اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/alkassas/250.htm?print_it=1

قراءة نقدية لكتاب الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة

محمد جلال القصاص


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

قراءة نقدية لكتاب الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن أحبه واتبع هديه وبعد،:ـ
في كتاب "الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة" يعالج الدكتور إسماعيل الشطي (وزيير كويتي) موقف الإسلاميين من النموذج الحديث للدولة الذي فرضته القوى الغالبة في الحرب العالمية الثانية من خلال "الأمم المتحدة"، وهو نموذج الدولة الحديثة (الدولة القومية) (شعب وإقليم وسلطة)، والفكرة الرئيسية في الكتاب هي: البحث عن مخرج للفكر الإسلامي ومن ثم الحراك الإسلامي بعد أن أطبق علينا النظام الدولي في جميع مجالات الحياة.

ظهر في الكتاب عدد من المفاهيم الرئيسية:

الأولى: أن أمر الحكم خاضع للزمان والمكان، وأن الدولة الإسلامية كانت تقليدًا لما هو سائد وقتها، وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحجم (هكذا تكلم) عن حسم كثير من الأسئلة المتعلقة بالسلطة، وأن كل ما جاء بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم – حول تعريف السلطة وتحديد مكوناتها وتنظيم توليها وتشكيل علاقاتها هو في الغالب اجتهاد بشري، اجتهاد لم يخرج عن نماذج الحكم القائمة آنذاك داخل القرى والمدن والممالك والامبراطوريات!!
وما ذهب إليه الدكتور الشطي غير صحيح فلم تكن تولية أبي بكر الصديق –رضي الله عنه-، وهو من أضعف حي في قريش (بني عدي) كما ذكر أبو سفيان يوم تولي أبو بكر الخلافة، من خلال النخبة عن طريق الشورى في السقيفة ثم مبايعة الأمة بعد ذلك، لم يكن على أعراف الجاهلية، ولا كانت تولية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تبعًا للأعراف السائدة، وكذا عثمان، وكذا عليٍّ.
وانحصار الائمة في المهاجرين من نصٍ شرعي تلاه الصديق على الأنصار تحت السقيفة فاستكانوا وتركوا، وانحصار الأئمة في قريش من نصٍ شرعي، ولم تكن وراثة قبلية كما ذكر د. الشطي؛ والنقاش بين الأحبة في السقيفة خضع –جملةً- للنص الشرعي كل يستدل على موقفه بنص. والنص الشرعي هو الذي أعطى مساحةً واسعة في أمر السلطة، ولكنه أبدًا لم يرمِ بها في أحضان مَن حولها من عربٍ وعجم!!

وعلى صفحات القرون الأولى حقيقة في غاية الوضوح تقف عالية باهية مضيئة، وهي أن لم يكن هناك اطلاع على الثقافات المجاورة، ولا تأثرًا بها، لا في الحكم ولا في غيره، وحركة الترجمة بدأت متأخرة وكانت مع بداية التدهور للدولة الإسلامية، ولم تكن في شؤون الحكم، بل اتجهت للعقائد بدايةً، سواءً الترجمة أو مَن أسلموا من المشبوهين وأثروا في الفكر الإسلامي كالجعد بن درهم، وسوسن النصراني، ويلحق بهما الأدباء كابن المقفع.وأثر هؤلاء تجده في الترجمات للمنحرفين من الأمة إذ قد كان عملهم فردي أو يكاد.

النموذج الإسلامي متفرد، و"علماء الإسلام لم يكونوا نقلة لحضارة أخرى، وإنما كانت لديهم نظرية خاصة بهم، وصنفوا فيها الكثير، ولكن لم تكن هناك كتابات سياسية متخصصة. تبعثرت الكتابات الخاصة بإدارة الدولة في كتب الفقه (كالخراج)، والتفسير، والحديث، وعلم الكلام"[ مقدمة الغياثي(ص11 ، 12)].

كذا: علم السياسة المعاصر لم يتمايز كعلم إلا من قريب، ونظرياته (أعني التي تعبر عن التصورات الكلية لا المفسرة للظواهر) لم تبن كنظريات بداية، بل كانت آراء أفرزها الواقع أو خيالات المفكرين، ثم تحولت بفعل القوى المادية إلى نظريات، ثم واقع عندهم، ثم حاول الغالب أن يحمل المغلوب على مذهبه، ووجد من المنهزمين والجاهلين على الشر أعوانًا.
فالإسلام نموذج مكتمل نزل كاملًا من السماء، وليست حضارة أفرزتها التجربة، أراحنا الله من هموم التجارب التي تأكل أجيالًا فأنزل علينا "تبيانًا لكل شيء"، ما إن نمتثل له حتى تعمر دنيانا ونفوز في آخرتنا، ولك أن تتبع تفاصيل التطور العمراني لدولة الإسلام وستجد أنها جاءت من التزامٍ بنص شرعي.
إن هؤلاء يبحثون عن المشقة واتباع سَنن الكافرين في المجاهدة من أجل إنشاء حضارة، يضربون في صحراء قاحلة والماء تحت الأقدام!!
النموذج الإسلامي يتقاطع مع غيره في بعض الأمور ولكنه مستقل من حيث الإطار العام ومن حيث السياق، والخلل يأتي من اجتزاء مشهد أو نص ثم تعميمه.
الثانية: سيطرة القوى العالمية سياسيًا (القرار السياسي أو ما يعرف بالسيادة)، وعسكريًا، واجتماعيًا، وعلى سائر شؤون الحياة. وهو أمر طبعي فالغالب يفرض رؤيته ويحولها إلى واقع (حضارة).
الرابعة: كتطبيق على فكرة سيطرة الغالب كليًا يشرح الدكتور إسماعيل الشطي النماذج الإسلامية التي تولت السلطة، وجاء بثلاثة وترك الرابع (السودان). وصنف الثلاثة تبعًا لتعاطيهم مع نموذج الدولة الحديثة؛ مَن هاودها وراح يديرها تبعًا لهواها ويكتفي فقط بزحزحة العداء العلماني من متشدد إلى "معتدل" (النموذج التركي)، ومن جاء من قلب التاريخ يحاول فرض نموذج الخلافة الإسلامية على النظام العالمي الموجود الآن (طالبان)، ومن حاول الاحتيال عليها وأسلمتها(الإيرانيون)،ويثني على النموذج التركي ويتبناه في خاتمة البحث، وأحسب أنه لو تعرض للنموذج السوداني لوصل لنتيجة أخرى مفادها أن نجاح النموذج التركي سببه حاجة الغرب إليه لا مهاودة الإسلاميين وإدارتهم للدولة الحديثة وليس التعدي عليها كما فعلت طالبان والروافض في إيران، ومن يعرض النموذج السوداني عليه أن يعرض سياقًا لا أن يقتطع مشهدًا حاول في الترابي تجميع الإسلاميين على أرض السودان، فالنموذج السوداني متساهل ومنظره وقائده الترابي يصعب جدًا وصفه بالتشدد أو التصادم مع الغرب من أول ظهور له في الحركة الإسلامية في الستينات.

الثالثة:
أن تطبيق الشريعة عند الإسلاميين لا يتعدى الشعار، وأنهم بعيدون تمامًا عن إدراك التحديات فضلًا عن امتلاك خطة وأدوات لمواجهتها.وكان على الكاتب أن يقف ويفتش عن أسباب بُعد الإسلاميين عن امتلاك أدوات تمكنهم من فهم التحديات الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية والتعاطي معها، لا أن يجعل من هذا الجهل بالتحديات والتعاطي متكأً للاستسلام للدولة الحديثة وما خلفها من منظومة فاسدة أوجدها المتكبرون بالباطل.

الرابعة:
نتيجة البحث، وهي أن مواجهة الدولة الحديثة هي مواجهة للنظام العالمي القوي الغالب، وأن هذه المواجهة حتمًا فاشلة، وكأنه انشغل عن ربط النتيجية بما طرحه في بداية البحث من تصورٍ عن طبيعة الحكم في الإسلام (وهي الفكرة الأولى هنا في هذه المناقشة المختصرة)، وأن على الإسلاميين الآن إدارة الدولة الحديثة لا مواجهتها، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، ونقد المنظومة العالمية من خلال إدارة الدولة.

وبعيدًا عن تفكك المفاهيم الرئيسية في الكتاب وعدم انتظامها، وبعيدًا عن قلة المراجع،واتباع أسلوب السرد، وهي أمارة على العجلة في تدوين البحث، فإن الكتاب مع أن صدوره جاء في عام 2010 إلا أن المناخ العام المسيطر على الكاتب كان مناخ عام 2002 الذي نبتت فيه فكرة الكتاب، كما يذكر الكاتب في المقدمة، وهو هيجان العالم الغربي بقيادة أمريكا على المسلمين؛ وهي حقبة انتهت، أو بدأت تنحسر.

والذي يبدو لي أن الفكرة تجمعت برأس الكاتب في سياقٍ ما، ثم انشغل عنها بالوزاره، كما يذكر هو، وتغيرت الظروف، ولم يراع الكاتب ما حدث من تغيرات، وراح ينشر فكرته كما كانت في السياق الأول، والعجلة واضحة في سرد الأفكار وقلة المراجع، وتفكك البحث، وإغفال نموذج السودان مع شهرته.
النظام العالمي لم يعد بسطوته السابقة.لم يعد بإمكان الأمريكان أن يخالفوا الجميع كما فعلوا بعد سقوط الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي، في حسار العراق وحرب كوسوفا واحتلال العراق 2003؛ وتجرأ الناس على أمريكا بعد أن جربوا هزيمتها عسكريًا؛ والاقتصاد الرأسمالي ورط القوم في أوروبا وأمريكا ذاتها، وقلل من خياراتهم، وبات القوم بين ترشيد النفقات العسكرية أو ترشيد النفقة على شعبهم (برنامج الرعاية الصحية للحزب الديمقراطي)، وأوروبا بلا أسنان فهي اقتصادية بلا قوة عسكرية، وعدد قليل منها متعافٍ اقتصاديًا، تحديدًا ألمانيا وسبب تعافيها كثرة صادراتها للأوروبيين، وبعضهم يعاني من مشاكل مادية؛ وحصلت تغيرات مجتمعية في الوطن العربي تنذر بفوضى (تفكيك للموجود) يعقبها تغيرات جوهرية، وأقل أضرارها على الغرب هو الحد من تدفق الموارد إليهم والبضائع منهم، وأرجى ما يرجونه أن تهدم على رأس الجميع، وإن شاء الله على رأسهم وحدهم. نعم لسنا مهيئين لإنشاء حضارة ولكنا مهيؤون تماماً لتقويض عالم الظلم والاستكبار الغربي، فالحديث الأنسب الآن هو استغلال هذه الخلخلة للتحرر .. للتغيير.. بيان أن المشروع الغربي يتراجع، وأن المشروع الرافضي في المنطقة تعثر، وأن حملة التنصير على الأمة ، والتي أعلنت في مؤتمرات 1968، 1976،كسرت، وأن الواجب الآن هو إعداد النخبة التي تفهم إدارة الدولة وإنشاء الحضارة بالأدق.

وتواجه الفكرة الرئيسية في الكتاب، وهي محاولة تسكين نموذج الحكم الإسلامي في النموذج الموجود الآن عدة إشكالات:
أولها: أن الشرع لا يقر هذا الأمر، وقد تقدم عرض مختصر في مناقشة الفكرة الأولى. وقد يقال أنه من باب الضرورة، أو التعاطي مرحليًا مع الظروف الطارئة؛ ولكن هذا لا يفهم من سياق الكتاب، فالكتاب محاولة صريحة للالتقاء مع الصيغة الحالية في منتصف الطريق، ويتضح ذلك من سبب التصنيف ومن النتيجة النهائية، ومن مقارنة التجربة السودانية مع التركية فقد رضي الغرب الأتراك –وبدأ التحرش بهم الآن- ولم يرضَ بالسودان مع تقديمهم "اعتدالهم"، يتحرك مع مصالحه فقط، والنماذج المعتدلة أداة بأديديهم وتعمل لحين؛ ولو أن التصالح مؤقت فلا إشكال فيه نأخذ بعضًا ونترك بعضًا، ولو أن التصالح ممكنًا لسعينا إليه، ولكن تكمن إشكالية التصالح في أمرين:

أحدهما:
أن القوم يتنقلون، ولا يثبتون على حال، فالثابت في الحضارة الغربية عدم وجود ثابت. وهذا من حيث العموم ومن حيث التفاصيل، فالليبرالية تتطور في ذاتها، والاشتراكية تتطور وتختلف من تجربة لأخرى، والنظام العالمي يتطور الآن، فالدولة القومية التي ركز الكتاب عليها لم تعد هي الفاعل الرئيسي كما عرض الدكتور الشطي في كتابه، فقد دخل فاعلون دوليون عابرون للقطرية، كالشركات عابرة القرات، والمنظمات الدولية غير الحكومية، وبات القانون الدولي (العام والخاص) ينتقص من سيادة الدول سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا..، وقد نشهد قريبًا هدم صيغة الدولة القومية وإيجاد جديد. وحرامٌ أن نساق كالقطيع حيث لا نشاء، ونضحك على أنفسنا بأنه من الدين.
وقصة أن نبني بجوارهم في ظل قوانينهم الاقتصادية والسياسية كما تفعل تركيا، قصة يسخر منها الواقع، ويرجمها بحقائق التاريخ، والتي ذكر بعضها المؤلف نفسه، كاتفاقهم منذ "اتفاقية كامبل 1907" -وقبل "كامبل" فيما عرف بـ "الاستعمار" الأوروبي الشرقي والغربي من أسبانيا والبرتغال وهولندا ثم فرنسا وبريطانيا ولا تحصر الرؤيا على الوطن العربي فقد أهانوا المسلمين في أفريقيا وجنوب أسيا وشرقها-، على تخلفنا وتبعيتنا لهم، فنحن في المنظومة الغربية فقط مصدر للمواد الخام وسوق استهلاكية، ويتركون لنا التنفس من وقتٍ لآخر حتى لا ننفجر في وجههم أو تحقيقًا لمصلحةٍ تخصهم؛ حالهم كما وصف خالقهم، قال الله تعالى: " أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا"[ النساء:52]، والنقير هي النكتة التي في وسط النواة [الطبري:8/473]. "ومن أصدق من الله قيلًا"؟، و"من أصدق من الله حديثًا"؟
والإشكالية الثانية في التصالح مع الحضارة الغربية، أنهم يتكئون على ما يتعارض كلية مع ما عندنا؛ فهم ينطلقون من فكرة الصراع، أو الفردية، ونحن ننطلق من فكرة الجماعة.. التلاحم والتراحم.. الجسد الواحد.

وقد عملت الحضارة الغربية في مجتمعاتنا ولم تستطع أن تحولها للنسخة الغربية كاملة، وقد فشل هؤلاء، والتف الناس حول الإسلاميين، وهم يختارون منا نحن، فإن تحركت آلة الإعلام على فصيل من الإسلاميين انحاز الناس للفصيل الآخر؛ نعم الناس وراء مطالبها البدنية (المأكل والملبس والمسكن) ولكن مطالبها لم يوفرها لهم الغرب ولا أولياء الغرب، ولن يفعلوا بموجب ما رأينا من سيرتهم طيلة قرنين من الزمان. وفي هذا الرابط تفصيل:
http://saaid.net/Doat/alkassas/190.htm

الحل في المواجهة. أو المواجهة حتم لازم بين الحضارتين، وظهور وغياب الحضارات أمر طبعي ومن سنن الله في كونه. وفي لحظة الضعف يكون الإعداد وللاستضعاف فقه وأدوات ضبطها الشرع؛فمن كان يرى أننا في حالة استضعاف فعليه أن يعمل الحيلة كمنهج حياة ووجهه تلقاء التمكين وتقويض هذا الظلم لا الاستسلام له، ومن استأنس من نفسه قوة بيده أو بلسانه فليخرج للقوم على سواء؛ ونكون جميعًا ضمن إطار المقاومة كإطارٍ عامٍ لانخرج عنه،ونستحضر نظرياتنا ونعمل على إيجاد الأدوات المناسبة لتطبيقها.
لا أستطيع، ولا تستطيع، وما استطاعوا أن يعطوا خطوات تفصيلية لعملية إنتاج حضارة أو هزيمة حضارة موجودة، فقط يضعون إطارًا ثم يَجِدُّون، ولا يمكن لعاقل يؤمن بالله واليوم الآخر وينظر في حال الناس أن يضع التصالح معهم هدفًا وهذا حالهم.

ربما لم يقصد الدكتور إسماعيل الشطي الدعوة للتصالح نهائيًا مع الظلم العالمي الواقع علينا الآن، ولكن كتابه مفكك الفكرة، وما قدم به الكتاب مع ما استفاض فيه من قوة الظلم العالمي وتغلغله يجعل هذا هو الأبرز في الكتاب.
والحمد لله رب العالمين.


محمد جلال القصاص
الخميس ‏12‏/12‏/2013
 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية