صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







تأملا ت في سورة الأنعام ج2

اضغط هنا لتحميل الكتاب على ملف وورد

الشيخ صالح بن عواد المغامسي

 
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأنا وذكرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:

 أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الآيات التي سنقف عندها اليوم قول الله عز وجل:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ*وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75) سورة الأنعام، إلى ما بعدها من آيات ثم ننتقل إلى قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ..} (93) سورة الأنعام.

ثم نقول مستعينين بالله عز وجل:

 إنه لما كانت السورة تتكلم عن العقيدة تتكلم عن عقيدة التوحيد التي بها بعث الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب ذكر الله جل وعلا في هذه السورة إمام الموحدين خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام .


فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء وشيخ الحنفاء
ونسب الله جل وعلا الملة إليه في كتابه قال الله تبارك وتعالى : (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) . وهذا النبي الكريم مر معنا كثيرا الثناء والمدح عليه من الله جل وعلا، وهو أهل لكل مدح فهو أرفع الأنبياء قدرا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. ومع اتفاق المسلمين على أن إبراهيم بعد نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرفع العباد قدرا إلا أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل مكة عام الفتح أمر أن يخرج ما في الكعبة من صور حتى يستطيع دخولها فكان مما أخرج صورة فيها صورة إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام جعلها المشركون له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (قاتلهم الله) يقصد كفار قريش (قاتلهم الله والله لقد علموا ما استقسم شيخنا بها قط) . موضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى إبراهيم شيخه، ولم يسم النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنبياء بأنه شيخه إلا إبراهيم.

وهذه يجب أن تحفظ وتحرر فهي من فرائد العلم الذي يستبينه طالب العلم لنفسه :

أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى هذا النبي الصالح سماه شيخه مع الاتفاق على أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من إبراهيم. وفي ليلة المعراج لما عرج به صلى الله عليه وسلم قابله إخوانه من النبيين فلما مر على إبراهيم قال إبراهيم لنبينا : (السلام عليك أيها النبي الصالح والابن الصالح) لأن الله جل وعلا جعل كل نبي بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال العلماء ما أنزل كتاب بعد إبراهيم من السماء على نبي من الأنبياء وإلا ذلك النبي من ذرية إبراهيم وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى.


المقصود:
هذا جملة ما يمكن أن يقال عن إمام الحنفاء أبينا إبراهيم عليه السلام، الله جل وعلا هنا يخبر أن إبراهيم كان يدعو الناس جميعا من أهل عصره الذين بعث فيهم وفي مقدمتهم أبوه وهو هنا يدعو أباه قال الله جل وعلا : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) أهل التاريخ يقولون إن اسم أبي إبراهيم تارح وليس آزر وحجتهم في هذا اتفاق كثير من النسابة على أن والد إبراهيم اسمه تارح وعلى أنه هذا المذكور في التوراة .

لكنه في مثل يقول:
" إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل "، وقلنا ونحن نؤصل في الدروس السابقة أن الإنسان يستمسك بأصل ثم إذا جاءت شبهات وعوارض على هذا الأصل يبقي على الأصل ويترك العوارض , فلو أجمعوا أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم اسمه تارح هذا مردود لأن الآية لا تحتمل أكثر من النص الصريح الله يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} فالله أسماه آزر فلا معدل عما سماه الله جل وعلا به .

قالوا هذا عمه ، قالوا هذا لقب لأبيه، قالوا عدة أمور يخرجون بها المقصود فنبقى على المقصود الذي هو أصل لأنه لا يوجد ما يعارضه ويقاومه.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}
(
اتخذ ) فعل يتعدى إلى مفعولين:
مفعوله الأول هنا أصنام ومفعوله الثاني آلهة، (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ).


ويمكن أن تقول معنى الآية :
تتخذ آلهة أصناما وكلا المعنى صحيح، لكن القرآن نزل : (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ).

فهذا إبراهيم عليه السلام يعيب على أبيه أن يعبد الأصنام ويترك عبادة الله الواحد القهار { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وهذا الخطاب الذي قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه جاء مبينا في سور عدة في آيات أخر بين الله جل وعلا فيها الأسلوب الدعوي الذي كان يخاطب به إبراهيم أباه، (
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ) كما جاء في سورة مريم، كلها دلالة على أن الإنسان يجب أن يعلم وهذا ما تبينه الآيات التي تليها أننا نحن المسلمون ندعو إلى شيء واحد هو توحيد الله ودين الإسلام فلا يختلف ما ندعو إليه لكن ما الذي يختلف؟ طرائق الدعوة، فالإنسان يدعو ويتغير أسلوبه بحسب حال المدعو، أما ما تدعو إليه هذا شيء ثابت لا يتغير نحن ندعو إلى الله إلى ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه دعوة الأنبياء و نحن مجرد متبعون، والأنبياء تنوعت طرائق الدعوة وتتنوع طرائق الدعوة من لديهم. فخطاب إبراهيم لأبيه ليس كخطابه لقومه كما سيأتي.


ثم قال الله جل وعلا :

{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}
(75) سورة الأنعام.
 فضل الله جل وعلا على هذا العبد الصالح لا يعد ولا يحصى ومنه أن الله أراه ملكوت السماوات والأرض، وملكوت هذه التاء زائدة للمبالغة.


 التاء في (
مَلَكُوتَ ) زائدة للمبالغة والمعنى :
 أن هناك ملك وهناك ملكوت فالملك ما تشاهده بعينك والملكوت ما وراء ما تشاهده بعينيك .
فالله جل وعلا منَّ على إبراهيم بأن أراه ملكوت السماوات والأرض قد يكون رؤيا بصرية تؤدي إلى يقين قلبي، وقد تكون مجرد يقين قلبي في صدر إبراهيم، والمقصود أن الإنسان ينظر إلى ما حوله.


والناظرون إلى ما حولهم ينقسمون إلى قسمين:

قوم ينظرون نظر إبصار وقوم ينظرون نظر اعتبار.
بالطبع نظر الاعتبار خير من نظر الإبصار لأن الإبصار يشترك فيه كل من يبصر ولكن نظر الاعتبار يختلف عن نظر الإبصار، ثم ليس كل من نظر نظر اعتبار يوفق إلى المقصود.


حتى الذين ينظرون نظر اعتبار ينقسمون إلى قسمين:

مهتدون وغير مهتدين، فمثلا يوجد من النصارى من القسيسين والذين يتأملون في السماوات يتأملون في الأرض يتأملون في الناس ويكتبون ويدونون من ينظرون نظر اعتبار لكنهم لم يحصلوا على المقصود فهؤلاء وإن نظروا نظر اعتبار إلا إنه لم يحصلوا على المقصود.
فالهداية من الله، ونظر الاعتبار لا يتعدى كونه وسيلة من وسائل الحصول على الهداية، و إلا الهداية يا أخي من الله، فمن رام شيئا يطلبه من ربه . الله جل وعلا رب كل شيء كما سيأتي .


الله جل وعلا يقول :
{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (185) سورة الأعراف، هنا يقول الله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام من أعظم الموقنين .

هذه (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) تبقى أصل و إلا فرع؟ الأصل، لأن الله قالها نصا : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) سيأتي الحديث عنها الآن.


ثم قال الله جل وعلا بعدها:
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ*فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ*فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (76-78) سورة الأنعام.

قبل أن نشرع في التفسير نقول:

لا يمكن أبدا أن يصدق قول من قال من المفسرين أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة، أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة وأن هذا قاله في طفولته، هذا أمر لا يمكن أن يعقل لماذا؟ لأن الله سمى إبراهيم في كتابه أنه إمام للحنفاء وقال عنه أنه من الموقنين وأن القرآن والسنة تواترت على أن هذا العبد الصالح من أعظم من أيقن بالله، فكيف ينسب له الشرك في مرحلة من مراحل عمره لا يعقل! لكن القضية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال هذا كله في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه .


(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)
كان كوكب الزهرة لم يقصد أن يقول أنه ربه يقينا يستحيل أن يطبق هذا على إبراهيم عليه السلام.

 
وقلنا من القواعد:
تأخذ أصلا ثم ما جاء من شبهات وعوارض تفندها بثباتك على الأصل فالتفنيد يكون بأننا نقول إن إبراهيم عليه السلام قال هذا في موضع المناظرة والمحاجة إلى قومه , وقد قلنا إن طرائق الدعوة تختلف مع الناس فكان ثلة من قومه لا يعبدون الأصنام يعبدون الكواكب يعبدون المشتري والشمس والقمر وفريق يعبدون الأصنام تعامل مع كل فريق بطريقة معينة أهل الأصنام ذهب إلى الأصنام وهدمها، أما أهل الكواكب ليس له سبيل على الكواكب حتى يهدمها فتعامل معهم بعقلياتهم قال الله جل وعلا : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) جن بمعنى غشاه ولذلك سميت الجنة جنة وسمي الطفل في بطن أمه جنينا وسميت الجن جن لأنها لا ترى بالأعين، كل ما غاب واستتر وتغطى يدخل في مادة جنَّ .


هنا الله يقول:
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) والكواكب لا ترى في النهار فلما رأى كوكبا قال لمن حوله بأسلوب يبين له أنه يريد أن يصل معهم إلى الحق : (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) وبالطبع إبراهيم رأى الكواكب مائة مرة قبل هذا اليوم كل يوم يرى الكواكب تأفل ويرى القمر يأفل ويرى الشمس تأفل لكن هو الآن يتعامل مع ناس هذه عقلياتهم .

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)،
يقال إنه الزهرة الذي يعنينا أنه كوكب، (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) يعني يقول لهم لا يصلح أن يكون رب يسير ويؤمر ويحرك من مكان إلى مكان .

(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا)
طبعا في اليوم التالي (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) هم ينظرون كيف ردة فعل إبراهيم هو يريد أن يشعرهم أنه واحد منهم يبحث عن الحق حتى يشعروا أنه غير متسلط عليهم (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) ما قال لا أحب الآفلين لأن هذه مرت جاب شيء جديد قال (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) حتى يبين لهم أنه متعطش أعظم العطش والظمأ إلى الهداية.

(لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)
جاء اليوم الثالث مع الصبح ظهرت الشمس {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ) حتى يهيئهم للجواب (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ولم يقل ابرؤوا مما تشركون قال (إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ).

ولم يقل ابرؤوا مما تشركون والسبب
:
أن الإنسان لا يقبل الناس منه شيء في الغالب حتى يطبقه على نفسه فالناس يأخذون علم من يرونه يأخذ بالعلم على نفسه وإن كان هذا ليس فيه حجة للناس، لكن الناس إنما يتبعون في الغالب من يرون أنه يطبق ما يدعوهم إليه كما قال شعيب عليه السلام : {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (88) سورة هود، وقال غيره ذلك متكرر في القرآن، فالمقصود انه قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) فالآن برئ مما يشرك به قومه وهم الأصنام .


أصبح الناس ينتظرون منه , إذن أنت تبرأت مما نشرك ستعبد من؟  

قال:
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (79) سورة الأنعام، {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} لم يقل عليه السلام وجهت وجهي لمن خلق الشمس والقمر والنجوم التي كان يحاج بها وإنما شمل كل المخلوقات أدرجها لأن الله رب المخلوقات جميعا قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فهو عليه السلام كما قلنا إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وإليه تنسب الملة.

تنسب إليه الملة وكان شيخ الحنفاء لأربعة أمور:

أولها:
أنه جعل ماله للضيفان.
الثاني:
أنه جعل بدنه للنيران.
الثالث:
أنه جعل ولده للقربان.
 الرابع: أنه جعل قلبه للرحمن.
والثلاثة الأولى مندرجة في الأخير.


نقول ثم قال:
(وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مع هذا كله لم يقتنع قومه. قال الله جل وعلا: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} أخذوا يحاجونه فيما يقول {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} فرد عليهم {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ} أي كيف يعقل أن أقبل أقوالكم الباطلة وآراءكم الفاسدة والله جل وعلا قد من علي بالهداية . وأصلا العاقل لا يترك الحق من أجل الباطل ولا يترك الشيء البين الواضح من أجل الشيء المختلط الفاسد هذا لا يفعله صغار العقلاء فما بالك بشيخ الأنبياء عليه السلام؟ 

قال الله جل وعلا :
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (80) سورة الأنعام، وهذه (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) لوحدها تدل على بلاغة القرآن .

يا بني لما تقول لإنسان:
تذكر، معناه أن الشيء هذا يعرفه من قبل ، لكن تعلم غير تذكر.
تذكر غير تعلم , تعلم شيء جديد لكن تذكر شيء لك علاقة به من قبل .
فالعقائد توحيد الله جل وعلا شيء مفطور في النفوس فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه : (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) يعني مجرد لو رجعتم إلى أنفسكم قليلا تذكرتم الشيء الذي فطره الله في قلوبكم لعرفتم أنه لا رب غيره ولا إله سواه . هذا يدل على أن عقيدة التوحيد أمر مفطور في النفوس يعرفه كل أحد إذا من الله جل وعلا عليه بالهداية. (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)


ثم قال:
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}. مجمل الآية معناها يقول :
أنا إبراهيم اتبعت وعبدت من بيده الضر والنفع وأنتم تعبدون من ليس بيده لا ضر ولا نفع .
فمن الذي مفروض يخاف؟ هم لما عبد الله قالوا نخاف عليك من آلهتنا نخاف عليك من أصنامنا نخاف عليك من الشمس نخاف عليك من القمر نخشى عليك من النجوم فالله يعلمه أن يقول لهم كما قال إبراهيم لهم : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) يعني كيف أخاف أنا من الذين أشركتم من أصنامكم وأنتم لا تخافون من الله! مع أن المفروض الذي يخشى منه من؟ الله لأن بيده الضر والنفع أما أصنامكم هذه لا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر وكل من عبد من غير الله لا يقدم ولا يؤخر ولا يضر ولا ينفع، هذه الأمور كلها بيد الله.


(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
بِالأَمْنِ) استفهام استنكاري (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ ثم جاء الجواب: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة كما روى البخاري وغيره، فقالوا يا نبي الله وأينا لم يظلم نفسه قط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ليس بالأمر الذي تعنون) أو (تذهبون إليه إنما الأمر كما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم) فيصبح معنى قول الله جل وعلا (يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) معناها ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.

(وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)
وقد جرت - كما بينا سلفا- سنة الله في خلقه أن هناك أمنين وهناك خوفين:
من خاف الله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن لم يخف الله في الدنيا خاف يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبد خوفين ولا يعطي عبدا أمنين، إنما الأمن الموجود في الدنيا السكينة والرضا بالله لكن لا يعني ذلك عدم الخوف من الله، الله جل وعلا قال لما ذكر الساعة قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} (18) سورة الشورى، أي خائفون من الساعة فالخوف لا بد منه في الحياة الدنيا. (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) .


ثم قال جل ذكره:
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83) سورة الأنعام، (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) أي هذه الحجج التي أعطيناها إبراهيم ليرد بها على قومه فضل من الله على هذا العبد الصالح (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) فلما كانت من الله كانت فضلا منه قال الله بعدها : ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء) وإبراهيم من أعظم من رفعهم الله جل وعلا درجات. (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) . ثم قال جل وعلا : (وَوَهَبْنَا لَهُ) فبعد أن من الله عليه بالعطاء من النبوة والرسالة من الله عليه بالذرية قال الله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (86) سورة الأنعام.

الآن نترك الوعظ نرجع قليلا للناحية العلمية :

نحن قلنا في دروس كثيرة أن الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون نبيا هذه الآية آية الأنعام تسمى آية ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ) ذكر الله فيها كما تلوناها ثمانية عشر نبيا بقي سبعة هم :

في تلك حجتنا منهم ثمانية * من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا* ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

هؤلاء السبعة الذين ذكروا في القرآن في غير هذه الآيات، ذكر الله ذي الكفل وذكر آدم وذكر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر شعيبا وهودا وإدريس وصالحا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

نبدأ نفصل فيما لم نشرحه عنهم :

قلنا إن الله جل وعلا قال:
(وَوَهَبْنَا لَهُ) لإبراهيم (إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) ولما ذكرنا يعقوب في درس النافلة قلنا إن النافلة الزيادة على الأصل وقلنا إنها تختلف كل شيء زاد عن الأصل يسمى نافلة فقلنا قيام الليل يسمى نافلة لأنها زيادة على الصلوات المكتوبة.
قال الله جل وعلا – نتعلم القرآن من القرآن- قال الله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} (79) سورة الإسراء, فصلاة الليل أو أي نافلة يسمونها العامة سنة زيادة على الأصل تسمى نافلة.

الناس عندما يغزون ماذا يريدون ؟ يريدون النصر، عندما يحصل النصر ما الزائد؟ الغنائم فلذلك قال الله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} (1) سورة الأنفال، سماها زيادة الأنفال الغنائم الزيادة على مقصود الحرب، قال الله : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً..) , (وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) ، فذكر الله جل وعلا أنه رزقه بعد إسماعيل إسحاق ثم زيادة على الأبناء أبناء الأبناء فسمى يعقوب نافلة لأنه زيادة على الأصل وهو الولد.

نعود هنا للآية: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ) من قبل إبراهيم وهذا يسمى إضافة منقطعة وقبل وبعد إذا أضيفت تجر وإذا لم تضف تبنى على الضم {مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} (58) سورة النــور. فمن قبل لما أضيفت إلى صلاة كسرت لكن قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (4) سورة الروم، حذف المضاف إليه تضم، هنا نفس الشيء قال الله : (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) أي من قبل هداية إبراهيم زمنيا وإن كان إبراهيم أفضل من نوح.

(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ)
ونوح يسمى شيخ الأنبياء؟ لأنه أطولهم عمرا وإبراهيم يسمى أبو الأنبياء؟ لأن كل الأنبياء بعده من سلالته وذريته. (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) إلى آخر الآيات.

هذه (
وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) موضع إشكال لماذا؟
لأنه لا يدرى أن تعود على نوح أو تعود على إبراهيم، وأنا قلت سأترك الوعظ الآن.

(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) إذا قلنا إنها تعود إلى نوح يؤيدها أمران:

الأول:
أن قواعد اللغة تقول أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور،وأقرب مذكورهو نوح.
والأمر الثاني:
قال الله جل وعلا : (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) في الآية الثالثة هي : (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)، قالوا إن لوط بالاتفاق ليس من ذرية إبراهيم، ابن أخيه، لوط ابن هاران وهاران أخو إبراهيم، فمن حيث النسب الصريح لوط ليس ابنا لإبراهيم إنما ابن أخيه . فقالوا : هذان دليلان على أن المقصود نوح.

يبقى الجواب عليها ـ طبعا لا يوجد مرجح-
: الذين قالوا إن (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) عائدة إلى إبراهيم قالوا: إن الآيات أصلا في مقام الثناء على إبراهيم، وهذا واضح إن الله يتكلم عن إبراهيم (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) جملة اعتراضية هذه الأمر الأول.

 الأمر الثاني: قالوا إن الله سمى في القرآن العم أبا، في سورة البقرة {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} (133) سورة البقرة، هؤلاء أبناء يعقوب يقولون لأبيهم : (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) فإبراهيم أبو يعقوب جده وإسحاق أبو يعقوب مباشرة لكن إسماعيل ليس أبا ليعقوب إنما عم له، فقالوا هذا من الأدلة على أن الله سمى في كتابه العم أبا .


طبعا ما الراجح؟ :

لا يوجد راجح، لأنه لا يوجد مُرجح، لا يكون القول راجح حتى يكون في شيء مرجح ولا يوجد مرجح هذان قولان كلاهما متكافئان، فنقول تحتمل الآية الأمرين والله أعلم بمراد الله منها، تأدبا مع كتاب الله.


(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى)
كلهم مروا معنا وقدم الله داود وسليمان لأن الله أعطاهم الملك والنبوة .
(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسَى وَهَارُونَ) وكلهم مروا معنا (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى) ويحيى ابن لزكريا وأيهم مات قبل الآخر؟ مات يحيى مقتولا عليه السلام في حياة أبيه زكريا، وقلنا إن زكريا رزق الولد وهذا معروف بعد انقطاع، رزق يحيى، وقلنا: إن الله لماذا سمى يحيى يحيى؟ طبعا لم يكن أحد يسمى يحيى قبل هذا الاسم الله قال: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً)[مريم : 7] قلنا: أسماه يحيى لأن يحيى عليه السلام مات شهيدا، فناسب الاسم المسمى فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى)
ما القرابة بين يحيى وعيسى؟ ابني خالة، وقد ورد حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه : ( ما من عبد من ولد آدم إلا وعصى الله إلا يحيى بن زكريا ) لم يعصي الله طرفة عين قال صلى الله عيه وسلم : ( ما من أحد من ولد آدم إلا وقد عصى الله طرفة عين ليس يحيى بن زكريا) أي إلا يحيى بن زكريا، ويظهر من نصوص التواريخ أنه مات صغيرا عليه السلام. لكن كما قلنا قد يوجد مفضول ما هو أفضل من الفاضل.

( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ)
إلياس ذكره لله ست مرات تقريبا في القرآن وبعثه الله جل وعلا إلى أهل بعلبك شرقي دمشق في لبنان حاليا، وقد قال الله جل وعلا في كتابه: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ*أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (123-125) سورة الصافات. (وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) ثم قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) .

وقلنا إن الخلاف في لوط وأن لوطا بالاتفاق ليس ابنا لإبراهيم ولكنه ابن لهاران وهاران أخ لإبراهيم،
فإبراهيم عم له لكن قلنا إن الله سمى العم أبا في كتابه والاحتجاج بالقرآن ليس بعده احتجاج.


يفهم من السياق الذي سلف أن مراتب التفضيل أربعة
:
طبعا نتكلم عن المؤمنين:النبوة والصديقية والشهادة والصلاح .

قال الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69) سورة النساء.
ثم قال جل وعلا: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) أي فضلناهم  بالنبوة.
(وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)

{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
(87) سورة الأنعام.
عندما قال (آبَائِهِمْ) يعني الأصول، ثم قال (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ذكر الآباء في الأول لأنهم أصول ثم قال: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} ماقال من إخوانهم لأن الأبناء فروع، ما دام ذكر الأصول سيذكر الفروع ثم قال (وَإِخْوَانِهِمْ) والإخوان لا هم أصول وليسوا فروع يسمون حواشي،
فترتيب القرآن ترتيب منطقي ذكر الله أولا الأصول ثم ذكر الفروع ثم ذكر الحواشي، فالله يريد أن يقول أن نعمة الله على إبراهيم ليست فقط محصورة في هؤلاء الصالحين في أنفسهم وإنما في أصولهم وفروعهم وحواشيهم.


{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
من الذي اجتباهم؟ الله، ومن الذي هداهم؟ الله (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) لأجل ذلك قال بعدها:
{ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
(88) سورة الأنعام .

كل من يلتمس شيء لن يلتمس شيئا أعظم من الهداية . والهداية إنما تطلب من الله وسيأتي قصة تبين لك هذا بعد قليل، لا يطلب شيء في الدنيا أعظم من الهداية، في الدنيا لاشيء أعظم من الهداية والهداية إنما تطلب من الله، ولذلك قال الله : (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ) نسبه وأضافه إلى نفسه (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ) على الفرض وإلا لا يعقل أنهم سيشركون (لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) نستفيد منها إجمالا أن الشرك يحبط كل عمل (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) .
إلى هنا ننتهي في هذا المقطع .


بقي المقطع الأخير الذي نريد أن نقف عليه في التفسير:
قال الله جل وعلا:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (93) سورة الأنعام.

يا بني لأنك طالب علم اخترنا هذه الآيات حتى تعيها:

لا شيء أعظم من أن يفتري الإنسان على الله الكذب (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أعظم جرما ولا أشد شناعة ممن يفتري الكذب على الله وليس بمعقول أن يأتي إنسان ينتسب إلى الملة ويفتري على الله الكذب، يعني حاشاكم بإذن الله .


لكن المقصود بالنسبة لنا :
عدم الجرأة في العلم والقول على الله بلا علم {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (116) سورة النحل، هذا الذي يعنينا لكن الآية في الأصل المخاطب بها كفار قريش، وكانوا يكذبون على الله ويفترون على الله الكذب وينسبون إلى الله جل وعلا ما لم يقله الله ولم ينزله على أحد، فأخبرهم الرب جل وعلا أن هذا ظلم شنيع وتحد عظيم وأنه لا أحد أعظم فرية من ذلك، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) يدخل في هذا مسيلمة ويدخل فيها الأسود العنسي .

إلا أنه تبقى قصة :
من الذين أسلموا قديما صحابي اسمه عبد الله بن سعد ابن أبي السرح وهذا الرجل أرضعته أم عثمان رضي الله عنه فهو أخو عثمان من الرضاعة، هذا لما أسلم كان يحسن الكتابة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتبا للوحي فلما أنزل الله سورة المؤمنون على الحكاية وفيها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (13) سورة المؤمنون، الرسول يتلوها وهذا يكتب حتى وصل إلى قول الله جل وعلا : {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فكتبها قبل أن يمليه الرسول قال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (هكذا أنزلت علي) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.

دخله في تلك الحقبة زلة غر بنفسه فترك كتابة الوحي وقال: " إن كان محمد صادقا فيما يقول فأنا يوحى إلي كما يوحى إليه وإن كان محمد كاذبا فيما يقول فأنا أقول كما يقول" . وترك الإسلام والتحق بكفار قريش ولذلك قال الله (وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) لكن الله يعلم أزلا أنه سيتوب فلم يسمه باسمه الصريح في القرآن فلما ذهب إلى مكة حصل فتح مكة في العام الثامن ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر عن رجال فأمر بقتل عبد الله بن خطل ورجل آخر وعبد الله بن سعد وعكرمة ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، فأما عبد الله بن خطل تعلق بأستار الكعبة فلم تنجه وقتل، ورجل آخر يقال له ابن يسار قتل في السوق، وعكرمة وعبد الله بن سعد هذان فرا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى أخيه من الرضاعة الذي هو عبد الله وطلب منه أن يدخل به ليأمن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عثمان رضي الله عنه وأرضاه بأخيه عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله كاره لتوبته لأنه قال ما قال، فطلب عثمان الأمان لعبد الله فسكت صلى الله عليه وسلم طويلا قبل أن يعطيه الأمان رجاء أن يقوم أحد فيقتله، فلم يقم أحد لم يفطن الصحابة لهذا ليمضي قدر الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم (نعم) فأعطى عثمان الأمان، فلما خرج قال عليه الصلاة والسلام ( لقد أطلت الصمت رجاء أن يقوم أحدكم فيقتله ) فقال رجل من الأنصار هلا أومأت لي يا رسول الله! قال ( إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين ) صلوات الله وسلامه عليه.

حتى نرجع قليلا قبل قليل أنا قلت (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) حتى تعلم أن القلوب كلها بيد الله يفعل بها ما يشاء، هذا الذي حصل من هذا أسلم وحسن إسلامه فلما كانت ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه أصبح أميرا للمؤمنين جعل عبد الله بن سعد هذا واليا على مصر، وهو الذي قاد معركة ذات الصواري وهي أول معركة حربية في الإسلام، وكان كثير من فتح بلدان إفريقيا على يديه، ثم لما رجع جاءت الفتنة بين علي ومعاوية فاعتزلها ولم يبايع لا لعلي ولا لمعاوية، وسكن في الرملة المدينة المعروفة في فلسطين، ثم مكث فيها ما شاء الله إلى قبل انتهاء ولاية علي ثم إنه ذات يوم قال: " اللهم اقبضني إليك في صلاة الصبح "، فصلى بالناس صلاة الصبح قرأ في الأولى الفاتحة والعاديات ضبحا، وقرأ في الثانية لم يضبطهم عنه الرواة ثم سلم التسليمة الأولى ومات قبل أن يسلم التسليمة الثانية.


هذا كله يدل على أن القلوب يا أخي بيد الله وقد يكون الإنسان متلبسا بالمعصية وقد يكون الإنسان يحب أن يهتدي، وأنا أرى في الدرس اليوم شباب مباركين أسأل الله أن يهدينا وإياهم سواء السبيل.


هذا كله عندما يأتي الإنسان إلى بيت من بيوت الله أنت لو رحت إلى قصر واستطعت تدخل إلى القصر يستحي الأمير أن يردك ومعك شيء، وهو بشر، فكيف وقد دخلنا أجمعين بيت أرحم الراحمين! فأنت في صلاتك هنا في دعائك في استغفارك ليكن قلبك متعلقا بالله تطلب من الله الهداية تطلب من الله غنى النفس ، تطلب من الله الرحمة تطلب من الله التوفيق تطلب الله أن يرزقك حسن الخاتمة تطلب من الله أن يقيك عذاب القبر أن يقيك عذاب النار تطلب من الله أعظم المطالب دخول الجنة.


والمقصود كلما آمن الإنسان أن الهداية والرحمة والفضل والإحسان بيد الله
وطلبها بقلبه قبل أن يطلبها بلسانه أعطاه الله جل وعلا إياها لكن لا تستعجل وكن صادقا مع ربك يصدقك الله تبارك وتعالى. هذا السياق الأول من الآية.

ثم قال الله جل وعلا :
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) هذا تصوير لكيفية نزع روح أهل الإشراك وقد مر معنا كثيرا والمقصود أن قبض الأرواح موكل به ملائكة وأن النفس إما أن تكون مؤمنة وإما أن تكون كافرة ولأن الكفر والإيمان لا يستويان فطبيعة الحال لا يستوي قبض روح المؤمن وقبض روح الكافر والله يصور هنا قبض أرواح الكفار.

والغمرة في اللغة : لجج الماء التي تغطي صاحبها . والإنسان يضربه الموج وغمرات الماء تنقله من مكان إلى مكان يصيبه الخوف الشديد والرعب فالله جل وعلا يقول إن هؤلاء الكفار تتخبط روحهم في أجسادهم قبل أن تخرج والملائكة تضربهم وتقول لهم (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ) أي جدوا لأنفسكم خلاصا ومنجى ومخرجا إن استطعتم ولا يجدون لا هم ولا من يحيطون بهم (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) وليس المقصود أنه ليس بعده عذاب لكن هذا أول مراحل العذاب (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) عذاب الذلة عذاب الصغار ثم ذكر السبب (عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) .


والاستكبار عن آيات الله أعظم طرائق الموصلة إلى الضلالة
كما أن انسياق القلب وانقياده إلى الرب تبارك وتعالى واللين فيه أعظم ما يجعله سببا في أن ينال الإنسان به رحمة الله تبارك وتعالى.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ورحمتك التي وسعت كل شيء أن تهدينا أجمعين سواء السبيل وأن تختم لنا بخير وأن تجعل الجنة دارنا وقرارنا إنك سميع مجيب.


هذا وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 صالح المغامسي
  • تأملات قرآنية
  • السيرة النبوية
  • مجمع البحرين
  • آيات وعظات
  • مشاركات إعلامية
  • خطب
  • رمضانيات
  • فوائد ودرر
  • صوتيات
  • الصفحة الرئيسية