بسم الله الرحمن الرحيم

مفهوم الكفر عند الجهمية والمرجئة والأشاعرة


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فمن عجائب هذا الزمان أن ترمى بموافقة الجهمية ، أو إنكار التلازم بين الظاهر والباطن ! من أناس وظفوا أنفسهم للدفاع عن حملة الفكر الإرجائي الذين حذر منهم كبار العلماء.
وأعجب من ذلك أن يرميك بموافقة الجهمية ، من لا يعرف مذهب الجهمية !
ويبدو أن " الصفعات " المتتالية التي تلقتها المرجئة على يد العلماء الكبار ، أفقدت البعض صوابه ، فلم يجد شيئا يتمسك به إلا أن يرمي دعاة الحق بأنهم جهمية - وليسوا مرجئة فحسب -.
وقد رأيت ممن وقع في هذا الشغب ثلاثة أصناف:
الأول : يطلق لقب المرجئة ، وغلاة المرجئة على من يخالفه في مسألة سيد قطب! والسكوت عن المبتدعة ، حسب ما يراه هو سكوتا، وابتداعا.
ولئن كان السكوت عن المبتدعة وذمهم إرجاء ، فقد وقعوا في الإرجاء حين أمسكوا عن بيان الحق في مسائل الإيمان ، والتحذير ممن حذر منهم أهل العلم.
وترى هؤلاء ينسبون لسيد قطب عظائم الأمور من الطعن في موسى عليه السلام ، والقول بوحدة الوجود وخلق القرآن ، ثم يتورعون عن تكفيره !
الثاني : من يطلق هذه الألقاب ، مقابلة ، وقصاصا !
فإذا قيل له : وافقت المرجئة ، قال : بل وافقتم الجهمية !
وهذا يقع فيه بعض النفوس " الطفولية " على حد تعبير بعض الفضلاء ..
الثالث : من جمع بين الجهل وسوء الفهم ، مع البغي والعدوان ، فتراه يتصيد كلمة هنا ، وحرفا هناك، ليقول : فلان وافق الجهمية !
وقد كان مستقرا عندي أن صغار طلبة العلم يعلمون أن الجهمية يحصرون الكفر في التكذيب والجهل والجحود القلبي ، ولا يرون عملا أو قولا هو كفر بالله عز وجل .
كان هذا مستقرا عندي ، حتى وقفت على هذا الكلام :
قال من يتهم غيره بموافقة الجهمية : (( جميع المسلمين وغالب الفرق الخارجة عن الإسلام وغالب أهل الأديان يحكمون على أفعال بالكفر دون ربطها بفاعل. وهذه بدهية يقول بها أكثر العقلاء .
فالسجود لغير الله (مجرد عن الفاعل والذي لا حقيقة له إلا في الذهن) كفر أكبر حتى عند جمهور الجهمية !!
فالخلاف بين الجهمية وبين السلف ليس من جهة أن السجود لغير الله كفر في نفسه وحقيقته في الذهن أم لا ؟
بل عندههم أن السجود كفر أكبر .
لكن الخلاف بين الجهم ومن تبعة وبين السلف :
أن السلف يقولون: إن السجود للصنم كما هو كفر ظاهر فإنه لازم لكفر الباطن ولابد .
أما الجهم ومن تبعه فيقولون السجود للصنم كفر أكبر لكنه لا يلزم منه كفر الباطن وبعضهم يقول: يلزم منه كفر الباطن بمعنى زوال العلم والتصديق والمعرفة الذي هو الإيمان عندهم. )) انتهى كلامه بحروفه.
وقال : ((فالجهمية يجعلون سب الله كفرا أكبر ولكن كلامهم على الفاعل هل هو كافر بالسب أم بالاستحلال ؟!
فدعوكم من التخليط !! )).
فجميع المسلمين وغالب الفرق الخارجة عن الإسلام ومن ذلك جمهور الجهمية ، يحكمون على أفعال الكفر بأنها كفر أكبر ، ومثال ذلك : السجود لغير الله وسب الله .
