صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ضمن جولة في صحيح مسلم :
الحياء أنواعه وبعض مباحثه

عبدالله بن حمود الفريح
@Dr_Alferaih


الحمد لله الذي أمدنا بكثير من النعم والعطايا , وردَّ عنا كثيراً من النقم والخزايا , أحمده حمداً يليق بجلاله , وأحتاج بعد أن أحمده إلى أن أحمده تارة بعد تارة , وأراني عاجزاً عن تمام الشكر والحمد والثناء فليس لي إلا أن أتبرأ من حولي وقوتي إلى حوله وقوته سبحانه فأقول : لا حول لي ولا قوة إلا بك يا الله , فارزقني شكراً وحمداً تامين , كما رزقتني نعمةً ومنَّةً تامتين - يا إلهي وقارئ كلماتي هذه - ثم الصلاة والسلام على خير الشاكرين الحامدين , الذي أوتي خلقاً عظيماً فدعا الناس , ومما دعا إليه خلق الحياء الذي به ينال العبد كل خير فهو خلق لا يأتي أبداً إلا بخير كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم , ومن دونه يفقد العبد كل خير , يقول ابن القيم رحمه الله " فمن لا حياء له ليس معه من الإنسانية إلا اللحم و الدم و صورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء "
وكماله حينما يكون حياءً من الله تعالى فبه يكون كل حياء , ويتفاوت الناس فيه على مراتب شتى , ولكم شكونا في زماننا من غياب هذا الخلق العظيم , في الأسواق , والأعراس , وفي العلاقات الأسرية بين الآباء والأبناء , و بين الأخوة , والأقارب والأصدقاء , وفي محاضن التعليم بين الطلاب , بل ومع الأسف حتى بين بعض المربين للأجيال إن سمي مربياً تجاوزاً , حتى نشأ ناشئ الفتيان فينا على ذاك , وتباعاً لما سبق من الموضوعات التي هي نتاج جولة في صحيح مسلم في التوضيح والبيان , اخترت هذه الحديث لأتكلم عليه على نسق ما سبقه من طرح , فالله اسأل أن يرزقني وإياك تمام الحياء ومنه لكل خير فإليك أخي المبارك هذا الحديث مع شيء من مباحث الحياء .
 
عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنه  عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً. فَقَالَ عِمْرَانُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟.
وفي رواية لمسلم : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» قَالَ أَوْ قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»
 

أولاً: تخريج الحديث:

الحديث أخرجه مسلم، في " كتاب الإيمان " " باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان "حديث (37)، و أخرجه البخاري في "كتاب الأدب" "باب الحياء"، حديث (6117).
و أما رواية "الحياء خير كله" أو قال "الحياء كله خير" فانفرد بها مسلم عن البخاري في نفس الباب والكتاب السابقين ، و أخرجها أبو داود في "كتاب الأدب" "باب في الحياء" حديث (4796).

ثانياً: شرح ألفاظ الحديث:

( بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ ): بشير بضم الباء أحد كبار التابعين و فضلائهم.
( الْحِكْمَةِ ) : هي في الأصل إصابة الحق عن طريق النظر الثاقب و العلم.
( أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً ) : أي أن الحياء منه ما يحمل صاحبه على أن يوقر غيره، و يتوقر هو في نفسه، و منه ما يحمل على أن يسكن عن كثير من المنهيات و المكروهات و الأشياء التي لا تليق بذي المروءة.

ثالثاً: من فوائد الحديث:

الفائدة الأولى : الحديث دليل على على فضل الحياء و أنه محمود على كل حال و هذا الحياء الشرعي حيث قال النبي صلى الله عليه و سلم (( الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ )) و (( الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ )). وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الحياء من الإيمان ))
فإن قيل: هناك من الحياء ما يمنع صاحبه من قول الحق أو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فكيف نجمع بينه و بين كون الحياء لا يأتي إلا بخير و أنه خير كله؟
والجواب: أن هذا الحياء ليس هو الحياء الشرعي الذي هو خير كله، بل هو خجل و خور و عجز و مهانة و سمي حياءً مجازا و تشبيها لأنه يشترك مع الحياء الشرعي في معنى الانكسار و الانقباض وتعارف عند الناس أنه حياءً لكنه ليس حياءً شرعياً و إن سمي حياءً فهو حياء مذموم ليس مقصوداً في الحديث .

الفائدة الثانية: اختلف في سبب إنكار عمران بن حصين - رضي الله عنه - و غضبه على بشير بن كعب حينما قال له: " إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً " اختلف فيه على عدة أقوال:
* فقيل: لأن بُشيراً قال " أَنَّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً " و (من) للتبعيض فيفهم منه أن من الحياء ما ينافي الوقار و السكينة و لذلك أنكر عليه، و يؤيده رواية مسلم الأخرى "فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً لله، و منه ضَعْفٌ فغضب عمران".
* وقيل: إنما غضب لأن بشيراً قال ذلك في معرض من يعارض كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام غيره، و يؤيده آخر الحديث حيث قال عمران " أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟".
* و قيل: إنما غضب لأنه خاف أن يخلط السنة بغيرها فسد ذريعة ذلك بالإنكار عليه.

الفائدة الثالثة:
من مباحث الحياء أيضاً ما يلي:
- تعريف الحياء .
الحياء هو تغير و انكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وفي الشرع: خُلُقٌ يبعث على اجتناب القبيح و يمنع من التقصير في حق ذي الحق ، هكذا عرفه ابن حجر في الفتح [ انظر الفتح "كتاب الإيمان" "باب أمور الإيمان" حديث (9)] ، و قيل في الحياء تعريفات أخرى غير هذا.
- للحياء نوعان :
حياء غريزي ، و حياء مكتسب .
النوع الأول : الحياء الغريزي : وهو الذي يكون خِلْقة و جبلَّة و هذا النوع ليس مقصودا في حديث الباب و لكنه يعين على المكتسب فهو سبب في الكف عن القبائح .
 والنوع الثاني :
الحياء المكتسب : وهو المقصود لأنه هو الذي يكون معه نية تبعث صاحبه على فعل الطاعة و تحجزه عن فعل المعصية، فاستعمال الحياء على وفق الشرع يحتاج إلى نية وهذا يكون في المكتسب، و قد جمع للنبي صلى الله عليه و سلم النوعان من الحياء فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها، و كان في المكتسب المثل الأعلى في البشرية صلى الله عليه و سلم.

- الحياء و الاستحياء من صفات الله تعالى

و هي صفة خبرية ثابتة بالكتاب و السنة و (الحيي) من أسماء الله جل و علا.
و دليل من الكتاب: قوله تعالى:{ إنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْربَ مَثَلاً مَّا بَعوضَةً فمَا فوْقَهَا} ([1])و قوله: {وَ الله لاَ يَسْتَحيي مِنَ الحَق}[2].
و من السنة: حديث أبي واقد- رضي الله عنه - في الصحيحين و فيه: (( و أما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه، و أما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه )).
و حديث سلمان- رضي الله عنه - مرفوعاً (( إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين ))  رواه أبو داود و الترمذي.([3] )
و حياء الرب جل و علا ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير و انكسار بل هو حياء يليق بجلاله يكون فيه ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته و كمال جوده و كرمه و عظيم عفوه فلا يفضح عبده إذا عصاه و جاهر بذلك بل يستره استحياء من هتك ستره، قال ابن القيم في نونيته:([4])

وهو الحيي فليس يفضح عبـده *** عند التجاهر منه بالعصيـان
لكـنه يلقي علـيه ستــره *** فهو الستير و صاحب الغفران([5]).


- أعظم صور الحياء  الحياء من الله

فمن استخف بالأوامر و النواهي الشرعية دل ذلك على عدم إجلاله لربه و إعظامه و عدم حيائه منه جل و علا، و أدل دليل على ذهاب الحياء من الله عند بعض الناس أن تجده ضابطاً لسلوكه و أقواله و أفعاله عند من يحترمهم من البشر، ثم هو إذا خلا منهم و لم يطلع عليه إلا رب البشر وجدته يتصرف بلا قيود، و عن سعيد بن يزيد الأزدي- رضي الله عنه - أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم: (( أوصني قال: أوصيك أن تستحي من الله عز وجل كما تستحي من الرجل الصالح))([6])
قال المناوي- رحمه الله - : "(أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) قال ابن جرير: هذا أبلغ موعظة و أبين دلالة بأوجز إيجاز، و أوضح بيان، إذ لا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح عن أعين أهل الصلاح، و ذوي الهيئات و الفضل أن يراه وهو فاعله، و الله مطلع على جميع أفعال خلقه، فالعبد لإذا استحى من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه تجنب جميع المعاصي الظاهرة و الباطنة، فيالها من وصية ما أبلغها و موعظة ما أجمعها"([7]).
و لقد كان الرعيل الأول أشد الناس حياءً من الله تعالى حتى تعدى حياؤهم لشيء لابد لهم منه ففي صحيح البخاري سئل ابن عباس عن قول الله تعالى:{ أَلا إِنَّهُمْ يثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}( [8])
 فقال:" أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء و أن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم" و يفضوا إلى السماء أي ليس هناك ما يحجبهم من سقف و نحوه.
و كان أبو بكر الصديق يقول:"استحيوا من الله فإني أذهب إلى الغائط فأظل متقنعا بثوبي حياءً من ربي".
و كان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم لا يقيم صلبه حياء من الله عز وجل.([9])

_ المعاصي تذهب الحياء
قال ابن القيم- رحمه الله - :" من عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير، و ذهابه ذهاب الخير أجمعه فقد جاء في الحديث الصحيح " الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ ""([10]).

- الحياء أصل كل شيء

قال ابن القيم- رحمه الله - : " فمن لا حياء له ليس معه من الإنسانية إلا اللحم و الدم و صورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، و لولا هذا الخلق لم يقر الضيف، ولم يوف بالوعد، و لم تؤد الأمانة، و لم تقض لأحد حاجة، و لا تحرى الرجل الجميل فآثره، و لا القبيح فتجنبه، و لا ستر له عورة، و لا امتنع من فاحشة و كثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئاً من الأمور المفترضة عليه . "([11])
 

- من أقوال السلف في الحياء
* تقدم فعل أبي بكر و أبي موسى رضي الله عنهما.
* قال عمر رضي الله عنه:"من قلَّ حياؤه قل ورعه، و من قلَّ ورعه مات قلبه".
* و قال ابن مسعود- رضي الله عنه - : " من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله ".
* و قال الحسن البصري- رحمه الله - : " الحياء و التكرم خصلتان من خصال الخير لم يكونا في عبد إلا رفعه الله بهما ".
و إلى الله تعالى نشكو ذهاب هذا الخلق في كثير من صور حياة الناس اليوم على مستوى الأفراد و المجتمعات، فالرجل يجلب القبائح لنفسه بسلوكه مع الخلق و في بيته فيعرض فيه ما يسلخ الحياء و يربي أبناءه على ذلك فيجلب لهم القنوات الهابطة و الأغاني الماجنة و الصور الخليعة و التعاليم المقيتة و لا تسل حينئذ عن حياء الأبناء نتيجة هذه التربية، و المرأة لا تبالي فيما فعلت فتخرج إلى الأسواق متطيبة و متجملة و بحجاب يحتاج إلى حجاب، و في قصور الأفراح بلباس عارٍ و إظهار المفاتن و قبائح لا تنبغي إلا للزوج، و في مخالظتها للرجال الأجانب و حديثها و رفع صوتها و نحو ذلك من الصور، و في الشبكات العنكبوتية صور يندى لها الجبين تدل على موت هذا الخلق العظيم عند الفتيات فرحم الله حالهن و أحسن عزاءهن ببعدهن عن حال أمهات المؤمنين و نساء الصحابة، فعن أم المؤمنين عائشة  - رضي الله عنها - قالت : " كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله و أبي و أضع ثوبي و أقول إنما هو زوجي و أبي فلما دفن عمر و الله ما دخلت إلا و مشدودة على ثيابي حياءً من عمر" ([12])
و في سنن أبي داود من حديث أبي أسيد الأنصاري عن أبيه- رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق ))  فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. قال الألباني: و بالجملة فالحديث حسن..([13])
نسأل الله أن يهب لنا و لأزواجنا و أبنائنا و جميع المسلمين حياءً يدفعنا للمحاسن و يدفع عنا القبائح.


مُسْتَلَّةٌ من شرح صحيح مسلم كتاب الإيمان للشيخ عبدالله حمود الفريح – الحدود الشمالية – رفحاء .
 
------------------------------------
[1] ) البقرة :26
[2] ) الأحزاب : 53
[3] ) [ انظر صحيح الجامع (1757)].
[4] ) (2/80)
[5] ) [ انظر كتاب صفات الله عز و جل الواردة في الكتاب و السنة لعلوي السقاف ص 147]
[6] ) رواه أحمد [في الزهد (46)] و البيهقي [في شعب الإيمان (6/145)] و الطبراني [في المعجم الكبير (7738)] و صححه الألباني [في الصحيحة (741)].
[7] ) [انظر فيض القدير (3/74)]
[8] ) ( هود : 5 )
[9] ) [انظر فتح الباري لأبي رجب (1/52)].
[10] ) [انظر مزيداً أيضا الداء و الدواء ص 131].
[11] ) ".[ انظر مفتاح دار السعادة (277)].
[12] ) رواه الحاكم في المستدركو صححه على شرط الشيخين،
[13] ) [انظر الصحيحة (2/537)]

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله الفريح
  • مقالات
  • كتب ورسائل
  • الصفحة الرئيسية