صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







طريق العزة يبدأ من هنا

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


الحمد لله فاطر الأرض والسماء،مجيب الدعاء،مسدي السراء،وكاشف الضراء،أحمده جل شأنه وأشكره جعل العز في الدنيا والآخرة للعلم والعلماء،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تفرد بجمال الصفات وعليِّ الأسماء،وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله خير البرية جمعاء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.أما بعد:
فيا عباد الله هذا ربكم يخاطبكم فأنصتوا لخطاب ربكم إذ يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال:29).أسود البشرة أعور العين أفطس الأنف مشلول اليد أعرج القدم أقرع ليس في رأسه إلا شعرات مولى من الموالي كان يعيش هنا في بلد الله الحرام في بلدكم مكة المكرمة ؛فياترى كيف تتوقع أخي كان عيشه؟.هل كان مشرداً متسولاً يقف على أبواب الناس أم كان الملوك والخلفاء يقفون على بابه؟. هل كان يعيش ذليلاً كسيراً أم كان يعيش عزيزاً وجيهاً؟.هل كان يُرفض قوله أم كانت طلباته أوامر يسعى الخلفاء لتحقيقها؟. لنعرف ذلك تعالوا أحبتي لنقترب من المشهد؛فهذا الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك الذي ملك من الشام شمالاً حتى اليمن جنوباً ومن الهند والسند شرقاً حتى المغرب غرباً يطوف بالبيت في شهر الحج ثم يسأل عن الرجل فيُدل عليه فيأتيه سليمان فيجده مستغرقاً في صلاته ومن حوله الناس جلوساً فيجلس الخليفة حيث ينتهي به المجلس مع الناس ،وبعد أن انتهى الرجل من صلاته حياه الخليفة فرد عليه التحية وبدأ الخليفة يسأله عن مناسك الحج فيجيب عنها كالبحر الذي لا ساحل له،فلما انتهي الخليفة من مسائله شكر الرجل ودعا له وانصرف،ثم قال لأبنائه ناصحاً يابني تعلموا العلم فبالعلم يشرف الوضيع،وينبه الخامل،ويعلو الأرقاء على مرتبة الملوك(د. عبد الرحمن الباشا،صور من حياة التابعين،ط15(القاهرة:دار الأدب الإسلامي،1418هـ/1997م)،ص9)،وصدق والله فما الذي جعل الخليفة الأموي بما يملك من الدنيا يقف بين يدي هذا الرجل موقف التلميذ المؤدب،وجعل من الرجل في موقف العز في موقف المعلم المربي؟.إنه العلم وكفى..فبالعلم ومن العلم يبدأ طريق العزة والفلاح في الدنيا والآخرة..أعرفتم من ذلك الرجل؟. إنه التابعي الجليل شيخ الإسلام،مفتي الحرم المكي أبو محمد عطاء بن أبي رباح (للمزيد عن سيرته يرجع إلى : الذهبي،سير أعلام النبلاء،ج5،ص87وما بعدها).ولد بعد عامين من خلافة الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وعمَّر مائة عام ملأها بالعلم والعمل،أدرك مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ضيَّع الفرصة بل أخذ عنهم العلم والعمل حتى لقبه البعض بوارث علم حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه،شغل أوقاته بطلب العلم حتى امتلأ صدره علماً وفقهاً ورواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فساد وعز؛فأين من يضيِّعون حياتهم في اللعب واللهاث وراء الشهوات من سير أمثال هؤلاء الأفذاذ؟.بلغ من العلم شأناً حتى كان ينادي في الحج منادياً:لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح.دخل عطاء بن أبي رباح يوماً على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك فقام له الخليفة مرحباً ولا زال يقول له هَهُنا..هَهُنا حتى أجلسه معه على سريره ومس بركبته ركبته وكان في المجلس أشراف الناس،وكانوا يتحدثون فسكتوا وتصاغر أمام ذلك العالم كبار القوم من الوزراء والأمراء، وخَفَتَ كل صوت وعلا صوت العلم؛فأقبل الخليفة على عطاء قائلاً ما حاجتك يا أبا محمد؟.قال:يا أمير المؤمنين أهل الحرمين..أهل الله وجيران رسوله صلى الله عليه وسلم تُقَسِّم عليهم أرزاقهُم وأعطياتِهم.قال:نعم،ياغلام أكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهُم وأرزاقِهِم لسنة،ثم قال:هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟. قال:نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب وقادة الإسلام تَرُدُّ فيهم فضولُ صدقاتِهِم.قال:نعم،ياغلام اكتب أن تُرَدََّ فيهم فضولُ صدقاتِهم.ثم قال:هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟.قال:نعم يا أمير المؤمنين،أهل الثغور يقفون في وجه عدوكم ويقتلون من رام المسلمين بشر،تُجْرِي عليهم أرزاقاً تُدِرُّها عليهم؛فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور.فقال: نعم،ياغلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم.ثم قال:هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟.قال:نعم يا أمير المؤمنين،أهل ذِمَتِكُم لا يكلفون مالا يطيقون فإن ما تَجْبُونَهُ منهم معونة لكم على عدوكم.قال:نعم،ياغلام اكتب لأهل الذمة بألا يكلفوا مالا يطيقون.ثم قال:هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟.قال:نعم اتق الله في نفسك يا أمير المؤمنين واعلم أنك خلقت وحدك وتموت وحدك وتحشر وحدك وتحاسب وحدك ولا والله ما معك ممن ترى أحد فأكب الخليفة ينكث في الأرض وهو يبكي،فقام عطاء ولما صار عند الباب بعث الخليفة إليه بكيس فيه مال،فقال عطاء هيهات..هيهات:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الشعراء:164).إلا ترى أخي الحبيب كيف أن الخليفة يسأله: هل من حاجة غيرها.. هل من حاجة غيرها..وهو يسأل حوائج المسلمين وغير المسلمين وما سأل لنفسه ولا عود حصير استغنى واستعلى بالعلم على الدنيا وزخرفها..!.لم يتخذ من العلم وسيلة للتكسب بل كان يستحضر ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم((مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا))(أبوداود،العلم،ح(3179)).وقد عُرف عنه ذلك حتى قال عنه سلمة بن كُهيل:ما رأيت أحداً يريد بهذا العلم وجه الله غير هؤلاء الثلاثة:عطاء،وطاووس،ومجاهد.فلا يكون عزاً إلا بالعلم المقرون بالإخلاص والعمل؛فهذا عطاء بن أبي رباح يموت وله سبعون حجة ؛وصل عطاء بن أبي رباح إلى ما وصل إليه بأن أحكم سلطانه على نفسه فلم يدع لها سبيلاً لترتع فيما لا ينفع،وأحكم سلطانه على وقته فلم يهدره في فضول الكلام والعمل؛حدث محمد بن سُوقَةَ جماعة من زواره فقال:إلا أسمعكم حديثاً لعله ينفعكم كما نفعني؟.قالوا:بلى،قال: نصحني عطاء بن أبي رباح ذات يوم فقال:يا ابن أخي إن الذين كانوا من قبلنا-يعني الصحابة رضي الله عنه-كانوا يكرهون فضول الكلام، فقلت:وما فضول الكلام عندهم؟.قال:كانوا يعدون كل كلام فضولاً ما عدا كتاب الله عزوجل أن يقرأ ويفهم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروى ويدرى،أو أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر،أو علماً يتقرب به إلى الله تعالى أو أن تتكلم بحاجتك ومعيشتك التي لا بد لك منها ثم حدَّق إلى وجهي وقال أتنكرون:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ()كِرَامًا كَاتِبِينَ()يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار10-12).وأن مع كل منكم ملكين {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ()مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:17-18).فما أصدق قول العظيم جل شأنه:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(المجادلة:11).

الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعبنه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.أمابعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن طريق العزة في الدنيا والآخرة يبدأ من العلم وينتهي إليه:العلم يرفع بيتاً لا عماد له...والجهل يهدم بيت العز والشرف.فأمة الإسلام أمة علم أشارت إلى ذلك أول آية أنزلها الله على نبيه الأمي وهي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(العلق:1).ورفع الله العلماء على غيرهم وبين فضلهم بقوله:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}(الزمر:9).وقال صلى الله عليه وسلم:((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ثُمَّ قَالَ:إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ))(الترمذي،العلم،ح(2609)[قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ]).فيا أمة العلم والعمل لابد أن نعلم أنه ما ذلت أمة الإسلام إلا يوم أن ضلت أقدام أفرادها طريق العلم والعمل واستبدلتها بطريق الشهوات وإضاعة الأوقات،فهيا أحبتي لنربي في أنفسنا وفي أزواجنا وأولادنا حب القراءة والعلم والعمل الجاد وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية