صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







اغتنام الفرص
والمبادرة إلى الإحسان

د. عبدالله بن معيوف الجعيد
@abdullahaljuaid

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمدُ لله ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ خلقِ اللهِ أجمعين سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمدِ بن عبدِ اللهِ، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن تبعهُ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد: فإن اغتنامَ الفرصِ والمبادرةَ إلى الأعمالِ الصالحةِ من الصفاتِ الحميدةِ والخصالِ الفريدةِ التي يجتبي الله ¸ بها مِن عبادِه من يشاء.
ومن هُديَ إلى مثل هذه الإعمالِ فقد أُوتي من الخيرِ الكثيرَ.

و في الكتاب والسنةِ نماذجُ كثيرةٌ من هذه الأعمالِ التي وفَّق اللهُ ¸ بعضَ عبادِه الصالحين بالمبادرةِ والمسارعةِ إليها.
فالإنسانُ المؤمنُ الصالحُ يسعى إلى التَّعرفِ إلى ما يحتاجُه مَن حولَه مِن الناسِ؛ ليبادرَ إليهم بالخيرِ مِن غير أن يَطلبوا منه ذلك، ويسعى في قضاءِ حوائجِهم حتى وإن لم يتفوَّهوا بها.
وإنَّ مثلَ هذه الأعمالِ فرصٌ لا يَغتنمُها إلا مَن فطِن لها من عبادِ اللهِ المخلصين ممن يتَّصفون بالهمَّةِ العاليةِ، فلا يَنالُ شرفَ اغتنامِ هذه الأعمالِ كلُّ أحدٍ مِن الناسِ حتى وإن سعى إليها.

وإنما هي لمن صدقَ في عزمِه، وأخلصَ في عملِه، وتوَّجَ ذلك بالمبادرةِ والمسارعةِ.
وإن من أجلِّ الأمثلة على ذلك ما فعله نبي الله موسى ’ حين بادر إلى سقْيِ الماءِ للمرأتين عندما وردَ ماءَ مدْينَ، وذلك من غيرِ طلبٍ منهما، مع وجودِ الكثيرِ مِن الناسِ حولِ الماءِ كما وصَفَهم اللهُ ¸ في كتابهِ بأنَّهم أمَّةٌ من الناسِ يَسْقُون، إلا أن موسى ’ هُو مَن انتبَه إلى المرأتين وفطِن إلى حاجتِهما للمساعدةِ في السُّقيا، وذلك في ظلِّ انشغالِ الناسِ بالاستقاءِ لأنفُسِهم دون الْتفَاتِهم للمرأتين وحاجتِهما إلى المساعدةِ.

ونبيُّ الله موسى ’ هو المختارُ المجتبى لإسداءِ هذا الخيرِ، فوفَّقه اللهُ لاغتنامِ الفرصةِ في عملِ الخيرِ.
والمتأملُ في السيرةِ النبويةِ يجدُ الكثيرَ مِن أرْوعِ الأمثلةِ على مبادرةِ النبيِّ ‘ في التعرفِ على احتياجاتِ مَن حولَه من الناسِ وسعيِه في سدِّ احتياجاتِهم، ومساعدتِهم مِن غيرِ طلبٍ منهم.

وهذه قصةُ أبي هريرة ¢ مع النبي ‘ التي أخرجها البخاريُّ ومسلمٌ خيرُ مثالٍ على هذا، يقول أبو هريرة ¢: «ولقد قعَدْتُ يومًا على طريقِهِمُ الذي يخرُجونَ فيه، فمرَّ بي أبو بكرٍ، فسألْتُه عن آيةٍ مِن كتابِ اللهِ، ما أسألُه إلَّا ليُشْبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثمَّ مرَّ بي عمرُ، فسألْتُه عن آيةٍ مِن كتابِ اللهِ، ما أسألُه إلَّا ليُشْبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثمَّ مرَّ أبو القاسِمِ ‘، فتبسَّمَ حينَ رآني، وقال: أبا هُريرةَ، قلتُ: لبَّيْكَ يا رسولَ اللهِ، قال: الْحَقْ، ومـضى؛ فاتَّبَعْتُهُ، ودخَلَ منزلَه، فاستأذَنْتُ؛ فأذِنَ لي، فوجَدَ قَدَحًا مِن لبنٍ، فقال: مِن أينَ هذا اللَّبنُ لكم؟ قيل: أهداه لنا فلانٌ، .... فأخَذَ رسولُ اللهِ ‘ القَدَحَ، فوضَعَه على يدِهِ، ثمَّ رفَعَ رأسَه، فتبسَّمَ، وقال: أبا هُريرةَ، اشرَبْ؛ فشـرِبْتُ، ثمَّ قال: اشرَبْ؛ فلَمْ أزَلْ أشرَبُ ويقولُ: اشرَبْ، ثمَّ قلتُ: والذي بعَثَكَ بالحقِّ، ما أجِدُ له مَسْلَكًا؛ فأخَذَ القَدَحَ، فحمِدَ اللهَ، وسمَّى، ثمَّ شرِبَ».

وما هذه القصةُ وأمثالُها إلا حافزًا لكلِّ ذي شهامةٍ ومروءةٍ لأن يُحسن قراءةَ حاجاتِ النَّاسِ مِن حولِه، وأن يُبادرَ في قضائِها دونَ أن يطلبوا ذلك منه، وذلك لكونِ هذه الأعمالِ فرصًا، وإن اغتنامَها فيه من الخيرِ الكثيرُ.
ومن جميلِ الأخبارِ في مبادرةِ الصالحين إلى اغتنامِ الفرصِ في عملِ الخيرِ ما فعل الصحابيُّ الجليلُ أبو طلحةَ الأنصاريُّ ¢، فقد رأى النبي ‘ في المسجدِ وقد بدا على صوتِه ضعفٌ بسبب الجوع، فعاد مـسرعًا إلى زوجتِه يسألُها عمَّا عندهم من الطعامِ، ثم دعا النبيَّ ‘ وأصحابَه فأكلوا حتى شبِعوا.

ولنستمع القصة من راويها أنس بن مالك ¢، يقول: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ ‘ ضَعِيفًا، أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي، وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ‘، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ ‘ فِي المَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ‘: «أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «بِطَعَامٍ؟» قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ‘ لِمَنْ مَعَهُ: «قُومُوا» فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ‘ بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ ‘، فَأَقْبَلَ أَبُو طَلْحَةَ وَرَسُولُ اللهِ ‘ حَتَّى دَخَلاَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ‘: «هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا عِنْدَكِ» فَأَتَتْ بِذَلِكَ الخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ‘ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: «ائْذَنْ لِعَـشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: «ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَـشَرَةٍ فَأَكَلَ القَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالقَوْمُ ثَمَانُونَ رَجُلًا. أخرجه البخاري.

ولا تقـتصرُ أمثلةُ ذلك على صعيدِ الحاجاتِ الماديَّةِ مِن مأكلٍ ومَشـربٍ، فما أجملَ أن تكونَ مبادرةُ الإنسان في جَبرِ خواطرِ مَن حولَه، وإدخالِ الفرحةِ والسرورِ على نفوسِهم، وتقديمِ التهنئةِ لهم في أفراحِهم، ومواساتِهم في أحزانِهم، وإن هذا من أعظمِ الأعمال.

ومن أجملِ القصصِ التي رُويتْ في جانبِ تلمُّسِ الحاجاتِ المعنويةِ للناسِ: قصةُ الصحابيِّ الجليلِ كعبِ بنِ مالكٍ ¢ عندما بُشِّـرَ بتوبةِ اللهِ عليه.

فقد أخذ يُحدث الناسَ بذلك، وانطلق إلى المسجدِ حتى وجدَ رسولَ الله ‘ جالسًا بين أصحابه، فيقول كعبٌ: (قام إليَّ طلحةُ بنُ عبيدِ الله يُهرول حتى صافحني وهنَّأني، وواللهِ ما قام إليَّ رجلٌ مِن المهاجرين غيرُه)، وقد أضاف كعب: (ولا أَنساها لطلحةَ!).
فما لنا ألا نبادرَ إلى اغتنامَ فُرصِ الأعمالِ الصالحةِ بمُختلفِ أشكالِـها، ونحن نعلمُ أنَّ وراءَها الخيرَ الكثيرَ والأجرَ العظيمَ.

فهنيئًا لمن بادَرَ وكسبَ الأجرَ، وكسبَ معه قلوبَ الناسِ ومحبتَهم.

وهذه نماذجُ متنوعةٌ مِن أمورٍ نُذكِّر بالمبادرةِ إليها في أوقاتِها المناسبةِ، وعند الحاجةِ إليها.

أولًا: المبادرةُ إلى التهنئةِ والمواساةِ في المناسبات المختلفة لمن حَولنا، فرُبَّ كلمةٍ نقولها لهم في مناسبتِهم تُنزلُ في قلوبِهم الفرحِ والسـرورَ ولا يَنسوْنها لنا ما بقُوا أحياءً.
ثانيًا: اغتنامُ فرصِ المبادرةِ في نـشرِ الفوائدِ والكلماتِ الطيبةِ، والخطبِ المفيدةِ، في مجالسِنا وعبرَ مواقعِ التواصلِ، وذلك ليكونَ لنا أجرُها وأجرُ من عملَ أو انتفعَ بها.
وعلينا ألا نتكاسل في نـشرِها بحجةِ إتاحتِها عبر المواقعِ والمنصاتِ المختلفةِ، فقد لا يكونُ لها شيوعٌ بين من تنشرُها لديهم.
ثالثًا: المبادرات العلمية: فمبادراتُ الأشخاصِ هي الأساسُ في تطورِ العلومِ الـشرعيةِ والدنيويةِ وتقدُّمِها، فالكتبُ التي تركها لنا سلفُنا الصالحُ ومن بعدهم إنما هي مبادراتٌ منهم في حفظِ العلمِ ونقلِه.
وقد انتفعتْ بها الأجيالُ المتلاحقةُ وسيبقى أثرُها بين الناس إلى ما شاء الله.

 

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 
  • المقالات
  • العمل الخيري
  • الكتب
  • الصفحة الرئيسية