صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ضمن جولة في صحيح مسلم :
الكنز المفقود : القناعة في الرزق

عبدالله بن حمود الفريح
@Dr_Alferaih


الحمد لله الذي بيده كل شيء , حفظ لكل عبد رزقه وكتب له ذلك منذ نفخ الروح فيه , والصلاة والسلام على نبي الأمة الذي بعث قدوة للأمة يعلمهم بقوله وعمله صلى الله عليه وسلم , دلَّ الأمة على سبل تحقيق الفلاح , ولكن المعايير في تحقيق النجاح والفلاح عند الناس اليوم تختلف , ولربما وجدنا الكثرة الكاثرة يرون الفلاح هو جمع المال والكدح خلف حطام الدنيا , حتى وصل بالبعض أن يجمعه ولو من وجه غير مشروع , ومع ذا نجد كلٌّ من الناس يشتكي من قلة ذات اليد مع ما في يده من الخير , وأنا هنا لا أعني أولئك المساكين والفقراء الذين بالفعل لا يجدون ما يقاومون به متطلبات حياة اليوم , لا . وإنما أتعجب حينما أسمع الكثير يشتكي أيَّاً كان دخله ومرتبه فهو لا ينفك عن الشكوى , ولا غرابة في ذلك حينما تعلم - أيها المبارك - أن كثيراً من الناس يبحثون عن كنز ليس له نهاية فهم لن يشبعوا منه مهما حصلوا عليه , لأن الكنز في واقع كثير من الناس اليوم هو الكنز الحسي والحسي فقط , وهو المال وما يلحق به من مطامع الدنيا , وحصول الرضا بهذا الكنز مستحيل كما قال صلى الله عليه وسلم : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا " , ومع عدم حصول الرضا سيستمر العبد في كدح خلف هذا الكنز فهو لن يهدأ له بال , والحصيف هو من سعى في البحث عن ذلك الكنز المعنوي , الذي تحقق الرضا فيه واضح بل الفلاح فيه - كما سيأتي من خبر من لا ينطق عن الهوى - بل دعا صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده ذلك الكنز المعنوي , ذلك الكنز قيل فيه : القناعة كنز لا يفنى . فمن رزق القناعة صار في راحة مما أوتي ؛ لأن به يتحقق الفلاح , فالقلب به يهدأ , والنفس تنشرح , والعبد يكون قريبا من ربه جل وعلا ؛ لانصراف مطامع الدنيا عنه , أتركك أخي المبارك مع هذين الحديثين اقتبستهما من جولتنا في شرح صحيح الإمام مسلم رحمه الله :

69- عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ».
70- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : «اللّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً»

أولاً : تخريج الحديثين :

حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أخرجه مسلم في " كتاب الزكاة " " باب الكفاف والقناعة " حديث ( 1054) وانفرد به عن البخاري , وأخرجه الترمذي في " كتاب الزهد " " باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه " حديث ( 2348 ) , وأخرجه ابن ماجه في " كتاب الزهد " " باب القناعة " حديث ( 4138 )
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخرجه مسلم في نفس الباب السابق , وأخرجه البخاري في " كتاب الرقاق " " باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم " حديث ( 6460 ) وأخرجه الترمذي في " كتاب الزهد " " باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم " حديث ( 2361 ) وأخرجه ابن ماجه في " كتاب الزهد " " باب القناعة " حديث ( 4139 )

ثانياً : شرح ألفاظ الحديثين :

(( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ )) : أفلح من الفلاح : وهو البقاء والفوز والظفر . [ انظر النهاية مادة ( فلح ) ]
والفلاح هو اسم جامع لحصول كل مطلوب ومحبوب، والسلامة من كل مخوف مكروه وذلك إذا أسلم العبد أي دخل الإسلام الذي هو النهج القويم والصراط المستقيم .
(( كَفَافاً )) : الكفاف : هو ما يكف عن الحاجات ، ويدفع الضرورات والفاقات ، ولا يلحق بأهل الترفهات أي أهل الترف فهو أخذ ما يكفي بحيث لا يجعله محتاجاً ولا مضطراً وكذلك لايجعله مترفاً . [ انظر المفهم حديث ( 921) ]
(( وَقَنَّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ )) : قنعه من القناعة : وهي الرضا بالقسم ، وقال الراغب : هي الاجتزاء باليسير من الأغراض المحتاج إليها.
[ انظر المفردات للراغب ( 413)]
(( قُوتاً )) : القوت : هو ما يقوت ويكفي من العيش ، وهو بمعنى الكفاف ، فكأن النبي – صلى الله عليه وسلم – دعا أن يكون رزق آل محمد – صلى الله عليه وسلم – ما يقوتهم ويكفيهم بحيث لا يعرضهم لحاجة أو فاقة ولا إلى ترف وانبساط من الدنيا.

ثالثاً : فوائد الحديثين :

الفائدة الأولى : حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – فيه دلالة على عنوان الفلاح في الدنيا والأخرة وذلك ماجمع ثلاثة أمور : أولاها الإسلام فعليه مدار الفوز بالثواب والنجاة من العقاب، وثانيها حصول الرزق الذي يكفيه ويكف وجهه عن سؤال الخلق ، وثالثها أن يقنعه الله تعالى بهذا الكفاف لئلا تنشغل نفسه بملذات الدنيا عن إقباله على ربه فيقسوا قلبه ويظل كالذي يأكل ولايشبع لفقده للقناعة بما آتاه الله، فالذي أعطاه الله تعالى الإسلام سلك بقلبه طريق الهداية ولئلا ينشغل هذا القلب عن المقصود الأصلي في الحياة وهو تمام عبادة الله تعالى حق العبادة رزقه ما يكفيه من الدنيا وجعل في هذه الكفاية قناعة للنفس وغنى للقلب ليكون أكثر إقبالاً على ربه جل وعلا وليس الغنى عن كثرة ولكن الغنى غنى النفس .
قال ابن القيم – رحمه الله - : " يكمل غنى القلب بغنى آخر هو غنى النفس وآيته سلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة "
[ انظر تهذيب مدارج السالكين ( 4741)]
الفائدة الثانية : حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – فيه بيان زهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وتقلله من الدنيا حيث كان يدعو بأن يرزقه وأهله ما يقوتهم فقط لاكثرة في المال والمتاع وإنما الكفاف وهو البلغة التي تعين على المقصود الأصلي والإقبال على الآخرة .
الفائدة الثالثة : الحديثان فيهما دلالة على فضل القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى، ففي القناعة غنى للقلب و النفس التي إذا لم تقنع فلن تشبع .
- فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يضع قاعدة يبيَّن فيها أهمية القناعة فيقول : (( ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ))
- ويجعلها أحد أسس الفلاح في الحياة فيقول : (( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ومتعه الله بما آتاه ))
- ثم هو – صلى الله عليه وسلم – يدعو أن يرزقه الله ما يدل على ذلك فيقول : ((اللّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً ))
- والمتأمل لحياته- صلى الله عليه وسلم – يجد نماذج تطبيقية كثيرة تدل على خلق القناعة ؛ ففي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – (( تمر بالنبي ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيته نار ))
، وعند البخاري عن قتادة- رضي الله عنه – قال : (( فما أعلم النبي- صلى الله عليه وسلم – رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله ، ولا رأى شاة سميطاً بعينيه قط ))
وعند مسلم عن عائشة - رضي الله عنها –قالت : (( لقد مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم – وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين ))
وفي الصحيحين قالت - رضي الله عنها -: (( ما أكل آل محمد – صلى الله عليه وسلم – أكلتين في يوم إلا إحداهما تمرا ))
وعند البخاري قالت – رضي الله عنها وعن أبيها - (( كان فراش رسول الله من أدم وحشوة ليف ))
إلى غير ذلك من النماذج التي تدل على تقلله من الدنيا وأخذه بقدر الكفاف لأنه دعا (( اللّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً )) وهكذا كان الصحابة والسلف.
قال الغزالي- رحمه الله - : " كان محمد بن واسع يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويقول : من قنع بهذا ، لم يحتج إلى أحد "
[انظر الإحياء 3/239]
وهذا أبو حازم يكتب إليه بعض بني أمية يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه ، فكتب إليه : "قد رفعت حوائجي إلى مولاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت "
[ انظر الإحياء ( نفس المرجع السابق ) وانطر القناعة لابن السني ( 43)]
وقال الشافعي – رحمه الله - :-

رأيت القناعة رأس الغنى --- فصرت بأذيالها متمسك
فلا ذا يراني على بابه --- ولا ذا يراني به منهمك
فصرت غنياً بلا درهم --- أمر على الناس شبه الملك
 

[ انظر ديوان الشافعي ]


مُسْتَلَّةٌ من شرح صحيح مسلم كتاب الزكاة للشيخ عبدالله حمود الفريح –الحدود الشمالية– رفحاء



 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عبدالله الفريح
  • مقالات
  • كتب ورسائل
  • الصفحة الرئيسية