينا، محافظة على أنساب الأموات.

قال في البحر المحيط: واختص هذا العدد في عدّة المتوفى عنها زوجها استبراء للحمل فقد روى البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ الصَّادِق الْمَصْدُوقُ، قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ)، .. أربعة أشهر، وزاد الله العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين، أو مراعاة لنقص الشهور وكمالها، أو استظهاراً لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين.. قال أبو العالية وغيره: إنما زيدت العشر لأن نفخ الروح يكون فيها، وظهور الحمل في الغالب.

وخصت العشرة لزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]

قال القشيري: لما كان حق الميت أعظم، لأن فراقه لم يكن بالاختيار، كانت مدة وفاته أطول. وفي ابتداء الإسلام كانت عدة الوفاة سنة، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتخفيف براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر، إذ الموت لا يستديم موافاة إلى آخر عمر أحد.

 {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي إذا بلغن بتربصهن تلك المدة وانتهاء العدة {فَلاَ جُنَاحَ} لا حرج، وهو الإِثم المترتب على المعصيّة {عَلَيْكُمْ} الأولياء {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} مما أذن فيه الشرع من التنقل من مسكن لمسكن آخر، ومس الطيب والتجمل والتعرض للخطاب والنكاح الحلال.. ووعظهم في ختام الآية بقوله {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عليم ببواطن الأمور، وهذا وعيد يتضمن التحذير .. وخبير للمبالغة، وهو العلم بما لطف والتقصي له. فالخبير أخص من العليم.

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ} التعريض: التلويح بالكلام إلى الشيء دون تصريح {مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} سميت خطبة إما من الخَطْب بمعنى الشأن؛ لأن هذا شأنه عظيم؛ وإما من الخطابة؛ لأنها مقرونة بالقول - حتى إنه كان فيما سلف يأتي الخاطب إلى المرأة، وأهلها، ويخطب فيهم - يعني يتكلم بخطبة، ثم يبدي أنه يرغبها.

والتعريض نحو قوله: إنك لصالحة، وإن من عزمي أن أتزوج، أحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها، أو يصف لها نفسه، وفخره، وحسبه، ونسبه، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة، أو يقول لوليها: لا تسبقني بها، أو: يهدي لها ويقوم بشغلها، والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج.

وقد روى أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لفاطمة بنت قيس، وهي في عدتها من طلاق زوجها، عمرو بن حفص، آخر الثلاث: (كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك) أي لا تستبدي بالتزوج قبل استئذاني. وفي رواية: (فإذا حللت فآذنيني) وبعد انقضاء عدتها، خطبها لأسامة بن زيد، فهذا قول لا خطبة فيه وإرادة المشورة فيه واضحة.  

{أَوْ أَكْنَنتُمْ} أخفيتم {فِي أَنفُسِكُمْ} لا إثم عليكم في التعريض دون التصريح بالزواج، كما لا إثم في إضمار الرغبة في النفس، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه.

{عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} مبدين رغبتكم في الزواج منهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح، وهذا عذر في التعريض، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه، فأسقط الله الحرج في ذلك، فأباح لكم التعريض تيسيرا عليكم.

والتعريض يبقى حجاب الحياء مسدولا بينهما وبرقع المروءة غير مرفوع وذلك من توقير شأن العدة، فلذلك رخص التعريض تيسيرا على الناس، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة.

ومن فوائد الآية: لو قال شخص: «إنني أريد أن أتزوج امرأة فلان المتوفى عنها زوجها» يحدث غيره: فلا بأس به.

{وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} وإذا نهي عن السر فالعلانية من باب أولى .. وهذا الاستدراك من الجملة التي قبله، وهو قوله: {سَتَذْكُرُونَهُنَّ} والذكر يقع على أنحاء وأوجه، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذوناً فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه، وهو نظير قولك: زيد سيلقى خالداً ولكن لا يواجهه بشرٍّ، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء، وإن من أحواله المواجهة بالشر.. والمعنى: لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية.

وفيه تحريم خطبة المعتدة من وفاة أو من طلاق بائن، أما الطلاق الرجعي فلا يصح الخطبة فيه لا تعريضاً ولا تصريحاً لأنها في حكم الزوجة.

قال مالك في رواية ابن وهب عنه، فيمن واعد في العدّة ثم تزّوجها بعد العدّة، قال: فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب.

وقال الشافعي: لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء العدّة صح النكاح، والتصريح بهما مكروه.

{إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} هو الإِذن بالتعريض، وهذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت: سراً، لأن المواعدة سراً ليس من القول المعروف؛ إذ إن القول المعروف هو التعريض دون التصريح.

فالمستثنى إذا كان من جنس المستثنى منه فإن أهل العلم يسمونه متصلا، وإذا كان من غير جنسه فإنه يسمى منقطعًا، كما إذا قيل: "قام القوم إلا زيدًا"، فهذا استثناء متصل؛ لأن زيد المستثنى من جنس المستثنى منه وهو القوم، لكن إذا قيل: "ما رأيت أحداً إلاَّ ديكا"، فهذا يسمونه استثناءا منقطعا؛ لأن الديك ليس من جنس القوم المستثنى منه.

والخلاصة أن خطبة المعتدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تباح تصريحاً وتعريضاً؛ وتحرم تصريحاً لا تعريضا.

الأول (تحرم تصريحاً وتعريضاً): في الرجعية لغير زوجها؛ فيحرم على الإنسان أن يخطب الرجعية لا تصريحاً، ولا تعريضاً؛ والرجعية هي المعتدة التي يجوز لزوجها أن يراجعها بغير عقد؛ لأنها زوجة، كما قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} إلى أن قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228]

الثاني (تحل تصريحاً وتعريضاً): وهي البائن من زوجها بغير الثلاث، كالمطلقة على عوض، والمختلعة، والفاسخة لنكاحها بسبب، وما أشبه ذلك؛ فيجوز لزوجها أن يخطبها تعريضاً، وتصريحاً، وأن يتزوجها.

الثالث (تباح تعريضاً لا تصريحاً): كل مبانة لغير زوجها؛ فيجوز لغير زوجها أن يعرض بخطبتها بدون تصريح، كالمتوفى عنها زوجها تجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً.

{وَلاَ تَعْزِمُواْ} العزم على الشيء إرادة فعله بلا تردد {عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي عقد النكاح، وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح، ولذلك قال ابن عطية: عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وإذا كان العزم منهياً عنه، فأحرى أن ينهى عن العقدة.

{حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أجل الشيء منتهاه وغايته، أي حتى تنتهي العدة، والكتاب هنا هو المكتوب أي المفروض من الله وهو العدة، ومن عقد على امرأة قبل انقضاء عدتها يفرق بينهما ولا تحل له بعد عقوبة لهما.

{وَاعْلَمُواْ} ابتدئ الخطاب بـ (إعلموا) لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول، في هذا الشأن، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة {أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} من هواهن {فَاحْذَرُوهُ} تهديد، والحذر من الشيء معناه أخذ الحِذْر- وهو الاحتياط، وعدم المخالفة.

{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة، يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض، لأنه حليم بكم، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة، وأن الذريعة تقتضي تحريمه، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز، لا مغفرة الذنب؛ لأن التعريض ليس بإثم.

أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب، والتجاوز عن المشاق، وشأن التذييل التعميم. والمعنى فإذا أضمرتم في أنفسكم ما لا يرضاه فإن لديكم باباً واسعاً- وهو المغفرة؛ فتعرضوا لمغفرة الله عزّ وجلّ بأن تستغفروه، وتتوبوا إليه.

و«الغفور» مأخوذ من: «الغَفْر» وهو الستر مع الوقاية؛ والمراد به ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ و «الحليم» هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقها.

ومن فوائد الآية أن هذا القرآن العظيم مثاني - بمعنى تُثَنَّى فيه الأمور، والمواضيع؛ فإذا ذكر أهل الجنة ذكر أهل النار؛ وإذا ذكر الرجاء ذكر معه الخوف... وهكذا؛ وقد نص الله على ذلك فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر:23] وهو هذا القرآن؛ ومثاله في هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى لما حذَّر قال: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.