هكذا قال ، وهو دليل على ما لديه من التحصيل والطلب ، في هذه المسائل المشهورة المعلومة ، فكيف يكون الأمر في المسائل الخفية الدقيقة‍ !
وأما الأشاعرة ، فهم داخلون في عموم كلامه السابق ، لكنه عاد فقال أيضا:
(( وتنبه يا أخي (الموحد) أن الأشاعرة في باب الكفر يكفّرون بالشرع فعند أكثرهم : سب الله كفر أكبر لدلالة الشرع عليه وذلك لأنه مستلزم للكفر الباطن .
وهذا هو قول السلف كما سبق بيانه إلا أن الأشاعرة غلطوا في المراد بالكفر الباطن فجعلوه الجهل المضاد للعلم فمأخذهم في التكفير مبني على قولهم في الإيمان )).

لهذا رأيت أن أضع بين يديك حقيقة مذهب الجهمية والأشاعرة في هذا الباب.
وسأبدأ بالكلام على الجهمية ، وقد يرد ذكر الأشاعرة ضمن النقل عن أهل العلم.
1- نقل شيخ الإسلام (7/543 ، 544) عن الأشعري في مقالته قوله:
( اختلف المرجئة في الإيمان ما هو ؟ وهم " اثنتا عشرة فرقة " .
الفرقة الأولى منهم : يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسوله وبجميع ما جاء من عند الله فقط وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف والعمل بالجوارح فليس بإيمان
وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به ، وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان
قال : وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه
وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون الجوارح).
2- وقال عن الفرقة الثانية من المرجئة :
(الفرقة الثانية من المرجئة : يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر به هو الجهل به فقط فلا إيمان بالله إلا المعرفة به ولا كفر بالله إلا الجهل به وإن قول القائل : إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفر ولكنه لا يظهر إلا من كافر وذلك أن الله كفر من قال ذلك وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر... والقائل بهذا القول أبو الحسين الصالحي .
وقد ذكر الأشعري في كتابه " الموجز " قول الصالحي هذا وغيره ثم قال : والذي أختاره في الأسماء قول الصالحي وفي الخصوص والعموم أني لا أقطع بظاهر الخبر على العموم ولا على الخصوص إذ كان يحتمل في اللغة أن يكون خاصا ويحتمل أن يكون عاما وأقف في ذلك ولا أقطع على عموم ولا على خصوص إلا بتوقيف أو إجماع .) انتهى من مجموع الفتاوى.
3- وقال الأشعري - فيما نقله شيخ الإسلام عنه - 7/ 547 ، 548
(الفرقة العاشرة " : من المرجئة أصحاب أبي معاذ التومني ... وكان أبو معاذ يقول : من قتل نبيا أو لطمه كفر وليس من أجل اللطمة كفر ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له .
4- وقال :
(والفرقة " الحادية عشر " من المرجئة : أصحاب بشر المريسي يقولون : إن الإيمان هو التصديق لأن الإيمان في اللغة هو التصديق وما ليس بتصديق فليس بإيمان ويزعم أن التصديق يكون بالقلب وباللسان جميعا وإلى هذا القول كان يذهب ابن الراوندي وكان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفرا ولا يجوز إيمان إلا ما كان في اللغة إيمانا وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر ولا السجود لغير الله كفر ولكنه علم على الكفر لأن الله بين أنه لا يسجد للشمس إلا كافر .)
5- وذكر الأشعري في مقالاته 1/223 اختلاف المرجئة في الكفر ما هو ، وأن منهم من ( يزعمون أن الكفر خصلة واحدة ، وبالقلب يكون ، وهو الجهل بالله ، وهؤلاء هم الجهمية).
( والفرقة الثانية منهم يزعمون أن الكفر خصال كثيرة ، ويكون بالقلب وبغير القلب ، والجهل بالله كفر وبالقلب يكون ، وكذلك البغض لله والاستكبار عليه كفر ، وكذلك التكذيب بالله وبرسوله بالقلب وباللسان ، وكذلك الجحود لهم والإنكار لهم ونعيهم [ لعلها : ونفيهم] ، وكذلك الاستخفاف بالله وبرسله كفر... وزعم قائل هذا أن قاتل النبي ولاطمه لم يكفر من أجل القتل واللطمة ولكن من أجل الاستخفاف ، وكذلك تارك الصلاة مستحلا لتركها إنما يكفر بالاستحلال لتركها لا بتركها...
والفرقة الرابعة منهم يزعمون أن الكفر بالله هو التكذيب والجحد له والإنكار له باللسان ، وأن الكفر لا يكون إلا باللسان دون غيره من الجوارح ، وهذا قول محمد بن كرام وأصحابه.
والفرقة الخامسة منهم يزعمون أن الكفر هو الجحود والإنكار والستر والتغطية ، وأن الكفر يكون بالقلب واللسان).
6- وقال الأشعري في المقالات 1/232
( وقالت الفرقة الثالثة منهم : الكفر هو الجهل بالله فقط ، ولا يكفر بالله إلا الجاهل به ، وهذا قول جهم بن صفوان).
7- وقال البغدادي في الفرق بين الفرق:
(ذكر التومنية منهم هؤلاء اتباع أبى معاذ التومنى ... وزعم ايضا أن من لطم نبيا او قتله كفر لا من أجل لطمه وقتله لكن من أجل عداوته وبغضه له واستخفاقه بحقه).
8- وقال البغدادي : ص 193
( وكان [ بشر المريسي ] يقول فى الايمان انه هو التصديق بالقلب واللسان جميعا كما قال ابن الروندى فى ان الكفر هو الجحد والانكار وزعما ان السجود للصنم ليس بكفر ولكنه دلالة على الكفر).
9- وقال البغدادي :
(وزعم الصالحى أن الايمان هو المعرفة بالله تعالى فقط والكفر هو الجهل به فقط وأن قول القائل ان الله تعالى ثالث ثلاثة ليس بكفر لكنه لا يظهر الا من كافر)
10- وقال البغدادي ص 199
(الجهمية اتباع جهم بن صفوان الذى قال بالاجبار والاضطرار الى الاعمال وانكر الاستطاعات كلها وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وزعم أيضا ان الايمان هو المعرفة بالله تعالى فقط وان الكفر هو الجهل به فقط).
11- وقال الشهرستاني في الملل والنحل 1/141
(التومنية: أصحاب أبي معاذ التومنى زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر... ومن قتل نبيا أو لطمه كفر لا من أجل القتل واللطم ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض وإلى هذا المذهب ميل ابن الرواندى وبشر المريسى قالا : الايمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعا ، والكفر هوالجحود والإنكار، والسجود للشمس والقمر والصم ليس بكفر فى نفسه ولكنه علامة الكفر).
12- وقال الشهرستاني 1/142
) الصالحية: أصحاب صالح بن عمر الصالحي ، والصالحي ومحمد بن شبيب وأبو شمر وغيلان كلهم جمعوا بين القدر والإرجاء، ونحن وإن شرطنا أن نورد مذاهب المرجئة الخالصة إلا أنه بدا لنا في هؤلاء لانفرادهم عن المرجئة بأشياء. فأما الصالحي فقال: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى على الإطلاق وهو أن للعالم صانعا فقط ، والكفر هو الجهل به على الإطلاق. قال: وقول القائل ثالث ثلاثة ليس بكفر لكنه لا يظهر إلا من كافر).
13- وقال الشهرستاني عن الجهمية 1/74
) ومنها قوله [ أي جهم بن صفوان] : من أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده ، لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد فهو مؤمن).
14- وقال ابن حزم في الفصل 3/239 ط. دار الجيل
(وقال هؤلاء : إن شتم الله عز وجل وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كفرا لكنه دليل على أن في قلبه كفرا).
15- وقال ابن حزم في الفصل 3/241
(وأما قولهم أن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلا على أن في قلوبهم كفرا وإن شتم الله تعالى ليس كفر ولكنه دليل على أن في القلب كفرا وأن كان كافرا لم يعرف الله تعالى قط فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلا ولا من أجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين).
16- وقال في الفصل 3/259
(قال أبو محمد ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم إن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفرا لكنه دليل على أن في القلب كفرا أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به فتثبتونه يقينا ولا تشكون في أن في قلبه جحدا للربوبية وللنبوة أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر ولا بد من أحدهما فإن قالوا أنه دليل لا نقطع به قطعا ولا نثبته يقينا قلنا لهم فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).
17- وقال في الفصل 3/244
(وأما قولهم إن شئتم الله تعالى ليس كفرا وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دعوى لأن الله تعالى قال "يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم" فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر وقال تعالى "وإذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم" فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع . وقال تعالى" قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة" فنص تعالى على أن الإستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر فخرج عن الإيمان ولم يقل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبكم كفرا بل جعلهم كفارا بنفس الإستهزاء ومن أدعى غير هذا فقد قول ا لله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى).
18- وقال في الفصل 5/75
(وأما الأشعرية فقالوا إن شئتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بها باللسان بلا تقية ولا حكاية والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في قلبه كفر فقلنا لهم وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل فقالوا لا).
19 - وقال في المحلى 12/435 (ت: البنداري)
(أما سب الله تعالى - فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد , إلا أن الجهمية , والأشعرية - وهما طائفتان لا يعتد بهما - يصرحون بأن سب الله تعالى ، وإعلان الكفر ليس كفرا ، قال بعضهم : ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر ، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى - وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام - وهو أنهم يقولون : الإيمان هو التصديق بالقلب فقط - وإن أعلن بالكفر - وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية , لكن مختارا في ذلك الإسلام . قال أبو محمد رحمه الله : وهذا كفر مجرد ؛ لأنه خلاف لإجماع الأمة ، ولحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ومن بعدهم ؛ لأنه لا يختلف أحد - لا كافر ولا مؤمن - في أن هذا القرآن هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أنه وحي من الله تعالى ، وإن كان قوم من الروافض ادعوا أنه نقص منه ، وحرف ، فلم يختلفوا أن جملته - كما ذكرنا . ولم يختلفوا في أن فيه التسمية بالكفر ، والحكم بالكفر قطعا على من نطق بأقوال معروفة ، كقوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } .
وقوله تعالى { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } . فصح أن الكفر يكون كلاما . وقد حكم الله تعالى بالكفر على إبليس - وهو عالم بأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين - وأمره بالسجود لآدم وكرمه عليه - وسأل الله تعالى النظرة إلى يوم يبعثون .
ثم يقال لهم : إذ ليس شتم الله تعالى كفرا عندكم ، فمن أين قلتم : إنه دليل على الكفر ؟ فإن قالوا : لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر ؟ قيل لهم : نعم ،
محكوم عليه بنفس قوله ، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط ، فقوله هو الكفر ، ومن قطع على أنه في ضميره , وقد أخبر الله تعالى عن قوم { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } فكانوا بذلك كفارا ، كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءهم وهم مع ذلك كفار بالله تعالى قطعا بيقين ، إذ أعلنوا كلمة الكفر).
20 - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( 7/188 ، 189)
(ومن هنا يظهر خطأ قول " جهم بن صفوان " ومن اتبعه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه لم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله ويعادي الله ورسوله ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد ويهين المصاحف ويكرم الكفار غاية الكرامة ويهين المؤمنين غاية الإهانة قالوا :
وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن.
قالوا : وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار ؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود وإن كان الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف ما شهد به الشهود، فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة قالوا : فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه.
فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل
والإيمان شيء واحد وهو العلم
أو تكذيب القلب وتصديقه ، فإنهم متنازعون هل تصديق القلب شيء غير العلم أو هو هو ؟
وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل في " الإيمان "
فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة .
وقد كفر السلف - كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم - من يقول بهذا القول . وقالوا : إبليس كافر بنص القرآن وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم لا لكونه كذب خبرا . وكذلك فرعون وقومه قال الله تعالى فيهم : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } ...).
21 - وقال شيخ الاسلام في الفتاوى ( 7 / 557 ) : ( فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله ، والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن ، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر ، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله موحدا مؤمنا به ).
تنبيه : لا يفهم من قوله إن السب والتكلم بالتثليث ليس كفرا في الباطن ، أنهم يقولون إنه كفر في الظاهر !
فالكفر عندهم - كما سبق - ليس إلا شيئا واحدا هو الجهل أو التكذيب . وإنما المراد أن السب والتكلم بالثليث ليس كفرا في الحقيقة ، وإنما هو أمارة ودليل على الكفر ، وقد تتخلف هذه الأمارة.
ومهما حكم الجهمية بكفر الساب ظاهرا ، فإنهم لا يرون السب كفرا ، وإنما هو دليل وأمارة على الكفر ، فانتبه لذلك.
ولهذا قال في رده عليهم ( 7/558)
( وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها ، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم ، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقا وقد تكون كذبا ، بل كان ينبغي أن لا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة ، وهذا كقوله تعالى" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة" "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم" وأمثال ذلك).
إلى أن قال 7/560
(و " أيضا " فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره ؛ لأن الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه).
22- ويؤكد شيخ الإسلام في مواضع على أن نفس مقولة السب كفر ، وأن السب كفر بذاته ، ردا على أتباع جهم والصالحي.
قال في الصارم المسلول في معرض رده على من اشترط الاستحلال لتكفير الساب ص 517 ط. المكتب الإسلامي
(واذا تبين ان مذهب سلف الامة ومن اتبعهم من الخلف
أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها او لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى ).
وقال ص 524
( وقال تعالى في حق المستهزئين : " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم "
فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته ).
23- وقال الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف في كتابه " نواقض الإيمان القولية والعملية" ص 47
( وإذا تقرر معنى الكفر وأنه اعتقادات ، وأقوال ، وأعمال تنافي الإيمان ، وأنه على شعب ومراتب متفاوتة فسندرك ما يلي :
1- أن المرجئة قد أخطأوا في قولهم إن الكفر هو التكذيب من وجهين ...).
24- وقال للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي في كتابه : نواقض الايمان الاعتقادية 1/ 185
( الكفر عندهم [ المرجئة] :
الكلام عن مفهومهم للكفر فرع عن مفهومهم للإيمان ، فلما عرفوا الايمان بأنه مجرد المعرفة والتصديق ، حصروا الكفر بالجهل والتكذيب ونحوه من الجحود والانكار والعناد ، فلما قيل لهم : إن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم أو الساجد للصنم أو ملقي المصحف في القاذورات كافر عند الجميع ، ولا يلزم من ذلك انتفاء التصديق عن قلبه ، اضطربوا في الجواب عن ذلك :
فقال بعضهم : إن هذه علامات على تكذيب القلب
وقال آخرون : نحكم بالظاهر ويجوز أن يكون في الباطل مؤمنا ) .
وأنت ترى أن مخالفتهم لأهل السنة في مسألة التلازم بين الظاهر والباطن نتجت عن ضلالهم في تعريف الكفر وتحديده، وضلالهم قبل ذلك في تعريف الإيمان.
25- وقال الدكتور الوهيبي في 1/192
( مناقشة مفهومهم للكفر : إذا بطل مفهومهم للإيمان وأنه مجرد التصديق ، بطل حصرهم الكفر بالتكذيب والجحود ؛ لأن الكفر لا يختص بالتكذيب ، كما سيأتي تفصيله في الباب الأخير حيث سنشير إلى بعض أنواع الكفر كالإعراض والامتناع والبغض ونحوها مما لا يختص بالتكذيب ، كذلك الإجماع على عدد من المكفرات القولية والعملية المعروفة ، وكثير منها لا يتضمن التكذيب كما هو معلوم).
26- وقال الشيخ عبد الله بن محمد القرني في كتابه " ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة ) ص 184 (الطبعة الثانية)
( وكفر التكذيب والاستحلال هذا هو حقيقة الكفر عند المرجئة ؛ إذ لا يكون الكفر عندهم إلا بما يناقض الاعتقاد والتصديق الذي جعلوه حقيقة الإيمان ...). وانظر اضطراب المرجئة في مسألة التلازم بين الظاهر والباطن ، وموقفهم ممن حكمت الشريعة بكفرهم ، ص 279 - 284
27- وقالت اللجنة الدائمة في التحذير من كتاب " إحكام التقرير في أحكام التكفير " لمراد شكري :
( بعد الاطلاع على الكتاب المذكور ، وُجد أنه متضمن لما ذكر من تقرير مذهب المرجئة ، ونشره ، من أنه لا كفر إلا كفر الجحود والتكذيب وإظهار هذا المذهب المردي باسم السنة والدليل وأنه قول علماء السلف ...).
28- وقالت اللجنة في فتواها المطولة في التحذير من الإرجاء :
(هذه المقالة المذكورة هي مقالة المرجئة الذين يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان ويقولون : الإيمان هو التصديق بالقلب أو التصديق بالقلب والنطق باللسان ، وأما الأعمال فإنها عندهم شرط كمال فيه فقط ، وليست منه ... ولزم على ذلك المذهب لوازم باطلة ، منها : حصر الكفر بكفر التكذيب والاستحلال القلبي ، ولاشك أن هذا قول باطل وضلال مبين مخالف للكتاب والسنة وما عليه أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا...).
29- وقالت اللجنة في تحذيرها من كتابي علي الحلبي :
( بناه مؤلفه على مذهب المرجئة البدعي الباطل ، الذين يحصرون الكفر بكفر الجحود والتكذيب والاستحلال القلبي).
30- وقال الشيخ بكر بن عبد الله أبوزيد حفظه الله في كتابه درء الفتنة عن أهل السنة ص 38
(وهو مذهب المرجئة الذين ضلوا في بيان حقيقة الإيمان ، فجعلوه شيئا واحدا لا يتفاضل ، وأهله فيه سواء وهو التصديق بالقلب مجردا من أعمال القلب والجوارح ، وجعلوا الكفر هو التكذيب بالقلب وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه ، فأنتج هذا مذهبهم الضال : وهو حصر الكفر بكفر الجحود والتكذيب المسمى: كفر الاستحلال)
31 - وقال ص 49 في بيان معتقد أهل السنة
( وأن الكفر يكون بالاعتقاد وبالقول وبالفعل وبالشك وبالترك ، وليس محصورا بالتكذيب بالقلب كما تقوله المرجئة).
وقد سار الأشاعرة على منهج الجهمية في حصرالكفر في التكذيب والجحود ، وقد مر ذكر الأشعري والأشاعرة في بعض النقولات، لكن أحببت هنا أن أذكر شيئا مما في كتبهم:
32- قال الباقلاني في تمهيد الاوائل : ص 392-394 ط. مؤسسة الكتب الثقافية :
( باب القول في معنى الكفر .
إن قال قائل : وما الكفر عندكم ؟
قيل له : هو ضد الايمان ،
وهو الجهل بالله عز وجل ، والتكذيب به ، الساتر لقلب الانسان عن العلم به ، فهو كالمغطي للقلب عن معرفة الحق ... وقد يكون الكفر بمعنى التكذيب والجحد والانكار ، ومنه قولهم : كفرني حقي أي جحدني .
وليس في المعاصي كفر غير ما ذكرناه ، وإن جاز أن يسمى أحيانا ما
جعل علما على الكفر كفرا ، نحو عبادة الافلاك والنيران ، واستحلال المحرمات ، وقتل الانبياء ، وما جرى مجرى ذلك مما ورد التوقيف به وصح الاجماع على انه لا يقع الا من كافر بالله ومكذب له وجاحد به ) .
وقوله : وإن جاز أن يسمى أحيانا ... الخ لا يغير من الحقيقة شيئا ، وإنما هذا لدفع الشناعة عليهم، وإلا فقد صرح في أول كلامه بأن الكفر هو الجهل بالله والتكذيب به ، كما صرح بأنها ( علم على الكفر) وليست كفرا في الحقيقة.
33- ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة 1/94
(وقد بين القرآن أن الكفر أقسام:
أحدها: كفر صادر عن جهل وضلال وتقليد الأسلاف، وهو كفر أكثر الاتباع والعوام.
الثاني: كفر جحود وعناد وقصد مخالفة الحق ككفر من تقدم ذكره، وغالب ما يقع هذا النوع فيمن له رياسة علمية في قومه من الكفار أو رياسة سلطانية أو من له مأكل وأموال في قومه ، فيخاف هذا على رياسته وهذا على ماله ومأكله فيؤثر الكفر على الإيمان عمدا.
الثالث: كفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول ولا يحبه ولا يبغضه ولا يواليه ولا يعاديه بل هو معرض عن متابعته ومعاداته.
وهذان القسمان أكثر المتكلمين ينكرونهما ولا يثبتون من الكفر إلا الأول، ويجعلون الثاني والثالث كفرا لدلالاته على الأول لا لأنه في ذاته كفر،
فليس عندهم الكفر إلا مجرد الجهل.
ومن تأمل القرآن والسنة وسير الانبياء في أممهم ودعوتهم لهم وما جرى لهم معهم جزم بخطأ اهل الكلام فيما قالوه وعلم أن عامة كفر الأمم عن تيقن وعلم ومعرفة بصدق أنبيائهم وصحة دعواهم وما جاؤوا به).
فانظر قوله: لا لأنه في ذاته كفر ، فليس عندهم الكفر إلا مجرد الجهل.
34- وقال الإيجي في المواقف ص 388
( المقصد الثالث : في الكفر : وهو خلاف الايمان ، فهو عندنا عدم تصديق الرسول في بعض ما علم مجيئه به ضرورة .
فإن قيل : فشاد الزنار ولابس الغيار بالاختيار لا يكون كافرا ؟
قلنا : جعلنا الشيء
علامة للتكذيب ، فحكمنا عليه بذلك ) انتهى.
35- وقال البغدادي في أصول الدين ص 247 وما بعدها، في بيان حقيقة الإيمان والكفر :
( فقال أبو الحسن الأشعري : إن الإيمان هو التصديق لله ولرسله عليهم السلام في أخبارهم ولا يكون هذا التصديق إلا بمعرفته. والكفر عنده هو التكذيب ، وإلى هذا القول ذهب ابن الراوندي والحسين بن الفضل البجلي).
36- وقال ص 266
( المسألة العاشرة من هذا الأصل في بيان الأفعال الدالة على الكفر:
قال أصحابنا : ان أكل الخنزير من غير ضرورة ولا خوف وإظهار زي الكفرة في بلاد المسلمين من غير إكراه عليه ، والسجود للشمس أو الصنم وما جرى مجرى ذلك :
من علامات الكفر
وإن لم يكن في نفسه كفرا ، إذا لم يضامه عقد القلب على الكفر.

ومن فعل شيئا من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر وإن لم نعلم كفره باطنا).

وبعد .. فقد أكثرت من النقل ، لتعلم أن مذهب الجهمية والأشاعرة في تعريف الكفر ، معروف مشهور ، مدون في كتب الفرق والمقالات ، وفي الكتب المعنية ببيان نواقض الإسلام، وأن من جهل ذلك ، ثم رمى غيره بموافقة الجهمية ، فليبك على نفسه.
والحمد لله رب العالمين .

[ كتب هذا المقال بتاريخ 4/6/2001 ، بالساحة الإسلامية].

كتبه ... الموحد