صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







صراع على الهوية

محمد جلال القصاص


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

صراع على الهوية


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:ـ
للحصول على رؤية أوضح للمشهد المصري- وهو نموذج لغيره من المشاهد في باقي الأمة الإسلامية عامة والعربية خاصة- علينا أن نرقب الفاعلين في المشهد المصري، وكل فاعل نرقب فعله، والسياق العام الذي يتحرك فيه. والفاعلون هؤلاء ثلاثة أنواع: بعضهم في الداخل، وبعضهم في دول الجوار، وبعضهم في الخارج البعيد (أمريكا، وباقي القوى الدولية الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً).

الخارج

المشهد الدولي يتغير الآن، من "دول قومية" إلى "عولمة" تعيد صياغة العالم الخارجي من جديد، فثمة عراك بين العولمة مدعومة ببعض الفاعلين الدوليين كالشركات العالمية - وهذه كالدول في إمكاناتها، وأهدافها، وآلياتها المستعملة لتحقيق أهدافها- ، وكالمنظمات الأهلية، وقد كثرت الآن حتى تجاوزت الخمسة آلاف منظمة دولية. وبين "الدول" _ وحدة تكوين النظام الدولي الحالي _ ، ومعالم المشهد العالمي الآن هو التحول من صيغة الدول القومية إلى صيغة أخرى، لم تتضح معالمها بعد، أو التحول من القطبية القائمة على دولة واحدة ذات إمكانا وتحالفات، إلى صيغة أخرى. والأقرب هو التكتلات الإقليمية على خلفيات اقتصادية رأسمالية أو غير رأسمالية، فيكون بالعالم عدد من "الأقطاب الاقتصادية"، كل قطب عدد من الدول، وقد بدأت معالم هذه الصيغة تتشكل الآن؛ في "الاتحاد الأوروبي"، والدول الاقتصادية الصاعدة في أسيا (الهند، وكوريا، وماليزيا، والصين)، ودول أمريكا الجنوبية (البرازيل وأخواتها). ليكون العالم في الفترة القادمة متعدد الأقطاب، وهي الصيغة الأقل استقراراً في عرف السياسة الدولية، وليكون اقتصادياً طاحناً للأفراد، وليكون كل قطب متنوع بداخله وبالتالي يسهل التحرش به وتفجيره أو تفكيكه.

هذا هو السياق العام الذي تعمل فيه "القوى الدولية". والحراك "الثوري" في العالم العربي كان قد أعد له من قبل لإعادة تشكيل المنطقة من جديد، بما يتناسب مع المعطيات الجديدة، أو بما لا يسمح بقدوم من ينهض بهذه الشعوب من التبعية (السياسية والاقتصادية) للريادة؛ والهدف الرئيسي الذي يتحرك له "الفاعل الدولي" هو السيطرة على الموارد والأسواق، يريدون تأميناً للموارد وتأميناً لأسواقٍ تباع فيها بضائعهم، ومن بضائعهم السلاح، والنساء(الجنس)، والكماليات مما لا يحتاجه الناس من مأكول ومشروب ومركوب.

وأمرُّ من هذا أنهم يمنعون الخير عن الناس كي لا ترخص بضائعهم، فحجم الممنوع أضعاف أضعاف المعروض، ويتشدقون بقلة الموارد، والله يقول: "وقدر فيها أقواتها"[فصلت:10].
وأمرُّ منه الخلفيةُ العقدية التي تحكم هؤلاء، وهي الليبرالية التي تؤمن بأن ليس للفقير حق على الغني، وأن الغني لا يدفع من ماله إلا لتأمين خدمات الحراسة فقط.. الشرطة، والجيش، والقضاء. وأن الفقراء قد أخذوا فرصة ولم ينهضوا فهم عالة على الحياة، وإن حرباً تأكلهم لهي حرب ذات أهدافٍ سامية!!. فهذه عقلية متوحشة.. شرسة .. نزع الله الرحمة من صدور أصحابها.
والمقصود هو بيان أن هذا الضجيج الخارجي يتحرك في اتجاه واحد، وهو تأمين الموارد وتأمين الأسواق؛ بل وافتعال أسواق جديدة، للسلاح بإشعال نار الحرب، أو للتجارة بالجنس بإيجاد أسباب المتاجرة بالجنس، من سياحة وخمور، ومراقص.. إلخ، أو للكماليات من المأكولات والمشروبات وما يركبه الناس.

ولذا فالخارج عدو لا للتوجه الديني فقط، بل تمتد عداوته لكل من يحمل الخير في يده للناس، وهم أولوا قوة وأولوا بأس شديد. ومتواجدون في المشهد الداخلي، بل متغلغلون فيه. ويستعملون كل ما يتاح لهم في سبيل تحقيق أهدافهم، وهي الإبقاء علينا في وضع التابع (مصدر للموارد، وسوقاً استهلاكية). ومن ذلك العمل على تفتيت الصف، وإيجاد مشاكل داخلية، ويأتي في هذا السياق تفعيل الأقليات الدينية، كمتطرفي الأقباط، والحركات الشبابية الصاعدة.
فمن يُغَيِّبُ هؤلاء من المشهد، ومن لا يفطن لتركيبتهم النفسية (العقدية) (الفكرية)، وأدواتهم، وأهدافهم لا يستطيع الرؤية بوضوح.

البيئة المحيطة

والمقصود بها دول الجوار، وبعضها داعم في موقفه، كما سوريا، فإن جهاد هؤلاء الكرام الأفاضل- خفف الله عنا وعنهم- سبب يثبت الله به الذين آمنوا في مصر وغير مصر، وكذا تونس، كانت هي الحافز الأول للثورة المصرية، وكذا اليمن، فهم معنا في "الهمِّ" سواء، نأنس بهم ويأنسون بنا. وليبا جاهدوا وصبروا حتى أزال الله عنهم بعض الغم، وقد وقفوا في منتصف الطريق، فهي تجربة أخرى إيجابية تعرض على مسرح "البيئة المحيطة"، وقد تلعب دوراً مهماً في حالة حدوث هرج لا قدر الله.
وبعضها يؤدي دوراً سلبياً في التفاعل، مخافة أن تشتعل الثورة في بلادهم، أو رجاء الظهور على مسرح الأحداث وإنْ بالشغب، وإنْ بالتقافز غير الهادف.تتعدد أدوار هؤلاء، وهي في الجملة في صف الخارج - وإن كانت بنيَّةٍ أخرى - .
على أن الملحظ الأهم في المشهد الخاص بالدول المحيطة هو "أن الشعوب الإسلامية" لم تفقد الحس الإسلامي، وأن وجود قيادة فردية أو جماعية صادقة، تستطيع أن تتحرك بالجماهير في اتجاه واحد.

البيئة الداخلية
حين نتدبر السياق الذي يسير فيه الفاعلون في الداخل، نجد أننا أمام سياقين:
سياق يسير مع الخارج، وإن اختلفت الدوافع والأهداف، فبعضهم يخاف الحساب إن نجحت الثورة، وبعضهم "مؤدلج" يكره وصول الإسلاميين للحكم،لبغضٍ للدين أو للمتدينين. وبعضهم - وهؤلاء العامة – لا يبحث عن غير مأكله ومشربه، وظن أن الإسلاميين خطر على دنياه، فراح يدفعهم بمناصرة أعدائهم.

وكثيرٌ من هؤلاء محب لوطنه، ويريد الخير للناس، ولكنه يرى الخير في عدم الدخول في مخالفة الخارج. والخارج قد جربنا صداقاته، ومهاودته قروناً من الزمان، ولم نحصل على غير التخلف والتبعية.والخارج غليظ شرس لا يرحم. يفتعل المشاكل ليأكل ما في أرضنا، ويأخذ ما في أيدينا.فما نحن عنده إلا مصدر للمواد الخام بأقل الأسعار، والمستهلك للبضائع (ومنها السلاح والبغاء) بأعلى الأسعار الممكنة. فآن لنا أن نقف له، ونعصيه بما نستطيع. هذا ما يمليه العقل فضلاً عن الشرع.

وفي الداخل سياق آخر يسير في اتجاه معاكس للجميع، ويحاول التمكين للدين، ويتوافقون مع بعض مكونات المشهد في "البيئة المحيطة". وهم عامة المنتسبين للصحوة الإسلامية.

ويوجد عدد من الملاحظات على المشهد الصحوي، المحافظ على الهوية الإسلامية في مصر ـ وغير مصر ـ :

أولها:
أن الصف "الإسلامي" قد تم إقصاؤه من جوانب الحياة كلها، باستثناء جزء من الناحية الدينية سمح له أن يتواجد فيها، وبصورة غير "شرعية". فلا يمتلك التوجهُ الدينيُ في مصر ومن حولها، كودراً كافية في المجال العسكري، أو في المجال السياسي الرسمي الفاعل، أو في المجال الاقتصادي، أو غير ذلك من مجالات الحياة. وهي متطلبات ضرورية لإقامة دولة.

ثانيها:
أنهم يمتلكون منهجاً لا أدواتاً للتمكين لهذا المنهج. فمضمون الحديث جيد وإن ثمة تحفظ على بعض المفردات، ولكن آليات التنفيذ متخبطة، وكلها من غيرهم. والواقع يبين أنهم يُسرقون، أو ينزلقون عن أهدافهم إلى طرقٍ أخرى، أمارة ذلك في ما كانوا يعلنون عنه كهدفٍ استراتيجي حين قرروا الدخول في العمل السياسي، قالوا: لتحكيم الشريعة والحفاظ على الهوية، وموقفهم الآن مما يجرى من تعديلات دستورية، ومن عزلة عن الشعب، بل ولم يعد الحديث عن قضية تحكيم الشريعة يجد مساحة جيدة. وانساق هؤلاء في "التيار السياسي".

ثالثها: افتقاد الرؤية الواضحة للأحداث، ترتب على خلو الصف الإسلامي، وخاصة "القيادات" الفاعلة التي تتبعها الجماهير، من كوادر مدربة واعية بجوانب الحياة، أن نزل "الشرعي" الذي لا يعرف غير كتابات "السلف"، ممن تواجدوا في زمانٍ غير زماننا، وفي سياقٍ غير سياقنا، إلى الساحة السياسية، وأشد من أنه يحمل ثقافة لا تصلح للمعركة الحالية مع القوى العلمانية في البيئة الداخلية والمحيطة والخارجية، أنه أصر على أن يكون "إماماً" متبعاً؛ فكما أن الشرع معصوم وكامل، فلا نقص يحتاج إلى تكميل ولا عوج يحتاج إلى تقويم، فإن الممثل للشرع مثل الشرع إن قال يسمع لقوله؛ ولذا أراد رئيس الجمهورية أن يكون أحد أتباعه، ولم ينصر تجربةَ الشيخ حازم أبو إسماعيل وهو شيخ مثله، ولو نصرها لمرت بسلام، فقط لأن حازماً لا يتبعه، أو بتعبيره هو "لا يأخذ بالشورى".!!

رابعها:
سرقة غير قليل من رصيد الصحوة الإسلامية.
هذه هي محصلة الآداء الصحوي المدافع عن الهوية الإسلامية بعد عام ونصف من قيام الثورة المصرية، فقد خسر غير قليل من الشارع، وجاهر الناس بالعداوة للتيار الديني، حتى قفز مثل شفيق كخيار مقبول عند غير قليل من عامة الناس، والبقية ليست مع الخيار الإسلامي، فقط ربع المشهد "إسلامي"، وهذا الربع فيه دخن.!!

خامسها:
فقد زمام المبادرة. إذ كان المنتظر حين شبت الثورة أن يتقدم المدافعون عن الهوية الإسلامية، ويديرون المعركة بحرفية، ويأخذون بزمام المبادرة، وقد كانت الإمكانات عالية، فالجمهور هو الفاعل، وهم كانوا محل ثقته يومها، ولكنهم وقفوا في قارعة الطريق، بين مشغولٍ بجمع "الغنائم" يريد أن يكون هو وحده "الدعوة السلفية"، يرتب صفة ليسيطر على الداخل السلفي، وآخر وقف على مكانٍ مرتفع يحسب أنه "سلطان العلماء"، وأنهم بالوادي ينتظرون إشارته. وآخرون لم تنزع قرون استشعارهم التي كانت مصوبةً تجاه "الأمن" لا تتحرك إلى غير ما يريد بدعوى "الاستفادة من المتاح". وشذ عن ذلك حازم أبو إسماعيل، فقد كان حازماً وقاد الناس، ولو نصره هؤلاء لمرَّ بها، أو لقارع بها المؤسسات العلمانية المتغلغلة في الداخل والبيئة المحيطة والخارج.
وإصلاح المشهد الإسلامي يتطلب، التخصص في جوانب الحياة الأخرى، فإن إقامة حضارة غير إنشاء جماعة.. نتعلم علم القوم بالخلفية الشرعية التي عندنا، والالتصاق بالجماهير، وتبني فعاليات جديدة فإن للإسلام خصوصية في كل شيء؛ وكذا مفاصلة الخطاب العلماني لتكون الرؤية واضحة، وتجربة حازم صلاح أبو إسماعيل ماثلة، وناجحة. وننفض أيدينا من القوم فإن عداوتهم بادية، وكلهم لا يريدوننا.

محمد جلال القصاص

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية