صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بيان عن قضية العراق
مانزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة ..

الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد

 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .. أما بعد :

فليُعلم أن الذي يعتقده المسلم البصير بدينه أن الإسلام الحق أصبح في وقتنا هذا في غربة غريبة، وكربة رهيبة، وأعظم الأسباب في حصول هذه الغربة والكربة هو هَيْمنة السياسة الطاغوتية الدخيلة على الإسلام .

وإن أبرز وأظهر علاماتها أنْ ليس لله سبحانه وتعالى فيها ذكر، ولا لأمره ونهيه فيها مجال، فقد أبعدته غاية البعد وعادَته أشد العداوة لأنها ترفع راية الشيطان وتكفر بالرحمن، قال تعالى : { نسوا الله فنسيهم } .

والذي أقوله هنا : مهْلاً عن الله مهلاً ، لمن ملك السموات والأرض ؟ ومن المالك للعباد ؟ .

ومن الذي يقول وقوله الحق : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } .. ومن الذي يقول : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي لا يؤمر ولا يُنهى .

لقد أمهل الله العصاة حتى ظن المغرورون بالله أن إمهال الله إهمال .
إن الناظر في العالم كله اليوم يرى أن المالك عز وجل عُزل عن ملكه، لكن هل تخلى هو إقراراً بهذا العزل ؟!.

إن الكافر والمنافق عن فهم هذا الكلام بمعزل، أما المؤمن فيعلم معنى قوله تعالى : { ويمكرون ويمكر الله } وقوله تعالى : { إنهم يكيدون كيداً وأكيدُ كيداً . فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } وقوله تعالى : { أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون } وقوله تعالى : { وأملي لهم إن كيدي متين } وقوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذب مهين } .

وآيات في القرآن كثيرة تبيّن اغترار الطغاة الفجار بالملك الجبار، ولقد خرجوا من الدنيا على هذه الآية {ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانية} و {رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } والأتباع جاء الخبر عنهم في قوله تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول . وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً } .

ولما كان الكلام هنا عن العراق الذي يحكم بالطاغوت ، ويشيد القباب على قبور الأموات للعبادة ويكفر بالحي الذي لا يموت، فَنُذَكِّر العراقيين ونحذرهم بأس الله ونقمته زيادة على ما تكبّدوا .

اعلموا أنتم وأمثالكم من العرب أنه لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي أوحى الله إلى أرميا أن ذكِّر قومك نعمي، وعَرّفهم أحداثهم فقام أرميا فيهم فخطب خطبة طويلة بليغة بيّن فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن الله عز وجل : ( وإني أحلف بعزتي لأقيضن لكم فتنة يتحيّر فيها الحكيم . ولأسلّطنّ عليكم جباراً قاسياً أُلْبِسُه الهيبة وأنزع من قلبه الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ) .
فسلّط الله عليهم بختنصر فدخل بيت المقدس، ووطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس ) فهذه من عقوبات المخالفات في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

تذكروا يا أهل العراق وأمثالكم من جميع دول العرب المدّعية الإسلام قولاً النابذة لأحكامه عملاً، تذكّروا التتار وأخذهم بغداد وقد قال تعالى : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له ومالهم من دونه من وال} صَدّر ابن كثير كلامه في دخول التتار بغداد بهذه الآية المتقدمة وبقوله تعالى : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } وذكر أخذ التتار بغداد فقال : في سنة ستمائة وست وخمسين أخذ التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة وقد قال تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه وال } .

أحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتُضحكه وكانت من جملة حظاياه جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا مكتوب عليه: ( إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم ) ! .

وكان قَدِمَ هلا كوخان رئيس التتار بجنوده كلها نحو مائتي ألف مقاتل إلى بغداد جنود كافرة فاجرة ظالمة غاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر .

ولما حاصر جيش التتار بغداد خرج ابن العلقمي الشيعي الخبيث وزير الخليفة إلى السلطان هلاكو خان فاجتمع به ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة فخرج الخليفة في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان فلما اقتربوا من منزل السلطان هلاكو خان حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين وأُنزل الباقون عن مراكبهم ونُهِبَتْ وقُتلوا عن آخرهم وأُحضر الخليفة بين يدي هلاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هَوْل ما رأى من الإهانة والجبروت ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجه نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما والخليفة تحت الحوْطة والمصادرة فأحضر من دار الخلافة شيئاً كثيراً من الذهب والحليّ والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة .

وقد أشار الوزير ابن العلقمي الشيعي ومن معه من الرافضة وغيرهم من المنافقين أشاروا على هلاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاماً أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك وحسّنوا له قتل الخليفة، فأمر هولاكو بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي، وبعد قتل الخليفة وسادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد في بلاده مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقِنيّ الوسخ وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون.

وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي .

وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة وقلة .

وابن العلقمي الوزير الشيعي هو الذي كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهّل عليهم ذلك، وذلك كله طمعاً منه أن يُزيل السّنّة بالكلية وأن يظهر البدعة الرافضية وأن يقيم خليفة من الفاطميين وأن يُبيد العلماء والمفتين، والله غالب على أمره ، وقدْ رَدّ الله كيده في نحره وأذلّه .

واكتسب إثم من قُتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء ، وأُسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل ، والله أعلم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

وقُتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات عدة شهور ببغداد وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون عِلْمَهم وعَلَمَهم بها وعليها فلم يُقْدره الله تعالى على ذلك بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيره من هذه الحادثة وأتبعه بولده.

ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر فتغيّرت صُوَرهم وأنْتنتْ من جيفهم البلد وتغيّر الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغيّر الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقِنيِّ والمقابر كأنهم الموتى إذا نُبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ورحل السلطان المسلّط هولاكوخان عن بغداد وفوَّض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر وإلى الوزير ابن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله بل أخذه أخذ عزيز مقتدر . انتهى باختصار .

انظروا تسليط الله هذا العدو الجبار على بغداد ، وأين بغداد ذلك الوقت من بغداد اليوم ؟ إن الفرق كما بين الإيمان والكفر والسماء والأرض والليل والنهار.

واعلموا أنكم لو نُصرتم على عدوكم فغاية ما هناك إدالة ظلمة على ظلمة وغايتكم في التمكين والمهلة أن تزدادوا إثماً، فلا نجاة إلا بالرجوع لمن أزمة الأمور كلها بيديه .

واعلموا أنه لَوْ نُشِرَ اليوم الحجاج بن يوسف من قبره فلن يخطبكم بلسانه بل يدع الكلام لِسيفه، فالحذر من الله { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } .

ماذا أعددتم يا أهل العراق لمثل هذه الشدائد المحيطة بكم ليدفع الله عنكم وينصركم على عدوكم ؟ .

هل كفرتم بالطاغوت وحكّمتم الشريعة بالدقيق والجليل ؟ هل هدمتم قباب القبور التي تُعبد من دون الله بالذبح والنذر والدعاء وأخلصتم العبادة لله بتخلصكم من الشرك ؟ ، هل حجبتم النساء إكراماً لهن وحفظاً لأعراضهن كما جاءت بذلك الشريعة ؟ ، هل حرمتم الخمر والدخان ومنعتم شربها ؟ ، هل حطّمتم التماثيل وطمستم الصور ؟ ، هل حرمتم الغناء وكسّرتم المذياع والتلفاز والدش والفديو ونحوها من أدوات إبليس ؟ ، وهل اقتصرتم في العلم على الكتاب والسنة ولم تجعلوا ذلك حِرْفة لكسب الدنيا ؟ وهل أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ؟ ومنكرات في دياركم كثيرة يطول عدّها ويصعب حصرها .

هذا هو الوسيلة لدفع الأعداء واسْتجلاب النصر عليهم لأن كل شرٍّ في العالَم سببه الذنوب، وما نزل بلاء إلا بذنب ولارُفع إلا بتوبة.

ولقد كتبت مذكّرتين في قضية فلسطين(1) وكان كلامي فيهما مثل ما في هذه المذكرة، وتخصيص فلسطين والعراق بذلك لاقتضاء الحال من تسليط الأعداء عليهما بالمحاربة وإلا فالمراد جميع دول العرب بلا استثناء لأن البلاء عَمّ وطم .

واعلموا أنه كما قال بعض السلف : ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لِكبْر في نفسه، فأهل الكبر لا يروق لهم ولا يعجبهم هذا الكلام وإنما هم كما قال تعالى عن أمثالهم : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لايؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } .

يُقال للمستكبر : أما علمت أن الكون كله لله وأن تدبيره بيده وأن مرجع الخلق إليه فما ظنك به وأنت معرض عنه معادٍ له ولدينه { أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون } { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} { لايستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } .

ويُقال للمستكبر : الطرق كلها مسدودة إلا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعمل ما شئت فلك أياماً معدودة وأنفاساً محدودة، بعد ذلك رجوع الآبق إلى سيده.

{ فما ظنكم برب العالمين } أتفيدك { ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله } عندما يصرعك الموت ، اتنفعك ذلك الوقت : { ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً . لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } .

التوبة التوبة لاسْتدفاع البلاء واسْتجلاب النصر والنعماء وإلا فالأبواب مغلقة والطرق مسدودة .

لقد امتلأت الأرض من السياسات الطاغوتية وانقطعت الصلة بالله (ومن تعلق شيئاً وُكِل إليه)(1) وعُوقب من يدّعون الإسلام دعوى بلا برهان بمعنى قوله تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) أي يُخوّفكم بأوليائه ويُعظمهم في صدوركم، لقد أصبح هذا المعنى واضحاً كالشمس :

فنفسك لُمْ ولا تلم المطايا ! .

إن داء دول العرب المدّعية للإسلام معلوم ودوائها معلوم أيضاً لكنها تأبى طلب العافية والشفاء . { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } .
أما بقية المسلمين في العراق وغيره فالمطلوب منهم الفقه في دينهم وأن يُحققوا معنى قوله تعالى عن الطاغوت : { وقد أُمروا أن يكفروا به } ويتحققوا أن ما يفعل عند القبور في أمصار العرب اليوم من الدعاء والنذر والذبح وطلب الحاجات وتفريج الكربات أنه الشرك الأكبر الموجب للخلود في جهنم وقد بيّن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدّس الله روحه التوحيد والشرك في مؤلفاته بجلاء.

لقد أصبحت السياسات الطاغوتية نِداً لرب العالمين واشْتُرِط على الدين إنْ وُجد أن يكون تابعاً ذليلاً مبعداً طريداً لا كلمة له تعمل عملها إلا مالا يُضاد الأنداد، ولا يُغضب الأسياد .

مهلاً عن الله مهلاً، الويل لسكان الأرض من ساكن السماء، أبالله تغترون أم على الله تجترؤون ؟ { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } وهل عبادة الجليل طقوس معزولة عن واقع العباد ومهام أمورهم ؟ وهل ترضى حكام الأرض بضرب اسمهم على السكة وذكر أسمائهم على المنابر والأمر النافذ لغيرهم ؟ .

وماذا يُؤمّل ويرجو العبد الآبق من سيده حين يلقاه ؟ .

ولقد كتبت كلام الحسن البصري رحمه الله في مذكرة (نصيحة وذكرى) يحسن نقله هنا والتذكير بكلام هذا العالِم الرباني، وإذا كان قال هذا الكلام على تلك الأحوال الشريفة مع أن الذي حصل من الرماة يوم أحد بالنسبة لما نحن فيه مخالفة طفيفة، فكيف تكون حالنا اليوم مع عظمائنا المخيفة ؟ .

قال رحمه الله في مخالفة الرماة يوم أحد وما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم وسادات الأولياء معه عند قوله تعالى : { ولقد عفا الله عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } قال : كيف عفا عنهم وقد قُتِل منهم سبعون وقُتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسِرت رباعيته وشُجَّ في وجهه، قال : ثم يقول قال عز وجل : ( قد عفوْت عنكم إذْ عصيْتموني ألاّ أكون أستأصلتكم ) ثم يقول الحسن : (هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، غِضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نُهوا عن شيء فصنعوه، فوالله ما تُركوا حتى غُمّوا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم من يتجرأ على كل كبيرة ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه ويزعم أن لا بأس عليه، فسوف يعلم ) إنتهى .

وأين الحسن وما نحن فيه اليوم ؟ .

وحتى يعلم الجميع عظم الجناية والمخالفة والبُعد عن الله وعن تحكيم شرعه، فيقال : لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لم يكن شغله الشاغل قريش رغم عداوتهم له ولأصحابه ولا اليهود أيضاً وهم بجواره بل كان أعظم همّه إقامة الدين في أصحابه ومحيطه الذي بين يديه لعلمه صلى الله عليه وسلم أن ربه عز وجل هو المالك لأعدائه وهو المحرّك لهم وأن نواصيهم بيده وأنه يكفّهم عمن يشاء ويسلّطهم على من يشاء .

وليس المعنى أنه مهمل لشأن أعدائه إنما المعنى أنهم ليسوا أكبر همّه وإنما أكبر همّه أن يُطاع مُرسِله سبحانه ولا يُعصى، ولذلك من حين وصل إلى المدينة لم يفتر عن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أمره الله عز وجل، وإذا أراد غزو قوم لا يقيم الدنيا ولا يقعدها، وقد لا يعلم عن وِجِهته والقوم الذي يريد غزوهم إلا القليل من أصحابه، لكن الهمّ الأكبر هو استقامته صلى الله عليه وسلم بنفسه على طاعة ربه وتقويمه للناس في ظعنه وإقامته وفي جميع أحواله، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنهم وهو صلى الله عليه وسلم أمر الأمة باتباعه واتباع أصحابه.

ولقد فَقِه الصحابة رضي الله عنهم ما أُريد منهم فكانوا في ذلك في الذروة والقمة لم يكن جُلّ همّهم الأعداء بل كانوا يخافون ويحاذرون مخالفة مَنْ نواصي أعدائهم بيده، ولذلك كان خوف عمر رضي الله عنه من معاصي جيشه أعظم من خوفه العدو .

وكان يقول للصحابة : (لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء).

ومن وصيته التي كتبها لسعد بن أبي وقاص ومن معه من الأجناد : (آمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ) فهذا الخليفة الراشد رضي الله عنه كان خوفه الأكبر أن يُعصى الله لأن تسليط الأعداء وتغلبهم يجيء من ثغور المعاصي، ولذلك دخل خالد وجيش المشركين يوم أحد من ثغر الرماة لما غادروه.

ويقول عمر رضي الله عنه في وصيته : ( وإنما ينصر الله المسلمون بمعصية عدوهم لله ) تأمل هذا وانظر حال العرب اليوم وكيف اجتمعوا مع الكفار في الإيمان بالطاغوت { وقد أمروا أن يكفروا به } وتولي الكفار { ومن يتوله منكم فإنه منهم } ومعاونتهم على المسلمين فكيف ينصرون بمعصية أعدائهم وهم قد شاركوهم فيها ؟ .

ثم قال عمر : ( ولوْلا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدّتنا كعدّتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة ) .

انظر عدم مبالاة عمر بعدد العدو وعدّته وتأمل بأي شيء كان اهتمامه، مع أن العدو أكثر عدداً وأقوى عُدّة .

ثم قال رضي الله عنه : ( وإلا نُنصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا ) هذا كالبيان والشرح لما قبله وهو واضح، فأين من يدّعون الإسلام من هذه الكنوز؟ ! وكأنهم يقولون : ( إن لم نغلبهم بقوتنا لا ننصر عليهم بفضلنا ) ، ولذلك ضيّعوا فضلهم الذي هو دينهم .

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد

[كتبه/ عبد الكريم بن صالح الحميد - 27 رجب 1423هـ]

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالكريم الحميد
  • كتب ورسائل
  • بيانات ورسائل
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية