صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







القيود المحببة

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


الحمد لله خلقنا من عدم،وكبرنا من صغر،وقوانا من ضعف،وبصرنا من عمى،وأسمعنا من صمم،وأغنانا من فقر، وأمننا من خوف ، وهدانا من ضلاله.أحمده سبحانه وأشكره على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد:فاتقوا الله عباد الله تفوزوا بالنجاة من نار ووقودها الناس والحجارة وعد بذلكم ربكم بقوله :{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا()ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}([1]) .
كان في رحلة صيد وبينما هو يسير إذا به فجأة يرى خيال أرنب سمين طري اللحم فتحركت نفسه تجاهه وتاقت معدته لهضمه فانطلق يعدو خلف ذلك الخيال بكل قوته لا يشغل باله إلا كيف يصيده ويستمتع بلذته فعمي عن أي مخاطر أخرى تحيط به ، فانطلق في منحدر يؤدي إلى هاوية عميقة في قعرها نار عظيمة تأجج ، ومن قدر الله أن يتنبه جمع من رجال الإنقاذ له ، فسارعوا وألقوا إليه حبال الإنقاذ لينقذوه بها ولكنه كان ينظر إلى تلك الحبال حبال الإنقاذ بأنها قيود تكبله، وأن رجال الإنقاذ ما هم إلا رجال متطفلون يريدون أن يحدوا من حريته ، فصاح بهم اتركوا لي حريتي أنا حر فيما أفعل ، فلم يستجيبوا له لأنهم رحماء به يريدون إنقاذه ، فأخذ يحتال على تلك التي يراها حسب تصوره المريض بأنها قيود مكبلة له ، ليتفلت منها وينطلق . واحتدم الجدال والصراع بين الجانبين بين الرجل وبين رجال الإنقاذ وتجمع حول ذلك المشهد جمع من الناس وانقسموا فريقين فريق وهو السواد الأعظم اقتنعوا بفكرة المطارد لسراب الأرنب وانطلقوا خلفه وظل قلة يحاولون إنقاذهم وهو يصرخون نحن أحرار لا تكبلونا بتلك القيود المعيقة النتنة فأصبح رجال الإنقاذ في ورطة فهاهم يواجهون بالسباب والشتائم ، فإن أرخوا لهم الحبل قليلاً شدوهم إلى تلك الهاوية وإن تمسكوا بالحبل تمسكوا على جهد ونصب . هذا المشهد أيها الأحبة في الله  لا يمثل مشهد رجل بعينه وإنما هو حال المصلحين مع حال أتباع الشهوات في المجتمع ؛ فأهل الشهوات رحالاً كانوا أم نساء ينطلق كل  واحد منهم خلف سراب شهوته وهمه كيف يحصلها وتلذذ بها غير عابئ بالنتائج  المترتبة على فعله ذلك ومنهم من يسعى لقياد المجتمع بأكمله وترتيبه بما يضمن له الحصول على شهواته ، ويبذل كل جهده لإقناع ولاة الأمر بأن هذه القضية هي مطلب ملح لجماهير المواطنين ، ومنهم من يسعى لتلويث سمعة أهل الإنقاذ والصلاح في كل محفل ومجلس حتى يكثر مناصروه على الشهوات ويقل المنقذون فينفلت الزمام ويسقط المجتمع في هاوية الرذيلة لا قدر الله .أيها الأحبة في الله إن هذا المشهد بين أهل الصلاح وأهل الشهوات مشهد قديم سبق وأن صوره لنا رسولنا وحبيبنا صلوات ربي وسلامه عليه فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أَبُي هُرَيْرَةَ أن رسول الله     صلى الله عليه وسلم  قال : ((مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ  اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ هَلُمَّ عَنْ النَّارِ فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا))(2).
فهل أدرك الذين ينظرون إلى تعاليم الإسلام والتقيد بها على أنها قيود تكبلهم وتمنعهم من حريتهم أن تلك القيود هي قيود محببة لدى كل ذي لب وبصيرة لأنها طوق النجاة الذي يمنعه من التردي في قعر نيران محرقة؛ فتعالوا للنناقش ذلك فهناك من يرى في الصلوات الخمس أنها قيود تقيد من حريته فصلاة العصر تقيد بوقتها حريته في النوم بعد يوم عمل أو دراسة مجهد ، وصلاة المغرب والعشاء تقطع عليه حريته في الجلوس والاستئناس مع أصدقائه وأحبابه ، أو من متابعة برنامج تلفزيوني أو مباراة حاسمة ، وصلاة الفجر وما أدراك ما صلاة الفجر تفسد عليه بوقتها نومه الهانئ في ظل الفراش الوثير والحضن الدافئ ، فأقول له: هب أنك اشتريت جهازاً إلكترونياً حساساً ووجدت في دليل التشغيل الذي جاء معه تعليمات تقول لك أنك بحاجة إلى غلق الجهاز بعد كل ساعتين من تشغيله وتنظيفه وعرضه على الشركة المصنعة له كل أسبوع للصيانة ، أتظن أن الشركة قد وضعت هذه التعليمات لتقييد عمل الجهاز أم أنها وضعته لمصلحة الجهاز ليعمل بكفاءة أطول مدة ممكنة ؟ وأنت من الذي خلقك وصورك وصنعك ؟ إنه الله وقد وضع العظيم لك هذه المواعيد للصلوات لا لتقييدك فهو غني عنك وعن صلاتك وإنما وضعها رحمة بك؛ فأنت كم ترتكب في اليوم من الذنوب والخطايا فتتكون طبقة الران السوداء على قلبك ، فتأتي في الصلاة وتعرض نفسك على الذي صنعك وخلقك وتناجيه وتتوب إليه فيصلح ما فسد من قلبك ويغسله فيعود قلبك نظيفاً لا معاً؛ يخبرك عن ذلك ربك بقوله:{وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}(3).ويخبرنا عنه نبينا وحبيبنا     صلى الله عليه وسلم   فيما أخرجه الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ  صلى الله عليه وسلم : ((مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ غَمْرٍ عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَالَ:قَالَ  الْحَسَنُ وَمَا يُبْقِي ذَلِكَ مِنْ الدَّرَنِ))(4).أنت في يومك تواجهك المشكلات والمعضلات فتقوم في الصلاة بين يدي الملك المدبر لهذا الكون وتقول إياك نعبد وإياك نستعين فيفرج عنك الله ويعينك بقوته وقدرته على تلك المشكلات، الصلاة عامة وصلاة الفجر خاصة وقاية لك من الأمراض النفسية واستمع ينبئك عن هذا من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى يوم قال فيما أخرجه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه   : صلى الله عليه وسلم  قَالَ : ((يَعْقِدُ  الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ))(5).
فانظر إلى حال ذلك الذي ترك صلاة الفجر كيف تراكم ذلك الخبث الشيطاني على نفسه يوماً بعد يوم فإذا به يصاب بالأمراض النفسية ولو لم تظهر آثارها إلا بعد عشرين أو ثلاثين عاماً، أما المحافظ على صلاة الفجر في الجماعة فإنه يمحو ويغسل عن نفسه ذلك الخبث الشيطاني أولاً بأول فيعيش ما عاش بإذن الله في حفظ من تلك الأمراض والمصائب، فهل نعتبر الصلاة بعد ذلك بأنها قيد مكبل لحرية الفرد أم أنها قيود محببة لأنها طوق نجاة تسحب ابن آدم الذي ركن والتصق بالأرض لترفعه إلى درجات السمو والعلو والرضوان أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى()وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى()قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا()قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى()وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}(6).   

