اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/almgamce/9.htm?print_it=1

الأيام النظرة في شرح السيرة العطرة ( 3 )

الشيخ صالح بن عواد المغامسي

 
مجموعة فوائد - فصل في أولاده :
الدرس الثـالـث :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوّى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، كنا قد ذكرنا شيئًا من نسبه عليه الصلاة والسلام ومولده وهجرته، ثم انتهينا إلى وفاته صلوات الله وسلامه عليه، وذكرنا جملةً من الفوائد لعله قد يكون من المناسب استحضار بعضها، فإننا ذكرنا زواجه عليه الصلاة والسلام من خديجة بنت خويلد، وقلنا إن هذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين خصّها الله جلّ وعلا ببعضٍ من الخصائص، منها من انفردت به عن أمهات المؤمنين، ومنها ما انفردت به عن نساء العالمين أجمعين،

فما الذي انفردت به عن أمهات المؤمنين؟
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها أحدًا في حياتها.

والثانية: أن الله جلّ وعلا رزقه منها الولد. هذا من انفردت به عن أمهات المؤمنين، ثم قلنا إن لها خصيصة ليست لأحدٍ من نساء العالمين، أن الله أمر جبريل أن يُبلغها السلام، وهذه الخصيصة لم تكن لأحدٍ –فيما نعلم- من نساء العالمين.
ثم إننا ذكرنا أن الهجرة حدثٌ يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم كقدوة، وقلنا ما كان يتعلق به كقدوة هذا الذي يُحتذى به، أما ما كان لا يتعلق به كقدوة فهذا يُعلم ويُعرف له قدره عليه الصلاة والسلام، لكن الأمة غير ملزمةٍ به، وذكرنا على هذا مثالا حادثة الإسراء والمعراج.

كما أننا تكلمنا عن أبي طالب، وقلنا إنه ناصر النبي عليه الصلاة والسلام وعضده وكان معه في شعب بني هاشم حينما حاصرت قريشٌ النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أنه يتعلق بنصرة أبي طالبٍ للنبي عليه الصلاة والسلام فوائد ذكرنا منها فائدتين:
• أن الإنسان يستخدم الوسائل التاريخية المتاحة إذا كان في ذلك نُصرةً للإسلام.
• والثانية الهداية، وقلنا إن كون أبي طالبٍ رغم نصرته للنبي عليه الصلاة والسلام لم يُرزق الهداية يدل على أن الهداية بيد الرب تبارك وتعالى، ونسأل الله جلّ وعلا أن يثبتنا وإيّاكم على هديه.

اليوم إن شاء الله تعالى سنأخذ ثلاثة فصولٍ من الكتاب من المتن المُقرر، منها ما
يتعلق بوفاته عليه، وهذا هو الفصل الأول، ثم ننتقل إلى فصلٍ في أولاده عليه الصلاة
والسلام، ثم فصلٍ في حجه عليه الصلاة والسلام.

( وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها )

الأصل أن الميت لا يُفرش له شيءٌ في قبره، دفن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من أصحابه ماتوا في حياته ولم يُنقل أنه أُدخل معهم في قبرهم شيءٌ، ولكن هذه القطيفة كان عليه الصلاة والسلام يفرشها ويجلس عليها ويلبسها أحيانًا، فأنزلها شقران الذي هو صالح مولاه معه في القبر، ثم فرشها وجعل النبي عليه الصلاة والسلام عليها، وأصل هذا الكلام الذي ذكره المصنف في صحيح مسلمٍ من حديث ابن عبّاس.

على هذا تتحرر مسألة هل يجوز أن يُفرش تحت الميت قطيفة أم لا؟

قال بعض العلماء في الإجابة عن هذا وحكاه النووي عن الجمهور أنه يُكره فعله وأن شقران فعلها دون علم الصحابة لأنه كره –أي شقران- أن يلبسها أحدٌ بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا التعليل الذي ذكره النووي رحمه الله غير صحيح، أو بتعبيرٍ أصح ضعيف، لأننا نقول إن الله جلّ وعلا لا يختار لنبيه إلا الأفضل، فما كان الله ليسمح قدرًا لشقران أن يضع هذه القطيفة تحت النبي صلى الله عليه وسلم والله يكره ذلك، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يكفله ربه ويرعاه ويحفظه ويُحيطه بعنايته حيًا وميتًا، فينجم عن هذا تخريجًا أسهل فنقول إنه يُكره بل قد يصل أحيانًا إلى حد المنع أن يوضع تحت أي ميّت قطيفة حمراء أو قطيفة من أي نوع، وإنما هذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل ما وجه الخصوص هنا، قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأرض حرّم الله عليها أن تأكل أجساد الأنبياء، فلأن الأرض لا تأكل جسده أذن الله قدرًا لشقران أن يضع هذه القطيفة تحت نبينا صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يمكن تخريج المسألة بأن الله لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وأن هذا من خصائصه، وممن نص من العلماء على أن هذه خصيصةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وكيع بن الجراح المحدث المشهور، شيخ كثير من السلف كالإمام أحمد وغيره، فوكيعٌ نص على أنها خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر لنا أنه ينجلي الإشكال في المسألة، والله أعلم.

( ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران، وأطبق عليه تسع لبنات، ودُفن في الموضع الذي توفاه الله فيه حول فراشه، وحفر له وألحد في بيته الذي كان بيت عائشة، ثم دفن معه أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما - )

أما كون من نزل معه القبر فقد ذكر المصنف رحمه الله أنه نزل القبر خمسة، العباس وقثمٌ والفضل وعليٌ وصالحٌ مولاه الذي هو شقران، وهذا روايةٌ أضعف والصحيح أن الذي نزل القبر أربعةٌ فقط ليس منهم العباس، ذكر المقدسي رحمه الله في هذا أن العبّاس منهم كما ذكره النووي، لكن الصحيح أن الذي نزل القبر أربعة هم قثمٌ والفضل ابنا العبّاس بن عبد المطلب وعليٌّ ومولاه شقران، هؤلاء الأربعة الذين تولوا نزول قبره وإجنانه –أي ستره صلى الله عليه وسلم – دون الناس، هؤلاء الذين نزلوا القبر.

ثم وُضعت عليه تسع لبناتٍ، وقبلها كانوا قد اختلفوا هل يلحدون له لحدًا كما هو صنيع أهل المدينة، أما يجعلون القبر شقًا كما هو صنيع أهل مكة، فبعثوا إلى الاثنين وقالوا: اللهم خِر لنبيك –أي اختر لنبيك-، فالذي ذهب ليأتي بالحفار الذي يشق لم يأت ولم يجده، والذي ذهب إلى بيت أبي طلحة وكان يلحد لأهل المدينة -أي يضع لحدًا في القبر- جاء وحفر القبر للنبي عليه الصلاة والسلام.
وقبل أن يحفروا القبر اختلوا أين يُدفن، وهذا أحد أسباب تأخير دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما أقول أحد الأسباب يدل على أن هناك أسبابٌ أخرى، هذا أحد الأسباب التي دعت الصحابة إلى أن يتأخروا في دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكرٍ رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ما مات نبيٌّ إلا دُفن حيث يُقبض )، وهذا القول أحد خصائص الأنبياء، وهذا –إن صحّ القول- يقودنا –من باب الاستطراد العلمي- لمعرفة بعض خصائص الأنبياء كفوائد.

الله جلّ وعلا جعل للأنبياء خصائص نذكرها إجمالا:

• منها الوحي، وهو أعظم خصائص الأنبياء، الوحي الذي هو أعظم خصيحة فرق الله بها بني الأنبياء وغيرهم من الناس.

• الأمر الثاني أنهم يُخيرون عند الموت.

• الأمر الثالث أنهم يُدفنون حيث يموتون.

• الأمر الرابع أن الأرض لا تأكل أجسادهم.

• الأمر الخامس أنهم جميعًا رعوا الغنم، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر ( وما من نبيٍ إلا رعاها )، لما جنى معهم الكَبَاث قال ( عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه )، قالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى الغنم، قال ( وهل من نبيٍ إلا رعاها، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ).

• الأمر السادس أنه تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
هذه ستةٌ من خصائص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ذكرناها استطرادًا، وجاء معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام دُفن في الموقع الذي مات فيه –أي في حجرة عائشة-، وهذا مما تناقل تواترًا بين المسلمين وتحرر أنه في المكان المقبور فيه.

ثم قال المصنف
( ثم دفن معه أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما - )
أبو بكرٍ وعمر دُفنا في نفس حجرة عائشة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها –وهذا من الفوائد وفرائد العلم- قد رأت قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها أن ثلاثة أهلة أو أقمار سقطت في حجرها، فذهبت إلى أبيها أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقصت عليه الرؤيا وكان أبو بكرٍ مما يُعبر، فسكت عنها ولم يجبها أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات عليه الصلاة والسلام ودُفن في حجرة عائشة جاء أبو بكرٍ إلى عائشة وقال لها "هذا أول أقمارك يا عائشة"، ثم دُفن أبو بكرٍ رضي الله عنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت عائشة رضي الله عنه تريد أن تدخر ما بقي من الحجرة لها، فلما مات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يموت أرسل ابنه عبد الله يستأذن عائشة في أن يُدفن ما صاحبيه وقال: قل لها عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فدخل عليها عبد الله وقال لها: عمر بن الخطاب يستأذن أن يُدفن مع صاحبيه، فقالت: لأوثرنه اليوم على نفسي وقد كنت أدخره –أي الموضع- لنفسي، فوافقت، فلما رجع عبد الله إلى أبيه كان عمر مازال حيًّا طريح الفراش من طعنة أبي لؤلؤة المجوسي، فلما دخل قال: ما وراءك، يعني يسأل ما الجواب، قال عبد الله ابنه: أبشر بالذي يسرك يا أمير المؤمنين فإنها قد وافقت، فقال عمر رضي الله عنه: والله ما من شيءٍ كان أهم عليّ من هذا الأمر، أن يُدفن مع صاحبيه.
ثم ظهرت عدالة عمر بجلاء فقال: فإذا أنا مت فغسلوني وكفنوني ثم استأذنوا لي منعائشة مرةً أُخرى فإنني أخاف أنها وافقت في الأول استحياءً مني أنني حيٌّ، فلما مات عمر وغُسِّل وكُفن وصُلِّي عليه وحُمل قيل لها وهو محمولٌ على أعناق الرجال: عمر بن الخطاب يستأذن أن يُدفن مع صاحبيه مرةً أُخرى، فوافقت رضي الله عنها فدُفن عمر مع النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وقال بعض المؤرخين بقي موضع جملةٌ من الروايات تدل على أنه سيدفن فيه عيسى بن مريم، والله تعالى أعزُّ وأعلى وأعلم.
قبل أن نُكمل هذا ما تقيدت به في شرح النص الذي ارتبط بالمتن، أما الكلام عن وفاته عليه الصلاة والسلام جملةً فسأسردها إجمالا مُّبينًا بعض ما فيها من فوائد بعد أن انتهينا بما يتعلق بذمتنا الشرعية حول النص. لم يفقد الناس أحدًا أعظم من رسولهم صلى الله عليه وسلم، وقد شعر صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل في حجة الوداع لما أنزل الله جلّ وعلا عليه قوله ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3] عرف صلى الله عليه وسلم أن الأمر الذي بُعث من أجله قد تم، فأخذ يودع الناس ويقول ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )، فيخطب ثم يقطع ويقول ( أيها الناس لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، وإنكم ستُسألون عني فما أنتهم قائلون )، فيجيبون: نشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، فيرفع إصبعه الطاهر إلى السماء ثم ينكتها إلى الأرض ويقول ( اللهم فاشهد، اللهم فاشهد ).
ثم رجع إلى المدينة تشرف به الوهاد والنجاد في حتى دخلها، في آخر صفر وأول ربيع حضر جنازةً فلما رجع شعر بصداعٍ في رأسه وحمَّى تُصيبه فدخل على عائشة فقالت: وارأساه، فقال ( بل أنا وارأساه )، فلما شعر بدنو الأجل خرج إلى شهداء أُحد فاستغفر لهم ودعا لهم كالمودع، ثم خرج في ليلة مع غلامٍ له يُقال له أبو مُويْهبة فأتى أهل البقيع فدعا لهم واستغفر لهم وقال ( لِيهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌّ من الأولى )، ثم قال ( يا أبا مُويْهبة إن الله خيَّرني ما بين خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وما بين لقاء ربي ثم الجنة فاخترت لقاء الله ثم الجنة )، فقال له مُويهبة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي اختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال ( يا أبا مُويْهبة إنني اخترتُ لقاء الله ثم الجنة ).
ثم خرج يومًا عاصبًا رأسه فخطب على المنبر وقال ( إن رجلا خيره الله ما بين الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة ) فقال أبو بكرٍ: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، وجعل يبكي فتعجب الناس من بكاء أبي بكر، ثم قال عليه الصلاة والسلام ( على رِسلك يا أبا بكر ) ومدح وأثنى على أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنه كأنه يُشير إليه بالخلافة من بعده، ثم قبل وفاته بيوم تصدّق بالدنانير، تسعة أو سبعة كانت عنده، ثم أعتق غلمانه تحررًا من قيود الدنيا، ثم لم يُبق إلا بغلته وسيفه وشيئًا يتجمل به الأئمة والملوك بعده.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام في يوم الإثنين الذي مات فيه كُشف ستار حجرة عائشة وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يُصلي بالناس فأطل عليه الصلاة والسلام، يقول أنس: يتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وقرت عينه أن الأمة اجتمعت بعده على إمامٍ واحدٍ في صلاتها، فاقترب الناس وكادوا أن يُفتنوا، ثم أُعيد الستار كما كان ورجع صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، وخرج أبو بكرٍ فرحًا إلى بيتٍ له بالسُنى حوالي المدينة، وتفرق الناس على الخير.
ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ابنته فاطمة فأسرها أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم قالت: واكرب أبتاه، قال ( ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم )، ثم إنه عليه الصلاة والسلام دخل عليه أسامة وجعل يسأله الدعاء فدعا له دون أن يرفع صوته، وهو نبي الأمة ورأس الملة وسيد الفصحاء وإمام البلغاء، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكرٍ وفي يد عبد الرحمن سواك، فجعل يحرك النظر فيه دون أن يستطيع أن يطلبه من عبد الرحمن ففهمت عائشة مراده فأخذته من أخيها وقضمته وطيبته وأعطته نبينا عليه الصلاة والسلام واستاك.
ثم جاءه الملك يُخيره، قال قبل أن يُخير يضع يده في ركوة فيها ماء ويمسح بها وجهه الطاهرة الشريفة ويقول ( لا إله إلا الله، اللهم إن للموت سكرات فأعني على سكرات الموت )، ثم جعل يُخيره الملك وهو يقول ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا )، والملك يخيره وهو يقول ( بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى )، قالها ثلاثًا ثم ماتت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في الملكوت الأعلى والمحل الأسنى صلوات الله وسلامه عليه.

قال حسّان:

بطيبة رسم للنبي ومعهد *** منير وهل تمحو الرسوم وتهمد
بها حجرات كان ينزل وسطها *** من الله نور يستضاء ويوقد
معالم لم تطمس على العهد آيها *** أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وصحبه *** وقبرا به واراه في الترب مُلحد
وهل عدلت يوما رزية هالك *** رزية يوم مات فيه محمد
وما فقد الماضون مثل محمد *** ولا مثله حتى القيامة يُفقد
صلى الإله ومن يحف بعرشه *** والطيِّبون على المُبارك أحمد


فصل في أولاده :

(وله صلى الله عليه وسلم من البنين ثلاثة:القاسم: وبه كان يكنى، ولد بمكة قبل النبوة، ومات بها وهو ابن سنتين، وقال قتادة: عاش حتى مشى. وعبد الله: ويسمى الطيب والطاهر، لأنه ولد في الإسلام. وقيل: إن الطاهر والطيب غيره، والصحيح الأول.وإبراهيم: ولد بالمدينة، ومات بها سنة عشر، وهو ابن سبعة عشر شهرًا أو ثمانية عشر. وقيل: كان له ابن يقال له: عبد العزى، وقد طهره الله – عز وجل – من ذلك وأعاذه منه )

بعد أن ذكر المصنف رحمه الله مولد النبي صلى الله عليه وسلم وحياته ووفاته ذكر جملةً مما يتعلق بأولاده عليه الصلاة والسلام، والأولاد في اللغة إذا أُطلقت يُراد بها الذكر والأنثى سويًا، قال الله جلّ وعلا في كتابه الكريم ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، فتعبير العامّة أن فلانًا رُزق ولدًا على أنه ابن غير صحيحٌ من حيث اللغة، لكنهم يقولون خطأٌ شائعٌ ولا صحيح مهجور، وعلى العموم فإنه عليه الصلاة والسلام رُزق من الأولاد ذُكورًا وإناثًا.
بدأ المصنف رحمه الله بذكر الأولاد، فالأولاد الذين رُزقهم عليه الصلاة والسلام القاسم، وهذا أكبر أبنائه وأول من رُزق على الأظهر، لكنه رُزِقه قبل أن يُبعث ومات وهو صغير، قيل سنتين وقيل غير ذلك، وأيان كان فإنه لم يُدرك النبي عليه الصلاة والسلام وقد نُبئ، وكان يُكنّى عليه الصلاة والسلام كما مرّ معنا بأبي القاسم.
ورُزق عبد الله بعد النبوة، ولذلك اقترن اسم عبد الله بالطيب والطاهر كلقب، لكن عبد الله هذا مات كذلك هو صغير.
ثم رُزق إبراهيم من سُريته مارية القبطية التي أهداها إليه المُقوقس حاكم مصر، أهدى للنبي عليه الصلاة والسلام جارية يُقال لها مارية، فتسراها عليه الصلاة والسلام فأنجب منها إبراهيم، وإبراهيم هذا عاش ثمانية عشر شهرًا، ومات في شوال من السنة العاشرة قبل حجة الوداع، وهو الذي قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه ( وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ).
وكانت له مُرضعة اسمها فاطمة ظئر ترضعه في عوالي المدينة، قال أنسٌ رضي الله عنه "ما رأيتُ أحدًا أرحم بالعيال من رسولنا صلى الله عليه وسلم"، وكان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى عوالي المدينة فيحمل ابنه إبراهيم ويشمه ويضمه ويُقبله، ثم فُجع به عليه الصلاة والسلام بوفاة ابنه إبراهيم فحزن قلبه ودمعت عيناه وقال ( إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ).
وهذا من الدلائل على أن الإنسان مهما علا شرفه وعظم قدره فإنه عُرضةٌ للبلاء، والصالحون أعظم عُرضة، ونبينا عليه الصلاة والسلام إمام الصالحين، بل إمام الخلق أجمعين، فلم يُكتب له أن يعيش له ولدٌ كبير يعضده، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى، وإبراهيم لما رُزقه عليه الصلاة والسلام بعد كِبر سنه مات وعمره ثمانية عشر شهرًا، والله يقول في كتابه ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، وكذلك الناس يُعطون ويُمنعون ويُحرمون ويأخذون، والداعي وطالب العلم والمُوفق والمُسدد في سبيل الله يعلم أن الدنيا أخذٌ وعطاء وصبرٌ وابتلاء، وهذا ما جبل الله جلّ وعلا عليه الدنيا وجعلها سجنًا للمؤمن وجنةً للكافر.

والمؤمن يأخذ من هذا العبر في وفاته عليه الصلاة والسلام ووفاة ابنه، وأنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، ولو لم يظفر طالب العلم بكلمةٍ أعظم من هذه لكفى، لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، أي عناء وأي مشقة تعتريك في طريقك إلى الله تذكر جيدًا أنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، لن ترتاح حتى تلقى الله تبارك وتعالى على الإيمان، أما دون ذلك لا يمكن أن يصفو لك أمر، لا القبر ولا القيام بين يدي رب العالمين، النبي عليه الصلاة والسلام دفن سعد بن مُعاذ وقد نزل سبعون ألف ملك من السماء يُشيعونه ثم قال ( لقد ضم القبر عليه ضمة لو نجى منها أحدٌ لنجى منها هذا العبد الصالح ).
فالمؤمن لا راحة له حتى يلقى الرب تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه.

بناته صلى الله عليه وسلم :

(البنات: زينب: تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها، وأمه هالة بنت خويلد، ولدت له عليًا – مات صغيرًا – وأمامة التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وبلغت حتى تزوجها علي بعد موت فاطمة.
وفاطمة: بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له الحسن والحسين، ومحسنًا – مات صغيرا – وأم كلثوم، تزوجها عمر بن الخطاب، وزينب، تزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب )


ذكر البنات، وذكر هنا بعضًا منهن، بناته عليه الصلاة والسلام أربع، رقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، ذكر المصنف أولهن زينت والأظهر أنها الكبرى، هذه زينب رضي الله عنها تزوجها أبو العاص بن الربيع، وكان مُشركًا في أول الأمر ثم أسلم، وهي التي أهدتها أمها خديجة بنت خويلد قلادة يوم أن دخلت على زوجها.
ثم لمّا كانت معركة بدر أُسر زوجها ضمن الأسرى الذين أسرهم المسلمون، فلمّا شُرع الفداء ليفدوا أسراهم أخرجت زينب -وهي بنت رسول الله- هذه القلادة التي أعطتها إيّاها أُمها خديجة لتفدي بها زوجها الكافر العاص بن الربيع، فلما أخرجتها ورأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة التي أهدتها زوجته خديجة أم زينب زينب يوم زواجها دمعت عيناه صلوات الله وسلامه عليه وتحرك قلبه لأنه تذكر أيّام خديجة، والإنسان جبلةً إذا رأى شيئًا يُذكره بشيءٍ قديم يحزن إذا كان أمرًا مُحزنًا ويفرح إذا كان أمرًا مُفرحً
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى *** فهذا كله قبرُ مالك
هذا عن زينب، زينب هذه ولدت منه –أي من العاص- أمامة، وهي اسم جارية، وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها، هذا ما يتعلق بزينب.
أما رقية فقد تزوجها عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وستأتي رقية في الورقة الثانية.
وأما فاطمة رضي الله تعالى عنها فقد تزوجها عليُّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهي أصغر بناته على قول، والقول الآخر أن الأصغر أم كلثوم، لكن تُلاحظ في المتن أنه المصنف رحمه الله قال
( فولدت له ) أي ولدت لعلي ( الحسن والحسين، ومحسنً )، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ولدت فاطمة ابنها الأول دخل على عليِّ وفاطمة قال ( أي ابني؟ ما سميتموه؟ )، قالوا: سميناه حرب، قال ( بل هو الحسن )، فلما حملت بالحسين وولدت قال ( أين ابني؟ ما سميتموه؟ ) قالوا: سميناه حرب، قال ( بل هو الحسين )، فلما ولدت الثالث قال ( ما سميتموه ) قالوا: حرب، كأن حرب هذا اسم كان عليٌّ وفاطمة يحبون أن يُسمُّوه، قال ( لا، بل هو مُحسِّن )، ثم قال سميتهم بولد هارون ( بشّار وبُشير ومُبشر ). مُحسن مات وهو صغير، فمن الذي بقي؟ الحسن والحسين، فهما ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا. ثم قال المصنف ( وأم كلثوم، تزوجها عمر بن الخطاب )، ليست هذه أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، هذه بنت علي رضي الله عنه من فاطمة، أخت الحسن الحسين، وُلدت في السنة السادسة من الهجرة، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمرها أربع سنوات، وتزوجها عمر رضي الله عنه وأصدقها أربعين ألفًا يريد –لشرفها- أن يحظى بقرابةٍ مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

( ورقية: بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عثمان بن عفان فماتت عنده، ثم تزوج أم كلثوم فماتت عنده، وولدت رقية ابنًا فسماه عبد الله، وبه كان يكنى.
فالبنات أربع بلا خلاف، والصحيح من البنين أنهم ثلاثة، وأول من وُلد له القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم في الإسلام عبد الله، ثم إبراهيم بالمدينة. وأولاده كلهم من خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، وكلهم ماتوا قبله إلا فاطمة، فإنها عاشت بعده ستة أشهر )


ذكر المصنف ما تبقى من البنات، وهن رقية وأم كلثوم، زوجها –أي رقية- من عثمان، فماتت عنده –أي تحته-، ماتت في أيّام عزوة بدر، ولذلك لم يشهد عثمان رضي الله عنه عزوة بدرٍ كان يُمَرِّض زوجته رقية، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم وجدها قد ماتت على الأظهر، ثم زوجه النبي عليه الصلاة والسلام أختها أم كلثوم، ثم ماتت عنده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لُقب عثمان بذي النورين لأنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال المؤرخون إنه لا يوجد أحدٌ من أهل الأرض جمع الله له ابنتي نبيٍ تحت سقفٍ واحدٍ إلا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ثم ذكر فاطمة وهي أحب بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه، والإمام الذهبي لمّا ترجم لها في الأعلام قال "هي البضعة النبوية والجهة المصطفوية"، وكانت أشبه الناس مِشيةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها ويجلها ويعظمها وإذا دخلت قام لها ويقبلها ويضمها، كانت قطعةً منه، ويقول ( فاطمة بضعةً مني، يريبني ما رابها، ويُضيرني ما أضرها )، أو كلمةً نحوها.
وأنجب منها عليٌ الحسن والحسين، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يُحب الحسن والحسين حبًّ جمًّا، وكان يضعهما على كتفيه ويُقبل هذا مرة وهذا مرة ويقول ( اللهم إني أحبهما فأحبهما )، وقال ( هما ريحانتاي من الدنيا )، وقطع خطبته وهو المنبر لمّا دخلا عليهما قميصان أحمران يمشيان فيعثران، فنزل من المنبر وقطع الخطبة وتركها ونزل وحملهما ووضعهما بين يديه ثم التفت إلى الناس وقال ( صدق الله ورسول إنما أموالكم وأولادكم فتنة، لقد نظرت إلى ابني هذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما ).
ومع ذلك يوجد من الناس سهوًا أو خطأً أو جهلا يتباعد على أن يُسمِّي بالحسن والحسين ويقول إن هذا تقر به أعين الشيعة، والحق لا يُترك إذا تلبس به أهل الباطل، الحق لا يُترك إذا تلبس به أهل الباطل، فتسمية الحسن والحسين تسميةٌ نبوية، لا يمكن أن تُترك لأن أحدًا نُبغضه فعلها، وكذلك ترك الناس تسمية بعض أهل البيت كقثم والعباس والفضل، قلما يوجد هذا بين الناس رغم أنه تسمية بآل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يقول ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23]، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على حب آل بيته وعلى نصرتهم وعلى موالاتهم في أحاديث كُثر، منها أنه قال ( تركت فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي فإنهما لا يختلفا حتى يردا عليَّ الحوض ).
لكن حب آل البيت يكون مُقيدًا بالضوابط الشرعية، ويكون المؤمن فيه لا مُجافٍ ولا مُغالٍ كما هو ديدن المسلم في سائر أمره والله أعلم.

فصل في حجه وعمره :

( فصل في حجه وعمره :
روى همام بن يحيى عن قتادة، قال: قلت لأنس: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم من حجة؟ قال: "حجة واحدة،واعتمر أربع عمر عمرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت، والعمرة الثانية حيث صالحوه من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنيمة حنين في ذي القعدة، وعمرته مع حجته" صحيح متفق عليه.
هذا بعد قدومه المدينة، وأما ما حج بمكة واعتمر فلم يحفظ، والذي حج حجة الوداع، ودع الناس فيها، وقال: ( عسى ألا تروني بعد عامي هذا ) )

بعد أن ذكر المصنف أولاده عليه الصلاة والسلام ذكر حجه وعمرته، ذكر الحج والعمرة لأنها لا تُفعل عادةً بكثرة، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم ويُصلي بين الناس بشكلٍ يرونه يوميًا، ثم بيّن ما تتالى من حجته وعمرته عليه الصلاة والسلام.
النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، عمرةٌ هي التي كانت في عام الحديبية سنة ست، أحرم من ذي الحليفة من المدينة فخرج حتى وصل إلى مكة، فلما وصل إلى مكة وجاء عند الحديبية بركت الناقة، فقال الصحابة: خلأت القصواء، فقال ( والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، والذي نفسي بيده لا يسألونني اليوم خطةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيّاها )، ففقه عليه الصلاة والسلام من هذا زيادةً في فهم عظمة حرمة البيت، وكانت إشارة من الله أنه لن يدخل البيت، وقول الصحابة "خلأت القصواء"، بمعنى بركت وحرمت من غير علةٍ ظاهرة، وقال عليه الصلاة والسلام ( حبسها حابس الفيل ) أي أن بيت الله عظيم.
فطلبت منه قريشٌ ألا يدخل مكة، في صلح الحديبية المشهور وليس هذا وقت شرحه، فقبل عليه الصلاة والسلام ورضي، وهذا الذي يجب أن يفقهه كل من يدعو إلى الله، من يدعو إلى الله لا ينتصر لنفسه، ليس شيئًا تلبست به لابد أن يمضي، المهم أين مصلحة الإسلام، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يُحرم من ذي الحليفة ويقطع كل هذه المسافات حتى يصل إلى مكة، ثم يقبل أن يحل إحرامه ويرجع كما جاء من غير أن يدخل مكة، لأنه رأى –ولو كان هذا فيه شيءٌ يتعلق بذاته- أنه فيه أمرٌ عظيمٌ ومصلحةٌ لمن؟ للإسلام والمسلمين، لأن بعد صلح الحديبية كان فتحًا عظيمًا، دخل كثيرٌ من الناس في دين الله أفواجًا، فأنزل الله عليه وهو عائد ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1].
ولما أمر الصحابة أن يُحلوا إحرامهم لم يقبلوا، أو بتعبيرٍ أصح لم يستجيبوا، ولا يعني هذا أنهم كانوا يُعاندون النبي عليه الصلاة والسلام -حاشاهم-، وإنما قد لايُطيعك من يُحبك، تتغلب عليه حالةٌ نفسية، فلما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يُحلوا إحرامهم لم يفعل أحدٌ، فدخل على أم سلمة فأخبرها بما لقي من الناس، وأم سلمة تعلم محبة الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام فأشارت عليه أن يحلق رأسه وينحر الهدي، فحلق رأسه ونحر الهدي فاستجاب الصحابة لأنهم رأوا أنه أمرٌ واقع فحلقوا رؤوسهم ونحروا هديهم حتى أصابهم الغم وكاد يقتل بعضهم بعضًا.
هذه العمرة لم تتم، لكن المصنف ذكرها كما ذكرها أهل السير من قبل لأنه أحرم بها صلى الله عليه وسلم، كان من شروط صلح الحديبية أن يعود صلى الله عليه وسلم في العام التالي ليدخل مكة، فلذلك دخلها في العام التالي –يعني في السنة السابعة-، أحرم من ذي الحليفة حتى دخل مكة وأقام فيها ثلاثة أيام، فهذه أول عمرة أدّاها النبي صلى الله عليه وسلم كاملةً في الإسلام.
العمرة الثالثة كانت بعد غزوة حنين، بعد أن وقعت معركة حنين نزل عليه الصلاة والسلام إلى الجعرانة -وهي حلٌّ خارج مكة، دخل مكة ليلا ثم اعتمر ورجع في نفس الليلة أو صباحًا، أي رجع عاجلا إلى الجعرانة وأكمل مسيره بعد ذلك إلى المدينة، دخل مكة وأحرم من الجعرانة، ودل على أن الجعرانة ماذا؟ حلٌّ، لأنها لو كانت حرمٌ لما جاز أن يُحرم منها.
ابن القيم رحمه الله تعالى أغلظ كثيرًا في زاد المعاد على ما كان يصنعه أهل مكة في أيامه من أنهم كانوا يحرمون من الجعرانة، وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها لأنها وافقت محله، وبعض المالكية يقول إن الجعرانة هي أفضل حلٍّ على وجه الأرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها ولم يُحرم عليه الصلاة والسلام من حلٍّ إلا الجعرانة، لأنه أحرم من المدينة والمدينة حرمٌ، وأحرم في الحج من مكة ومكة حرم، ولم يحرم من حلٍّ إلا الجعرانة، هذه فوائد قد يصيب أصحابها ولا يصيبون، لكن يفقهها طالب العلم، هذه العمرة الثالثة.

العمرة الرابعة كانت مع حجته، لأنه حج قارنًا عليه الصلاة والسلام فكانت الحجة قارنةٌ. من هذا يتحرر أن العمر الثلاث كلهن كن في شهر ذي القعدة، حتى عمرة الحج أحرم بها في شهر ذي القعدة لكنه لم يؤديها إلا في شهر ذي الحجة، لأنه ما وصل مكة إلا وقد دخل هلال شهر ذي الحجة.
هذه الأربع عمر التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم.
أما الحج فلم يحج في الإسلام إلا حجة واحدة سُميِّت بحجة الوداع لأنه ودّع الناس فيها، وهي حجّةٌ عظيمة، علم عليه الصلاة والسلام أنه لن يحج غيرها فأعلم الناس أنه سيحج، فقدم المدينة خلقٌ كثير كلهم يريدوا أن يأتمُّوا بحجته عليه الصلاة والسلام، وكان فيها من عظيم الفوائد ما أرجو أن يأتي في فصلٍ آخر لأن الوقت لا يشفع بأن نُطنب فيها، لكنه ذكر فيها كثيرًا من قواعد الدين، وأوصى بالنساء خيرًا، وجعل مآثر الجاهلية تحت قدميه، وأقام كثيرًا من قواعد الإسلام، وبين حرمة الدماء والأعراض والأموال، وهي حجته صلوات الله وسلامه عليه. أما غير ذلك فكله لم يثبت وغير محفوظ، والله أعلم إن كان قد حجّ عليه الصلاة والسلام أو اعتمر قبل الإسلام وهو في مكة، هذا كله غير ثابت، وما نُقل يُنقل بطرائق غير مكتملة السند الذي نستطيع أن نحكم عليه بالصحة.
وصلى اللهم على نبينا محمدٍ، والحمد لله رب العالمين.


---------------------------------------
( 1 ) ملاحظة : الكتابة بالخط الأخضر هي المتن .

 

 صالح المغامسي
  • تأملات قرآنية
  • السيرة النبوية
  • مجمع البحرين
  • آيات وعظات
  • مشاركات إعلامية
  • خطب
  • رمضانيات
  • فوائد ودرر
  • صوتيات
  • الصفحة الرئيسية