صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







معالم من سيرة الإمام مالك بن أنس (93-179هـ)

د.عبدالعزيز بن سعد الدغيثر

 
بسم الله الرحمن الرحيم


المذهب المالكي من المذاهب السنية المشهورة والمنتشرة في بلاد المغرب العربي بدوله المتعددة وجنوب مصر والسودان ومعظم البلاد الأفريقية، وأجزاء من ساحل الخليج العربي، وبعض الأسر في مكة والمدينة. وفي هذا المقال تعريف بإمام هذا المذهب، وأهم ما جعله قدوة لأتباعه، وما يميزه عن غيره من فقهاء ذلك العصر.
إذ من المعلوم أن المذهب المالكي ينسب إلى إمام دار الهجرة الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري.
مولد مالك على الأصح في سنة ثلاث وتسعين، عام موت أنس خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووفاته سنة 179هـ بالمدينة.
وطلب مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وقد حوى علم أهل الحجاز وخصوصا علماء المدينة، فقد تفقه على : نافع، وسعيد المقبري، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وابن المنكدر، والزهري، وعبد الله بن دينار.
وتأهل للفتيا، وجلس للإفادة، وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حي شاب طري، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور، وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد، وإلى أن مات.
ورد في فضله حديث مشهور ونصه:" يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة " رواه أحمد والترمذي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة لكنه ضعيف فيه ابن جريج، وأبو الزبير المكي، وهما مدلسان، وقد عنعناه (السلسلة الضعيفة للألباني برقم 4833).
وقد بلغت شهرته الآفاق، وانتشر علمه، وكثر أتباعه، وقد بحثت عن السمات النفسية والصفات الخلقية التي أهلت هذا العالم للإمامة في الدين، فوجدت أن أهمها ما يأتي.

السمة الأولى: رسوخه في العلم

قال ابن أبي عمر العدني: سمعت الشافعي يقول: مالك معلمي، وعنه أخذت العلم.
وقال الشافعي، يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم -يريد أبا حنيفة ومالكا- وما كان لصاحبكم أن يتكلم، وما كان لصاحبنا أن يسكت. فغضبت، وقلت: نشدتك الله من أعلم بالسنة، مالك أو صاحبكم? فقال: مالك، لكن صاحبنا أقيس. فقلت: نعم، ومالك أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه وبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبي حنيفة، ومن كان أعلم بالكتاب والسنة، كان أولى بالكلام.
وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم? -يعني أبا حنيفة ومالكا- قلت: على الإنصاف? قال: نعم. قلت: أنشدك بالله من أعلم بالقرآن? قال: صاحبكم، قلت: نعم. قلت: من أعلم بالسنة? قال: صاحبكم، قلت: فمن أعلم بأقاويل الصحابة والمتقدمين? قال: صاحبكم. قلت: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول على أي شيء يقيس؟
قال الذهبي: بل هما سواء في علم الكتاب، والأول: أعلم بالقياس، والثاني: أعلم بالسنة، وعنده علم جم من أقوال كثير من الصحابة، كما أن الأول أعلم بأقاويل علي، وابن مسعود، وطائفة ممن كان بالكوفة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عن الإمامين.
بل كان كبار العلماء يتفاخرون أنهم رووا عن مالك، فق قال الشافعي: قال محمد بن الحسن: أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسرا، وسمعت من لفظه أكثر من سبعمائة حديث، فكان محمد إذا حدث عن مالك امتلأ منزله، وإذا حدث عن غيره من الكوفيين، لم يجئه إلا اليسير.

السمة الثانية: مشورته لأهل العلم قبل التعليم

يلحظ أنه رحمه الله يستشير أشياخه قبل تصدره للفتوى، فقد قال مالك : ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
وعندما ألف أو مصنف في السنة، عرضه على علماء المدينة، فوافقوه عليه، فسماه الموطأ، لتواطئ علماء المدينة على ما فيه.

السمة الثالثة: تعبده لله تعالى بما تميل له نفسه

عبدالله العمري العابد أحد علماء المدينة المشهورين كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل. فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد. فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.
وهذا يوضح سعة مفهوم العبادة، وأما العبادات الظاهرة فقد كانت – بمفهوم ذلك الزمن – ليست ظاهرة للناس، فقد قال ابن المبارك: ما رأيت أحدا ارتفع مثل مالك، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة.
وهذا لا يعني أنه ليس له من عبادات النوافل نصيب ألبتة، فقد قال ابن وهب: قيل لأخت مالك: ما كان شغل مالك في بيته? قالت: المصحف, التلاوة.

السمة الرابعة: إعزازه للعلم

يلحظ أن في سيرة الإمام مالك – رحمه الله - عدة مواقف تدل على صيانته للعلم من الابتذال من الكبار والأمراء، وقد كان يربي طلابه على ذلك، فقد قال ابن وهب: ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه.
ومن أشهر المواقف في ذلك موقفه مع الخليفة العباسي المهدي، فقد قدم المهدي المدينة، فبعث إلى مالك، فأتاه، فقال لهارون وموسى: اسمعا منه فبعث إليه، فلم يجبهما، فأعلما المهدي، فكلمه فقال: يا أمير المؤمنين! العلم يؤتى أهله. فقال: صدق مالك، صيرا إليه. فلما صارا إليه، قال له مؤدبهما: اقرأ علينا. فقال: إن أهل المدينة يقرءون على العالم، كما يقرأ الصبيان على المعلم، فإذا أخطئوا، أفتاهم. فرجعوا إلى المهدي، فبعث إلى مالك، فكلمه، فقال: سمعت ابن شهاب يقول: جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال، وهم يا أمير المؤمنين: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة، وعروة، والقاسم، وسالم، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، ونافع، وعبد الرحمن بن هرمز، ومن بعدهم: أبو الزناد، وربيعة، ويحيى بن سعيد، وابن شهاب، كل هؤلاء يقرأ عليهم، ولا يقرءون. فقال: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه، فاقرءوا عليه، ففعلوا.
ومن ذلك أن هارون الرشيد سأل مالكا -وهو في منزله، ومعه بنوه- أن يقرأ عليهم. قال: ما قرأت على أحد منذ زمان، وإنما يقرأ علي. فقال: أخرج الناس حتى أقرأ أنا عليك. فقال: إذا منع العام لبعض الخاص، لم ينتفع الخاص. وأمر معن بن عيسى، فقرأ عليه.
وورد عن مالك، أنه قال: قدم هارون يريد الحج، ومعه يعقوب أبو يوسف، فأتى مالك أمير المؤمنين، فقربه، وأكرمه، فلما جلس، أقبل إليه أبو يوسف، فسأله عن مسألة، فلم يجبه، ثم عاد، فسأله فلم يجبه، ثم عاد, فسأله، فقال هارون: يا أبا عبد الله! هذا قاضينا يعقوب يسألك. قال: فأقبل عليه مالك، فقال: يا هذا! إذا رأيتني جلست لأهل الباطل فتعال، أجبك معهم.
وكان من تعظيمه للعلم أن يسلم على الخلفاء دون أن يذل نفسه، فقد روى ابن وهب عن مالك، قال: دخلت على المنصور، وكان يدخل عليه الهاشميون، فيقبلون يده ورجله، وعصمني الله من ذلك.
ومن مظاهر تعظيمه للعلم، أنه يتطيب ويلبس أفخر لباس قبل التدريس، فقد قال قتيبة: كنا إذا دخلنا على مالك، خرج إلينا مزينا، مكحلا، مطيبا، قد لبس من أحسن ثيابه، وتصدر الحلقة، ودعا بالمراوح، فأعطى لكل منا مروحة.
وقال محمد بن الضحاك الحزامي: كان مالك نقي الثوب، رقيقه، يكثر اختلاف اللبوس.
وقال خالد بن خداش: رأيت على مالك طيلسانا وثيابا مروية جيادا.
وقال أشهب: كان إذا اكتحل للضرورة جلس في بيته.
وقال مصعب: كان يلبس الثياب العدنية ويتطيب.
وعن بشر بن الحارث، قال: دخلت على مالك، فرأيت عليه طيلسانا يساوي خمسمائة، وقد وقع جناحاه على عينيه أشبه شيء بالملوك.
وكان يبث ذلك في طلابه، فقد روى ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: حق على من طلب العلم أن يكون له وقار، وسكينة، وخشية، والعلم حسن لمن رزق خيره، وهو قسم من الله -تعالى- فلا تمكن الناس من نفسك، فإن من سعادة المرء أن يوفق للخير، وإن من شقوة المرء أن لا يزال يخطئ، وذل وإهانة للعلم أن يتكلم الرجل بالعلم عند من لا يطيعه.
ومن مظاهر ذلك أنه ينتقي من الشيوخ من يحترم العلم، فقد نقل عن ابن القاسم، قال: قيل لمالك: لم لم تأخذ عن عمرو بن دينار? قال: أتيته، فوجدته يأخذون عنه قياما، فأجللت حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن آخذه قائما.
وكان يحث طلابه على الانتقاء من الشيوخ، فعن مالك، قال: لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه، وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل، إذا كان لا يحفظ ما يحدث به.

السمة الخامسة: تربيته طلابه على عدم الخوض فيما لا يحسنون

كان رحمه الله يكثر من قول لا أدي، وصح عنه أنه قال: جنة العالم: "لا أدري"، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله.
وقال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ: لا أدري.
وعن خالد بن خداش، قال: قدمت على مالك بأربعين مسألة، فما أجابني منها إلا في خمس مسائل.
وعن ابن وهب عن مالك، سمع عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: "لا أدري"، حتى يكون ذلك أصلا يفزعون إليه.
ويظهر لي في تفسير ذلك أحد ثلاثة أمور:
1- أنه يعلم في هذه المسائل الكثير، لكنه لم يترجح له فيها شيء،
2- وربما أنها من المسائل التقديرية التي لم تقع، وقد كان ينهى عن الفقه الافتراضي، وعن مسائل الأغلوطات.
3- أنه وجد غلوا من الطلبة بحيث يرحل له طالب من الأندلس لأجل سؤاله عن مسائل، فأراد أن يؤدب نفسه، ويربي هذا الطالب بقوله: لا أدري.

السمة السادسة: مراعاته للخلاف

روى أحد طلابه عنه أنه قال: قال لي المهدي: ضع يا أبا عبد الله كتابا أحمل الأمة عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع -وأشرت إلى المغرب- فقد كفيته، وأما الشام، ففيهم من قد علمت -يعني: الأوزاعي- وأما العراق, فهم أهل العراق.
ووحدث له قصه تدل على عظيم ورعه، ومراعاته لخلاف غيره من أهل العلم في الأمصار، فقد ذكر ابن سعد: حدثنا محمد بن عمر، سمعت بن عمر مالكا يقول: لما حج المنصور، دعاني، فدخلت عليه، فحادثته، وسألني، فأجبته، فقال: عزمت أن آمر بكتبك هذه -يعني: "الموطأ"- فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم. قلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. فقال: لعمري، لو طاوعتني لأمرت بذلك.
وقال الزبير بن بكار: حدثنا ابن مسكين، ومحمد بن مسلمة، قالا: سمعنا مالكا يذكر دخوله على المنصور، وقوله في انتساخ كتبه، وحمل الناس عليها، فقلت: قد رسخ في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به، ورد العامة عن مثل هذا عسير.
وعن مالك قال: شاورني هارون الرشيد في ثلاثة: في أن يعلق "الموطأ" في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، وفي أن ينقض منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويجعله من ذهب وفضة وجوهر، وفي أن يقدم نافعا إماما في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم. فقلت: أما تعليق "الموطأ"، فإن الصحابة اختلفوا في الفروع، وتفرقوا، وكل عند نفسه مصيب، وأما نقض المنبر، فلا أرى أن يحرم الناس أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما تقدمتك نافعا، فإنه إمام في القراءة، لا يؤمن أن تبدر منه بادرة في المحراب، فتحفظ عليه. فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله.
ومن اهتمامه بمراعاة الخلاف، عدم اعتباره لكلام المخالفين له بالباطل، فقد قال مطرف بن عبد الله: قال لي مالك: ما يقول الناس في? قلت: أما الصديق فيثني، وأما العدو فيقع. فقال: ما زال الناس كذلك، ولكن نعوذ بالله من تتابع الألسنة كلها.
وقد كان ينهى طلابه ومحبيه عن التقليد، ومن أقواله الشهيرة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم.

السمة السابعة: صبره على الابتلاء وظلم الولاة

كان ابتلاؤه بسبب فتوى، فرح بها منافسوه فوشوا بها إلى أمير المدينة، فقد قال الواقدي: لما دعي مالك، وشوور، وسمع منه، وقبل قوله، حسد، وبغوه بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة، سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره: أنه لا يجوز عنده. قال: فغضب جعفر، فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رفع إليه عنه، فأمر بتجريده، وضربه بالسياط، وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمر عظيم، فوالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو.
مالكا لما ضرب، حلق، وحمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك. فقال: ألا من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا مالك بن أنس، أقول. طلاق المكره ليس بشيء. فبلغ ذلك جعفر بن سليمان الأمير، فقال: أدركوه، أنزلوه.
وقد نهى أبو جعفر مالكا عن رواية حديث: "ليس على مستكره طلاق". ثم دس إليه من يسأله، فحدثه به على رءوس الناس، فضربه بالسياط.
قال الذهبي: هذا ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير: "ومن يرد الله به خيرا يصيب منه". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "كل قضاء المؤمن خير له" 2. وقال الله -تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} [محمد: 31] . وأنزل -تعالى- في وقعة أحد قوله: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165] . وقال: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] . فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ واستغفر، ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له.

السمة الثامنة: عنايته بمقاصد الشريعة وجوهرها

يلحظ في فقه الإمام مالك – رحمه الله – أنه يعظم نصوص الوحيين، ويأخذ بالإجماع والقياس، ويقدر أقوال علماء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشد المذاهب في سد الذرائع وحسم مادة الحيل، ومراعاة المقاصد. ولذا كان الإمام ابن تيمية – رحمه الله – يثني كثيرا على اختياراته في باب المعاملات لكونها مبنية على معقولية المعنى.

السمة التاسعة: تعظيمه للسنن وشدته في رد البدع وأهلها

كان ينهى عن الجدال في الدين، فقد قال ابن وهب، سمعت مالكا يقول: ليس هذا الجدل من الدين بشيء.
وقال أبو ثور سمعت الشافعي يقول: كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ديني، وأما أنت، فشاك, اذهب إلى شاك مثلك، فخاصمه.
وروى جعفر بن عبد الله، قال: كنا عند مالك فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] ، كيف استوى? فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده، حتى علاه الرحضاء1، ثم رفع رأسه، ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة. وأمر به فأخرج.
وانصرف مالك يوما، فلحقه رجل يقال له: أبو الجويرية، متهم بالإرجاء، فقال: اسمع مني. قال: احذر أن أشهد عليك. قال: والله ما أريد إلا الحق، فإن كان صوابا، فقل به، أو فتكلم قال: فإن غلبتني؟ قال: اتبعني. قال: فإن غلبتك؟ قال: اتبعتك. قال: فإن جاء رجل، فكلمنا، فغلبنا? قال: اتبعناه، فقال مالك: يا هذا، إن الله بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- بدين واحد، وأراك تتنقل.
وكان يرى تعزير المبتدعة بترك الصلاة خلفهم، فقد قال أصبغ: حدثنا ابن وهب عن مالك -وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع القدرية وغيرهم- فقال: لا أرى أن يصلى خلفهم. قيل: فالجمعة? قال: إن الجمعة فريضة، وقد يذكر عن الرجل الشيء وليس هو عليه. فقيل له: أرأيت إن استيقنت، أو بلغني من أثق به، أليس لا أصلي الجمعة خلفه? قال: إن استيقنت. كأنه يقول: إن لم يستيقن ذلك، فهو في سعة من الصلاة خلفه.

وبعد، فهذه نبذ عن هذا الإمام الجليل، فرحمه الله ونفعنا بما ترك من علم، ولعل الله أن ييسر مقالا آخر عن معالم مهمه في مذهبه.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.عبدالعزيز الدغيثر
  • بحوث علمية
  • مقالات حديثية
  • مقالات فقهية
  • مقالات لغوية
  • مقالات عقدية
  • مقالات أخرى
  • الصفحة الرئيسية