ولما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهنّ، والمتوفى عنهنّ أزواجهنّ، بين حكم المطلقة غير المدخول بها، وغير المسمى لها، فقال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لا إثم عليكم {إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ} فيها قراءة ثانية: «تُماسوهن»؛ وكلاهما بمعنًى واحد؛ والمراد به الجماع؛ لكن جرت عادة العرب -والقرآن بلسان عربي مبين- أن يُكَنوا عما يستحيا من ذكره صريحاً بما يدل عليه؛ ولكل من القراءتين وجه؛ فعلى قراءة: «تماسوهن» يكون المسيس من الجانبين؛ فكل من الزوج، والزوجة يمس الآخر؛ ومثله قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: ]؛ وأما على قراءة حذف الألف -الذي يفيد وقوع الفعل من جانب واحد- فهو أيضاً واقع؛ لأن حقيقة الفاعل هو الرجل؛ فهو ماسّ؛ ومنها قوله تعالى في مريم: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران:47]؛ فجعل المسّ من جانب واحد -وهو الرجل-.

{أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} تُقدّروا لهنّ مهرا {أَوْ} عاطفة على {تَمَسُّوهُنَّ} المنفي، و"أو" إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد (واو العطف) فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوف عليه معا، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين، ولهذا كان المراد في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان:24] النهي عن طاعة كليهما، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر.

والمعنى فلا إثم عليكم أي تجمعوا بين الأمرين: بين ألا تفرضوا لهن فريضة، وبين ألا تمسوهن؛ فلا جناح عليكم إذا طلقتم المرأة بعد العقد بدون مسيس، وبدون تسمية مهر.

وقد أفادت الآية حكما بمنطوقها: وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئا من المال، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي، وحكي القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة، ثم اختلفوا في وجوبها، والراجح الوجوب لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ}.

وظاهر الآية الكريمة أنه إذا خلا بها، ولم يمسها لم يكن عليه إلا المتعة؛ لكن الصحابة ألحقوا الخلوة بها بالمسيس في وجوب العدة؛ وقياس ذلك وجوب مهر المثل إذا خلا بها، ولم يسم لها صداقاً.

ودلت الآية على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج المرأة بلا تسمية مهر؛ لقوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يعني: ما لم تفرضوا لهن فريضة؛ وقد اختلف العلماء فيما إذا تزوج المرأة، وشرط ألا مهر لها؛ فمنهم من يرى أن النكاح غير صحيح - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وهو الراجح؛ لأن الله اشترط للحل المال؛ قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم} [النساء:24]؛ ولأن النكاح إذا شرط فيه عدم المهر صار بمعنى الهبة؛ والنكاح بالهبة خاص بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ والحال لا تخلو من ثلاثة أمور:

إما أن يشترط المهر ويعيَّن؛ وإما أن يسكت عنه؛ وإما أن يشترط عدمه؛ ففي الحال الأولى يكون النكاح صحيحاً، ولا نزاع فيه؛ وفي الثانية النكاح صحيح، ولها مهر المثل؛ وفي الثالثة موضع خلاف بين أهل العلم؛ وسبق بيان الراجح.

فلما نهى عن التزوّج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوّج طلباً للعصمة والثواب، ودوام الصحبة، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد أوقع جزأ من هذا المكروه، فرفع الله الجناح في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.. فهذه الآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء.

وقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أن الأولى عدم ذلك؛ لأن طلاقه إياها قبل أن يمسها وقد خطبها، فيه شيء على المرأة، وغضاضة، وإن كان الإنسان قد يتأمل في أمره، وتضطره الأمور إلى الطلاق فإنه لا ينبغي أن يكون متسرعاً متعجلاً.

وعن حكمة الطلاق عموما وسر رفع الجناح والإثم من هذا النوع من الطلاق يقول ابن عاشور:

قد يعرض من تنافر الأخلاق، وتجافيها، ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوبا لكلا الزوجين، وهذا لا إشكال فيه، وقد يكون مرغوبا لأحدهما ويمتنع منه الآخر، فلزم ترجيح أحد الجانبين: وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد، كيف وهو الذي سعى إليها، ورغب في الاقتران بها؛ ولأن العقل في نوعه أشد، والنظر منه في العواقب أسد، وأشد احتمالا لأذى، وصبرا على سوء خلق من المرأة، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج، وهذا التخلص هو المسمى: بالطلاق، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي سبب، وقد تسأله المرأة من الرجل، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها، وجعل الشرع للحاكم، إذا أبى الزوج الفراق، ولحق الزوجة الضر من عشرته، بعد ثبوت موجباته، أن يطلقها عليه.

فالطلاق فسخ لعقدة النكاح: بمنزلة الإقالة في البيع، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتفى برضا واحد: وهو الزوج، تسهيلا للفراق عند الاضطرار إليه، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعا؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث، كيف يعمد راغب في امرأة، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف، أسهل منه بعد التعارف.

{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ} الغني {قَدَرُهُ} ما يقدر عليه ويستطيعه {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} الضيّق العيش {قَدْرُهُ} أي على الغني ما يناسب حاله؛ وعلى الفقير ما يناسب حاله.. فالعبرة في المتعة حالُ الزوج {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} جَبراً لخاطرها أن يعطيها مالاً على قدر غناه وفقره تتمتع به أياما عوضا عما فاتها من التمتع بالزواج.

والمعروف هو المألوف شرعاً ومروءة، وهو ما لا حمل له فيه على المطلق ولا تكلف.

{حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} هذا مما يؤكد الوجوب في المتعة، إذ أتى بعد الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب بلفظة: {على}، التي تستعمل في الوجوب، كقوله: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]

فالأمر في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} ظاهره الوجوب وهو الجمهور، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد؛ لأن أصل الصيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وقوله، بعد ذلك، في الآية الآتية: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} لأن كلمة {حَقّاً} تؤكد الوجوب، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة، وهو الأرجح: لئلا يكون عقد نكاحها خليا عن عوض المهر.

{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي قدرتم لهن مهراً {فَنِصْفُ} ومنه: ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، أي: نصفه {مَا فَرَضْتُمْ} وجوبا، وإن طلقت بعد المسيس؛ إن سُمي لها مهر فلها المهر كاملاً؛ وإن لم يسمَّ لها مهر فلها مهر المثل.

 {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قيل: المراد به الزوج؛ وقيل: وليّ المرأة؛ والصواب الأول، وعفو الزوج أن يعطيها المهر كله، وسمي ذلك عفواً إما على طريق المشاكلة، لأن قبله {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} فيجبرها بدفع جميع الصداق لها، إذ كان قد فاتها منه صحبته، فلا يفوتها منه نحلته، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه، واستشعرت من نفسها أنها مرغوب فيها، فانجبرت بذلك.

وقال مالك في "الموطأ": الذي بيده عقدة النكاح هو الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته. فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة، والولي عليها. لأن فعل المطلّق حينئذ لا يسمه عفوا بل تكميلا وسماحة؛ لأن معناه أن يدفع الصداق كاملا، كما أن دفع المطلّق المهر كاملا للمطلقة، إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص، بخلاف عفو المرأة أو وليها، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركنا من العقد لا يصح إسقاط شيء منه.

لكن الراجح أنه الزوج لأن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح إذا شاء أبقاها؛ وإذا شاء حلها بالطلاق؛ ولأن وليّ المرأة قد لا يملك إسقاط شيء من مهرها، كابن العم مثلاً؛ ولأنه إذا قيل: هو الزوج صار العفو من جانبين؛ إما من الزوجة، كما يفيده قوله تعالى: {إلا أن يعفون}؛ أو من الزوج، كما يفيده قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}؛ وإذا قيل: إنه وليّ المرأة صار العفو من جانب واحد؛ وهو الزوجة، أو وليها؛ ويؤيد الترجيح قوله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}؛ ولو كان المراد وليّ المرأة لقال تعالى: «وأن يعفوَ» بالياء، وفتح الواو.

والاقتصار على قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يدل على أنها حينئذ لا متعة لها.

{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} هذا خطاب للزوج والزوجة، وغلب المذكر، والعفو أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه.

ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة، أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه لكثرة أسبابها فيه.

{وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} المودة والإِحسان، وهو معطوف على التذييل الذي قبله، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي، وفي الطباع السليمة حب الفضل. ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة

{إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى، فهو يرى ذلك منا فيجازى عليه.


د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

 
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية