بسم الله الرحمن الرحيم

التلازم بين الظاهر والباطن
ونقولات مهمة لشيخ الإسلام وابن القيم


ثانيا : التلازم بين الظاهر والباطن ، ونقولات مهمة لشيخ الإسلام وابن القيم
ينبغي أن يعلم أن الاعتراف بهذا التلازم وفهمه والقول بموجبه ، هو ما يميز السني من المرجيء ، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ، وبين أن المرجئة يرون العمل ثمرة ، لا لازما .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم على وجوه غلط المرجئة في الإيمان كما الفتاوى ج 7 ص 204 :
( الثالث : ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له ; والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر ; ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب مثل أن يقولوا : رجل في قلبه من الإيمان مثل ما في قلب أبي بكر وعمر وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ويزني بأمه وأخته ويشرب الخمر نهار رمضان ; يقولون : هذا مؤمن تام الإيمان فيبقى سائر المؤمنين ينكرون ذلك غاية الإنكار . } أ . هـ
فتأمل قول شيخ الإسلام : (( ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له)) .
فهذا فرقان ما بين المرجئة والسنة . وسيأتي بيان المراد بإيمان القلب التام.
وقال شيخ الإسلام في بيان هذا التلازم :
مجموع الفتاوى ( 7 / 541)
( وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم
ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما فى القلب ولازمه ودليله ومعلوله كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما فى القلب فكل منهما يؤثر فى الآخر لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له والفرع يستمد من أصله والأصل يثبت ويقوى بفرعه ).
والآن أسوق إليك مواضع مهمة من كلام شيخ الإسلام وغيره :
1- بيان شيخ الإسلام أن مقتضى التلازم انعدام الإيمان بانعدام هذه الأعمال :
قال شيخ الإسلام ( 7/577)
(وقيل لمن قال : دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي ;
فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت : ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك : فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل : حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك).
فانظر قوله : كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم.
وقوله : فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن.
وقوله مبينا ما يترتب على القول بعدم التلازم : وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم .
فيا عجبا من إخواننا الذين يقرون بالتلازم ، ثم يقولون إن عدم الظاهر لا يدل على عدم الباطن!
2- تصريح شيخ الإسلام بأن من لم يأت بعمل الجوارح فهو كافر :
قال في شرح العمدة ج2 ص 86
في معرض تقريره لكفر تارك الصلاة :
(و أيضا فان الإيمان عند أهل السنة و الجماعة قول و عمل كما دل عليه الكتاب و السنة و اجمع عليه السلف و على ما هو مقرر في موضعه فالقول تصديق الرسول و العمل تصديق القول
فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا.
و القول الذي يصير به مؤمن قول مخصوص و هو الشهادتان فكذلك العمل هو الصلاة ... وأيضا فإن حقيقة الدين هو الطاعة و الانقياد و ذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط ، فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا ، و من لا دين له فهو كافر " انتهى .
3- تصريحه بأن انتفاء أعمال الجوارح مع التمكن والعلم بها لا يكون إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح :
قال في مجموع الفتاوى 7/616
( وهذه المسألة لها طرفان : أحدهما : في إثبات الكفر الظاهر . والثاني : في إثبات الكفر الباطن . فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الايمان قولا وعملا كما تقدم ،
ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا ايمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ولا يؤدي لله زكاة ، ولا يحج الى بيته ، فهذا ممتنع ، ولا يصدر هذا الا مع نفاق في القلب وزندقة ، لا مع ايمان صحيح ).
4- تصريحه بأن الرجل لا يكون مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم.
(7/621 ) : ( وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة و يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد ).
5- نقله عن أبي طالب المكي – وإقراره له – أن من لم يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد:
قال أبو طالب ، كما نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 7/333)
( الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له ; ولا إسلام لمن لا إيمان له ؛ إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه -
ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان ; واشترط للإيمان الأعمال الصالحة فقال في تحقيق ذلك { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه } وقال في تحقيق الإيمان بالعمل : { ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا }.
فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد ; ومن كان مؤمنا بالغيب مما أخبرت به الرسل عن الله عاملاً بما أمر الله فهو مؤمن مسلم ).
6- نقله عن أبي طالب المكي- وإقراره - أن في سقوط عمل الجوارح ذهاب الإيمان :
مجموع الفتاوى لابن تيمية (7 / 334)
(لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقد ومَثَلُ ذلك مَثَلُ العمل الظاهر والباطن أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح ومثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات } أي لا عمل إلا بعقد وقصد لأن { إنما } تحقيق للشيء ونفي لما سواه فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات ، فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان
لا يصح الكلام الا بهما لأن الشفتين تجمع الحروف واللسان يظهر الكلام وفى سقوط أحدهما بطلان الكلام وكذلك فى سقوط العمل ذهاب الإيمان ).
فلا إيمان إلا بعمل ، كما أنه لا عمل إلا بعقد ، وفي سقوط العمل ذهاب الإيمان.
7- نقله عن أبي طالب- وإقراره – أن أعمال القلوب لا تنفع إلا مع صالح أعمال الجوارح :
مجموع الفتاوى ( 7/334)
( ومثل الإيمان و الإسلام أيضا كفسطاط قائم فى الأرض له ظاهر و أطناب وله عمود فى باطنه ن فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح وهو الأطناب التى تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذى فى وسط الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلا به فقد احتاج الفسطاط اليها اذ لا قوام له ولا قوة إلا بهما، كذلك الاسلام فى أعمال الجوارح لا قوام له إلا بالإيمان
والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلا بالاسلام وهو صالح الأعمال ).
8- تصريح شيخ الإسلام بأنه إذا انتفت أعمال الجوارح لم يبق في القلب إيمان :
قال شيخ الإسلام : 7/202
( وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب " الموجز " ؛ وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ولم يقل : إن هذه الأعمال من الإيمان . قالوا : فنحن نقول : من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه . والجواب عن هذا من وجوه : أحدها :
أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب ; وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي . الثاني : أن نصوصا صرحت بأنها جزء كقوله ...).الخ
فتأمل قوله : أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب .
فهذا هو مقتضى التلازم عند شيخ الإسلام .
9- تصريحه بأن قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن ممتنع :
مجموع الفتاوى (7/556)
قال :( و أيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا وهذا باطل قطعا فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعا بالضرورة، وان أدخلوا أعمال القلوب فى الإيمان أخطأوا أيضا
لإمتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين بل من كان مؤمناً بالله ورسوله بقلبه هل يتصور إذا رأي الرسول وأعداءه يقاتلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره هل يمكن مثل هذا فى العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول فمن المعلوم أن هذا ممتنع ).
10- تصريحه بأن انتفاء اللازم الظاهر دليل على انتفاء الملزوم الباطن:
قال ( 7/554) (و المرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان ; فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن أو لازم لمسمى الإيمان .)
وقال في الجواب الصحيح ( 6/487 )
( وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان ، وبيَّنا أن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب لله ورسوله وتعظيم ، لابد أن يظهر على الجوارح وكذلك بالعكس
ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت ، صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } وكما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لمن رآه يعبث في الصلاة : { لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه }….. فإن الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد ).
11- تصريحه بأن انتفاء العمل يكذب أن في القلب إيمانا :
قال في ( 7/294)
(وقوله : ليس الإيمان بالتمني - يعني الكلام - وقوله : بالتحلي . يعني أن يصير حلية ظاهرة له فيظهره من غير حقيقة من قلبه ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال
فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر . وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم .).
12- تصريحه بأن وجود إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع : (مجموع الفتاوى (7/616)
(فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة فى هذا الباب وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه فإنه دخلت عليه الشبهة التى دخلت على المرجئة والجهمية والتى دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم فى مسألة الإيمان وأن الأعمال ليست من الإيمان
وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءاً من الإيمان كما تقدم بيانه)
والمقصود بإيمان القلب التام : الإيمان الصحيح ، لا الكامل ، كما ظنه البعض ، ومما يؤكد هذا قوله :
مجموع الفتاوى ج: 7 ص: 553
(وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر كما فى المسند عن النبي أنه قال الاسلام علانية والإيمان فى القلب والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره
ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الإستسلام لله والانقياد له والا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والإنقياد باطنا ولا يحصل ذلك فى الظاهر مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.
وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة
فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم إنتفاء الإيمان القلبي التام وبهذا يظهر خطأ جهم ومن إتبعه فى زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع فى الآخرة فإن هذا ممتنع إذ لا يحصل الإيمان التام فى القلب إلا ويحصل فى الظاهر موجبه بحسب القدرة فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك).
فانظر قوله : (فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبى التام) فهل يصح حمل قوله ، على الإيمان الكامل ، مما يعني صحة إيمان من ترك الشهادتين مع القدرة !!!! وقد حكى شيخ الإسلام الإجماع على كفر من هذا حاله ، ظاهرا وباطنا. قال في ( 7/609 ) (فأما " الشهادتان " إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها).
وقال ( 7/302 )
( وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر ).
13- تصريحه بأنه لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح
مجموع الفتاوى (7/198)
(وذلك لأن أصل الإيمان هو ما فى القلب والأعمال الظاهرة لازمة لذلك لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذى فى القلب فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما فى القلب ).
وقال ( 7/621) :
( ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات ، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له ، أو جزءا منه ، فهذا نزاع لفظي ، كان مخطئا خطأ بينا ، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها ، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف ، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها).
فإذا عدمت أعمال الجوارح بالكلية ، لم يتصور وجود الإيمان الواجب في القلب .
وعلى فرض أن شيخ الإسلام يريد بالإيمان الواجب هنا ما زاد على أصل الإيمان الصحيح المجزيء ، فإن هذا لا ينافي عباراته الماضية التي يصرح فيها بأنه لم يبق في القلب إيمان ، بل الكفر والزندقة.
ولكني لا أرى ما نعا من تفسير هذه العبارة على أنها في الإيمان الواجب ، بمعنى : الصحيح اللازم للنجاة. والدليل على ذلك أن شيخ الإسلام يستعمل هذا اللفظ ( الإيمان الواجب في القلب ) في مواطن لا يصح فيها إلا هذا المعنى ( الإيمان الصحيح ).
قال شيخ الإسلام مجموع الفتاوى ج: 7 ص: 188
(فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس فى قلبه
الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه).
فحمله على ما زاد على أصل الإيمان هنا باطل قطعا . إذ يعني هذا أن من لم يتكلم مع القدرة معه إيمان صحيح . وهذا باطل كما سبق .
وانظر قوله – أيضا –
في مجموع الفتاوى ج: 18 ص: 53
(وقد لا يحصل لكثير منهم منها ما يستفيد به الإيمان الواجب فيكون كافرا زنديقا منافقا جاهلا ضالا مضلا ظلوما كفورا ويكون من أكابر أعداء الرسل ومنافقى الملة من الذين قال الله فيهم وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين ).
فقوله : فيكون كافرا ... الخ ، دليل على أن مراده بالإيمان الواجب الإيمان الصحيح وأصل الإيمان.
وانظر قوله :
في مجموع الفتاوى ج: 7 ص: 584
(و سادسها: أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعا وألقى المصحف فى الحش عمدا وقتل النفس بغير حق وقتل كل من رآه يصلى وسفك دم كل من يراه يحج البيت وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين يجوز أن يكون مع ذلك مؤمنا وليا لله إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافيا لهذه الأمور وإما أن لا يكون منافيا فإن لم يكن منافيا أمكن وجودها معه فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن. وإن كان منافيا للإيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه فلا يكون مؤمنا فى الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن).
ومع هذا أقول : ربما جاءت هذه العبارة لشيخ الإسلام بمعنى ما زاد على أصل الإيمان ، وحينئذ نقول: حملها – في المواضع التي استشهدنا بها- على أصل الإيمان أو الإيمان الصحيح هو الموافق لعباراته الأخرى الذي يجزم فيها بامتناع وجود إيمان صحيح في القلب بدون عمل الجوارح ، وأنه لا يوجد ثم إلا الكفر والزندقة.
وإن قيل : إنها عبارة محتملة استعملها شيخ الإسلام في معنيين . قلنا : في عباراته الصريحة الواضحة غنية وكفايه والحمد لله .
مع أنه لا تعارض بين المعنى الذي يذهبون إليه ، وبين العبارات الصريحة السابقة ،
فذهاب الأعمال الظاهرة يعني انتفاء الإيمان الباطن ، وأنه لا يبقى في القلب إيمان ، وأنه ليس ثم إلا الكفر والزندقة ، وأن هذا ممتنع لا يصدر من مؤمن بالله ورسوله ... وهو أيضا دال على عدم وجود الإيمان الواجب - بمعنى ما زاد على أصل الإيمان - من باب أولى .
ولشيخ الإسلام كلام مستفيض في بيان حقيقة التلازم بين الظاهر والباطن ، ولعل ما ذكرته في كفاية ، وقد أعود إلى نقل المزيد منه إن شاء الله.
14- تصريح ابن القيم بأن تخلف العمل الظاهر دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان:
قال في الفوائد ص 117
( الايمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء وعصم به المال والذرية .
ولا يجزىء باطن لا ظاهر له الا اذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل علي فساد الباطن وخلوه من الايمان.
ونقصه دليل نقصه.
وقوته دليل قوته. فالإيمان قلب الإسلام ولبه ، واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول)
وقال أيضا :
الفوائد :
(فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن. وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت ، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار ) . انتهى.
وربما تسرع متسرع فقال : لم يقل إنه كافر ، وإنما قال : لم ينجه من النار .
فنقول : حسبك أنه جعله ، كمن قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان . وكلاهما في النار" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار".
15- تصريح ابن القيم بأن من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية قال في ( الصلاة وحكم تاركها ) ص 35 عند ذكر الدليل العاشر من القرآن على كفر تارك الصلاة :
( على أنا نقول : لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدق بأن الله أمر بها أصلا ، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب ، وهو مع ذلك مصر على تركها ، هذا من المستحيل قطعا ، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا ، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها ، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الايمان ، ولا تصغ الى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها.
وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد والجنة والنار وأن الله فرض عليه الصلاة وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفى على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم،
وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية ... ). إلى أن قال (فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما اعتقاد الصدق، والثاني محبة القلب وانقياده ولهذا قال تعالى لإبراهيم :(يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) وإبراهيم كان معتقداً لصدق رؤياه من حين رآها فإن رؤيا الأنبياء وحي، وإنما جعله مصدقاً لها بعد أن فعل ما أمر به وكذلك قوله: " والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" فجعل التصديق عمل الفرج ما يتمنى القلب، والتكذيب تركه لذلك وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالعمل. وقال الحسن : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وقد روى هذا مرفوعاً ، والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة. الوعد على فعلها والوعيد على تركها. ( كذا ) وبالله التوفيق ).
وقال ابن القيم في كتاب الصلاة وحكم تاركها ص 46
(وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح ،إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان.فإن الإيمان ليس مجرد التصديق - كما تقدم بيانه - وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزم لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقاً فليس هو التصديق المستلزم للإيمان. فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) انتهى كلام ابن القيم.

كتبه ... الموحد