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى يجزي أهل الوفاء بالتمام والوفاء وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يرتجى ولا ند له يبتغى وأشهد أن نبينا وإمامنا وحبيبنا محمداً النبي المجتبى والرسول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء . أما بعد : فاتقوا الله عباد الله واعلموا رحمني الله وإياكم وعلموا زوجاتكم وأولادكم أن الله جل وعلا بكرمه وجوده ما جاء لنا بهذه الشريعة ليضيق علينا بل على العكس من ذلك جاء ليخفف عنا ما كان على الأمم من قبلنا يقول سبحانه:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(7). بين لنا الخبير العليم ماذا يريد أهل الشهوات منا وماذا يريد الله بنا بقوله جل جلاله : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا()يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}(8). فمن هذا المكان أوجه ندائي إلى كل شاب يضيق بأبيه ذرعاً يوم أن يأمره بالصلاة أو بأمر من أوامر الدين ، وإلى كل امرأة وفتاة تضيق ذرعاً بالأمر بالحجاب والاحتشام ، وإلى كل فرد في المجتمع يضيق ذرعاً برجال الهيئات والإصلاح . أقول لهم جميعاً كان حقاً عليكم أن تقدروا لهؤلاء القوم قدرهم فهم رجال إنقاذ يسعون لإنقاذكم من نار وقودها الناس والحجارة وينقذوا المجتمع من التفسخ والانحلال، أيها الأحبة في الله ما ذكرته في هذه الخطبة طرفاً يتعلق بالصلاة ولعله إذا فتح الله علي ورغب الإخوة في الاستمرار في كشف الجوانب المضيئة لتكاليف الشريعة أن تكون فيها خطب قادمة بإذن الله.والله أسأل أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى.

-----------
([1]) مريم:71،42.(2)مسلم،الفضائل،ح(4235).(3)هود:114.(4)مسلم،المساجد..،ح(1072).
(5)البخاري،الجمعة،ح(1074).(6)طه:123-127.(7) الأعراف:157. (8)النساء:27،28.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية