اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/alkassas/131.htm?print_it=1

عبقريات العقَّاد والانتصار للإسلام

محمد جلال القصاص


بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
عبقريات العقَّاد والانتصار للإسلام

 
يحلو لبعضهم أن يضع العبقريات في إطار الانتصار للإسلام، فهل كانت انتصارًا للإسلام حقًا؟
هل كتب عبَّاس العقَّاد العبقريات ردًا على أعداء الدين؟
الحقيقة أن وصف "عبقري" عند عبَّاس العقَّاد لم يتجه للحبيب ﷺ وصحابته فقط، وإنما شمل غيرهم ممن يخالفهم كليًا أو جزئيًا، وإليك بعض التفاصيل:

العباقرة عند عبَّاس العقَّاد!

لم يقتصر وصف العبقري عند عباس العقاد على رسول الله ﷺ وعددٍ من أصحابه- رضوان الله عليهم-، ولكنه أرفق حديثه عن رسول الله ﷺ، والمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وعلي ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ، حديثًا عن الحلاج، وابن عربي، وابن سينا، وابن رشد، وسعد زغلول، ومحمد عبده، وعابد البقرة غاندي، وبنيامين فرانكلين، و يوهان جوته، وفرنسيس باكون، وشكسبير، وبرنارد شو، وصن يات سن (أبو الصين أو نبي الصين كما يسميه العقَّاد).
كل هؤلاء يحملون أعلى الأوسمة عند العقَّاد: "عبقري" أو "عظيم". ويصرح بذلك في "عبقرية محمد" ﷺ؛ يقول: "العظماء في جميع الأمم وفي جميع العصور.. يدخل فيهم القديسون كما يدخل فيهم الحكماء، ويدخل فيهم العلماء كما يدخل فيهم رجال الفنون والمخترعون، ويدخل فيهم القادة العسكريون والسياسيون..."[1].

والسؤال: ما القاسم المشترك بين هؤلاء جميعًا؟!
 بأيهم العقَّاد معجب؟!

بالأنبياء والمرسلين؟! أم بالمكذبين الضالين؟!
بالشخصية القوية الهجومية المقاتلة كخالد بن الوليد؟!، أم بالشخصية السلبية كغاندي؟!
 بالشعراء والأدباء أم بالساسة والحكماء؟!
يظهر بوضوح من خلال تتبع السياق والتفاصيل أن هذه الأوصاف ليست سببَ إعجابِ العقَّاد بمن كتب عنهم؛ فلا هو مأخوذ بالأنبياء المرسلين، ولا هو مأخوذ بالكافرين الضالين، ولا بالفلاسفة والمبتدعين، فقط مأخوذٌ بمَن يصنع مجدًا.. مأخوذٌ بكلِ من يُؤَثِّر في حياة الناس، سواء أكان مؤمنًا أم كان فاسقًا، بمعنى أن الكفر والإيمان ليس وصفًا مؤثرًا عند العقَّاد!!
يقول  الأستاذ رجاء النقاش في كتابه "أدباء ومواقف" عن العقَّاد: "إنه يؤمن بالإنسان العبقري، ويؤمن بأن الحضارة من صنع العباقرة أولاً وأخيرًا، فهم الذين يصنعون التاريخ""[2]".

ويقول في ص15: "ولو استخدمنا أسلوب العقَّاد في عبقرياته فإننا نستطيع أن نقول: إن حبه للعبقرية صفة تصلح مفتاحًا لشخصيته، فهو يطرب للعبقرية كما يطرب النحل بين الزهور، وكما تطرب العصافير في الربيع، وحتى في مواقفه السياسية كان حبه للعبقرية دافعًا أساسيًّا من دوافع العمل والتصرف في حياته، فقد كان مرتبطًا بسعد زغلول أكثر من ارتباطه بالوفد".
ويقول في ص14: "والعقَّاد معجب ـ كما قلت ـ بالإنسان الفرد والعبقرية الفردية، ولذا فهو لم يكتب عن عصر من العصور أو عن شعب من الشعوب أو عن ثورة من الثورات، وهو إذا كتب عن عصر وشعب وثورة فهو إنما يكتب عن ذلك من خلال شخص من الأشخاص".

وأيد الشيخ الدكتور غازي التوبة ما ذهب إليه رجاء النقاش في كتابه "الفكر الإسلامي المعاصر دراسة وتقويم""[3]" ، وذكر عددًا ممن تأثر بهم العقَّاد من الفلاسفة الغربيين، واستشهد بمواقف العقَّاد وكتاباته.

وكذلك أيدتْ، هذا المذهب في فهم عبقريات العقاد، وأنها كتبت للإنسان بغض النظر عن انتمائه الديني، الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في مقدمتها للفصل الذي عقدته لعرض العبقريات[4].

بمعنى أننا أمام إجماع لكل الذين كتبوا عن العقاد على أنه كتب انتصارًا للإنسانية، من منطلق الإعجاب بالإنسان الفذ.. العبقري. لا تأريخيًا للإسلام ولا دفاعًا عن الدين وسيد المرسلين ﷺ.

ودعنا نطرح السؤال (لماذا كتبت العبقريات؟) على العقاد نفسه، وقد أجاب بنفسه إجابة صريحة واضحة عن سبب كتابته للعبقريات. فقد ذكر في مقدمة "عبقرية محمد" ﷺ ذكر أن دافعه لكتابة العبقريات هو رد تطاول الناس على العظماء تحت وطأة المساواة التي جرت بينهم اليوم.

وفي مقدمة عبقرية الصديق أفصح العقَّاد عن تألمه الشديد لما نال العظماء من تطاول في العصر الحديث، حتى صحَّ عنده أن العظمة في حاجة إلى ما يسمى بـ"رد الاعتبار" في لغة القانون، ولم ينصرف حتى أعلن احترامه واعترافه بالجميل لكل عظيم حتى ولو كان من غير المسلمين، أو كما يقول هو: من "عظماء الأديان""[5]".

وحال حديثه عن الصديقة بنت الصديق.. حبيبة الحبيب.. أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ ذكر أن الغرض الأول أو الغرض الذي تنتهي إليه جميع الأغراض من تدوين سير العظماء هو "توثيق الصلة بين الإنسانية وبين عظمائها وعظيماتها، والنفاذ إلى الجانب الإنساني من كل نفس تستحق التنويه والدراسة""[6]". وحال حديثه عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أكد أن الذي يعنيه من عرض العبقريات هو "التعريف بالنفس الإنسانية في حالة من أحوال العظمة والعبقرية""[7]". وحال حديثه عن بنيامين فرانكلين بثَّ شكواه من تطاول الكثرة وظهور التخصص على العظماء، وأعلن أنه إذْ يؤرخ لبنيامين فرانكلين فهو ينقذ العظمة من هجمة الكثرة وظهور التخصصية بإبراز حياة هذا العبقري"[8]".

نعم.. لا يشك عاقل في أن عبقريات العقَّاد لم تكتب انتصارًا للإسلام، بل كتبت لغرضٍ آخر هو الدفاع عن "الفردية".. "العظماء".. "رد هجمة التخصصية".. إلى آخر ما يقول هو"[9]"، وهذا ما يفهمه المسوِّقون لبضاعة العقَّاد الفكرية، يقول مَن قدَّم لرسالة "الصهيونية العالمية" عن العقَّاد: "ومن يقرأ كتبه- ولا سيما عبقرياته وحملاته ضد الحكم المطلق والمبادئ الهدامة- يعرف أنه يدين بالقيم العليا، ويقيس عظمة الرجال والأعمال بالمقاييس الأخلاقية""[10]".

هل كان ظلامًا؟!

بعض المدافعين عن عبَّاس العقَّاد يقول: لم يكن في الفترة التي عاصرها العقاد علمٌ بالدين.. يقولون: كان ظلامًا!!
وكأنَّ العقَّاد جاء على فترة من الرسل، في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب!!
والحقيقة خلاف ذلك، فقد عايَشَ عبَّاس العقَّاد الصحوة الإسلامية.. عايش تكونها، وصعودها، وأحداثها الكبرى؛ وكانت الأكثر دويًّا في تاريخنا المعاصر؛ كانت تناظر، وكانت تجاهد، وكانت- ولا زالت- في كل مكان"[11]".

عاصر عبَّاس العقَّاد مَن لا زالوا بيننا أحياءً- بذكرهم- إلى اليوم، مثل الأستاذ حسن البنا، وعز الدين القسَّام، ومحمد شاكر، ومحمود شاكر، ومحمد عبد الله دراز"[12]"، ومحمد رشيد رضا، ومحمد عبد الكريم خطابي، وعبد الحميد باديس؛ وظلت الصداقة قائمة بين الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- وعباس لعقودٍ من الزمن وكانا صفًّا واحدًا في حزب الوفد في العقد الثالث من القرن العشرين؛ وعاصر عبَّاس العقَّاد نشأة الصحوة الإسلامية في مصر على يد حسن البنا "وكان العقَّاد يكبر البنا سنًا بقرابة عقدين من الزمن"؛ ومر به أحداث جسام مثل سقوط الخلافة1924م، ونكبة فلسطين1948م وكلها كانت أحداث منشأة لثورات، وتحولات، فكرية في الاتجاه الإسلامي التجديدي (الصحوي).

كانت الحركة الفكرية إسلامية في جملتها، أو بالأحرى ذات مواضيع إسلامية، تؤيد أو تعارض ـ وكانت الصحوة كبيرة برموزها وجماهيرها، وعريضة بمساحة انتشارها، ولم يكن عبَّاس العقَّاد إلى يوم مماته ضمن المنظومة التي تدافع عن الإسلام أيًّا كان توجهها، بل كان من المشاكسين للصحوة ورجالها!!
كان مجافيًا للتوجهات السلفية المعنية بالسنة النبوية، وينظر بعين الازدراء إلى الدعوة السلفية في نجد "السعودية""[13]"، واتهم "الإخوان المسلمين" بالعمالة للعدو الصهيوني ووصفهم بـ "خُدّام الصهيونية"، وزعم أن الأستاذ حسن البنا من يهود ويعمل لصالح يهود!!
 وهجوم العقاد على الإخوان (وهم عامة الصحوة يومها) كان في وقت بلاء وشدة[14]، وسماهم "خُوَّان المسلمين" حين قُتِل النقراشي.
وقرأ  عبَّاس العقَّاد في أمهات الكتب التراثية، فيعرف البخاري ومسلم، ويعرف شيخ الإسلام ابن تيمية وينقل عنه ويسميه "الإمام الثبت""[15]"، ويعرف ابن القيم"[16]"، ويعرف القرافي"[17]"، ويعرف ابن الجوزي"[18]"، ويعرف أئمة السلف وكثيرًا من مشاهير الخلف، ويرجح بين الروايات كما في وفاة أم رومان زوجة أبي بكر رضي الله عنهما"[19]"، ويعرف أننا نمارس النقد على المتن وعلى السند"[20]"، ولك أن تراجع ما قاله حول قصة وأد عمر لابنته في الجاهلية"[21]" يتكلم عن السند والمتن، ويرد المتن بعقله، ويشكك في السند دون أن يذكر عنه شيئًا، فقط بالتخمين والظن، وما يعنيني أنه يعرف أن ثّمَّة متن وسند.. يعرفه جيدًا. والدكتور صالح سعد اللحيدان في نقده للعبقريات يعتذر للعقاد بأنه يجهل المصادر الصحيحة، أو يجهل التفرقة بين الصحيح وغيره. وهذا غير صحيح؛ كان عالمًا بها مطلعًا على كثير منها، يدري أن ثمَّة صحيح مقبول وضعيف مردود.


محمد جلال القصاص
إبريل 2009 ربيع ثاني 1430
تعديل: إبريل 2021/ شعبان 1442


-----------------------------------------
[1]) ص127، والعبقرية هي العظمة عنده. انظر: عبقرية عمر، ص327.
[2] رجاء النقاش، أدباء ومواقف، ص11.
[3] غازي التوبة، الفكر الإسلامي المعاصر، ص144.
[4] د. نعمات أحمد فؤاد، الجمال والحرية والشخصية الإنسانية في أدب العقاد، ص43 وما بعدها.
[5]) انظر: مقدمة عبقرية الصديق.
[6]) الصديقة بنت الصديق ص23.
[7]) عثمان ذو النورين ص 17.
[8]) بنيامين فرانكلين ص14، 15.
[9]) رجاء النقاش وغيره يقولون بأن العقَّاد كتب للسوق، والكتابة للسوق أحد أهداف العقاد.
[10]) المقدم هو محمد خليفة التونسي. الصهيونية العالمية، ط. دار المعارف، ص8.
[11]) مصر قديمًا هي مصر والسودان حاليًا، عدا غرب السودان  فإنه يتبع منطقة الولايات تاريخيًّا، وجنوبها ’يتبع الحبشة، والسودان قديمًا هي إفريقيا الآن عدا مصر والمغرب العربي، وكانت تسمى سودان لسواد بشرة سكانها، وإفريقيا قديمًا هي المغرب الأدنى (’ليبيا وتونس)، والمغرب الأوسط  قديمًا هو الجزائر اليوم، والمغرب الأقصى قديمًا هو دولة المغرب وموريتانيا. والاحتلال الأوروبي هو الذي غير الأسماء.
[12]) صاحب كتاب "النبأ العظيم"، وهو مصري توفي في باكستان في مؤتمر حضره هناك، وكان ممن ابتعث للغرب.
[13]) عقد فصلاً في كتاب: "الإسلام في القرن العشرين"، تكلم فيه عما أسماه "الدعوة الوهابية".
[14]) انظر: "الصهيونية وقضية فلسطين"، ص 256.
’’[15]) انظر: "التفكير فريضة شرعية"، ص865 وما بعدها، فقد أطال الكلام عن وحول شيخ الإسلام ابن تيمية.
’’[16]) في كتابه ’’حقائق الإسلام وأباطيل خصومه"، ص134 ذكر كتاب  ’’إعلام الموقعين" لابن القيم، وفي صفحة 248 من الكتاب نفسه شرح منهج ابن القيم في تعاطي المسائل الفقهية شرْحُ مَن قرأ وعلم. وفي كتاب ’’التفكير فريضة إسلامية" ص928 ذكر ابن القيم وكتابه إعلام الموقعين ثانية ينقل عنه.
’’[17]) التفكير فريضة إسلامية ص927.
’’[18]) التفكير فريضة إسلامية ص935.
’’[19]) الصديقة بنت الصديق ص32.
’’[20]) فاطمة الزهراء ص55.
’’[21]) عبقرية عمر ـ موسوعة عبَّاس العقَّاد الإسلامية، دار الكتاب، ص511.

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية