صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







التسامح الفقهي
جمادى الأولى1432هـ

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


تمتاز الحوارات الشرعية والفكرية على شبكات الانترنت بأن المتابع لها يستطيع أن يعرف الحقّ بكافة أطرافه، خاصة حين يكون الحوار جاداً ومن شخصيات تملك قدراً جيداً من العلم بالموضوع، فإن القراءة لعدد من المتحاورين يجعل القارئ يتمكن من معرفة أطراف الموضوع ولو كان خليّ الذهن عنه قبل ذلك، كما يستطيع أن يعرف كافة النصوص والسنن والقواعد في مادّة النقاش بما يضيء له الطريق الصحيح، فهذه قاعدة منهجية من الرائع حقاً أن يضعها العاقل نصب عينيه.

ومن خلال هذه القاعدة المنهجية يدرك المتابع قضية "تداخل الموضوعات" و "اختلاط الملفّات" في كثير من القضايا التي يجري  فيها الحوار، فبعض المتحاورين لا يستحضر جوانب أخرى من الموضوع يكون غافلاً عنها فيضع كلّ براهينه واعتراضاته على اعتبار أن الموضوع يتجه في مسار واحد، بينما حقيقة الأمر أن ثمّ مسارات عدة، وعلى ملفّات مختلفة، فتمييز هذه الملفات وإبراز محتوياتها نافع جداً في استيعاب مادة الحوار.

أكتب هذا كلّه لأجل موضوع "التسامح الفقهي" فهو من الموضوعات التي يتتابع الحوار والجدل فيها، فتتبع كلام جميع الأطراف مهم لمعرفة الحق كاملاً، وحين تختلط فيه الموضوعات فمن الضروري أن تفرد الموضوعات وتفصّل لتتضح الصورة كاملة.


ومن خلال متابعة لمثل هذه الحوارات يمكن لي أن أفصّلها إلى الملفّات التالية:

الملفّ الأول: أخلاقيات وآداب الحوار،
كالأدب مع المخالف وتجنّب الإساءة اللفظية الموجّهة إليه، والعدل في أي أحكام يصدرها الشخص ضدّ أي أحد، وترك التنقيب عن الخفايا والمقاصد التي لا يعلمه إلا الله، وغير ذلك مما يدخل  كلّه في قيمة "الخلق" الذي أعلت الشريعة مقامه لمرتبة الأصول الكليّة التي يجب التواصي والصبر عليها، وهي وصية الله لعباده (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) وهو خلق محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا بذيئاً ولا طعّاناً ولا لعّاناً، ولطالما انتهكت ساحة هذا الخلق العظيم وحصل فيها من التجاوزات ما يصل كثير منه إلى المنكرات التي يجب الاحتساب عليها، وقد تقع هذه الإساءات في قضايا فقهية اجتهادية قابلة للنظر والخلاف، وهذا يتطلّب ضرورة أن يمرّن الإنسان نفسه ويعوّدها ويأطرها على ضبط النفس وكظم الغيظ والصبر والحلم.

هذه الأخلاقيات ملفّ يجب أن ينفكّ عن موضوع الصواب والخطأ في البحث الفقهي والفكري، فالمحاور الذي تكون عبارته جافّة أو نابية لا يعني أن ما يقوله باطل، والمحاور الذي يكون في قمّة الذوق والأدب لا يقدّم رأياً صحيحاً بالضرورة، فيجب أن لا تكون "أخلاقيات الحوار" هي الحاكمة على
"سلامة الأفكار".


الملفّ الثاني: تأثيم المجتهد وتفسيقه وإسقاط عدالته أو الحكم عليه بالعقاب الأخروي،
وهو يبحث في سؤال تراثي كبير عن "أثر خطأ المجتهد" هل يكون سبباً لفسقه أو كفره أو إسقاط عدالته، وثمّ آراء ومذاهب شتّى، أرى أن خير من حرّرها وجمع أطرافها شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أطال فيها النفس وناقش كافة الأقوال في مجموع الفتاوى وخلص فيه إلى أنّ "المجتهد المسئول من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه  الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله البتة" [1]

هذه الرؤية المعتدلة تجعل الشخص يتجه إلى ذات المسألة فيحكم عليها ويوضّح مدى موافقتها للكتاب والسنة، وأما الحكم على القائل بالإثم والفسق والكفر فهذا باب آخر، فالبحث الفقهي يتجه إلى المسألة وبيانها، وأما الحكم على الأشخاص فباب آخر، وهذا الاشتباك بينهما هو الذي يجعل بعض الناس يتحرّز عن بعض المسائل أو يقبل بها لأنه يتصوّر أن رفضها يعني تأثيم وتفسيق القائل بها، كما أن بعض الناس يتجه لتفسيق المجتهدين لأنه يرى أنّهم أباحوا أمرا من المحرّمات، وينزاح الستار عن كلا الرؤيتين حين يتمايز في نظر الإنسان "الحكم على المسألة" عن  "الحكم على المخالف".


الملفّ الثالث: الإنكار في مسائل الخلاف،
وهذه مسألة فقهية شهيرة قد اتجهت أنظار الفقهاء فيها إلى مذاهب شهيرة، [2] أقواها بلا شكّ جعل "الإنكار" متعلقاً بالنصّ الشرعي، فكلّما بعد "الخلاف الفقهي" عن النصّ كلّما كان أقرب للإنكار، لأن الشريعة جاءت بمعاني "المعروف" و "المنكر" وهذه المفاهيم إنما يحددها النصّ وليس خلاف العلماء، ووجود الخلاف لا يمنع من الإنكار بالحكمة وبحسب درجاته، فموضوع "الإنكار" متعلّق بتطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة، ولا يلزم من الإنكار تأثيم المخالف أو التضييق على اجتهاده، فهذا باب فقهي وذاك باب فقهي آخر، فالإنكار في كلّ المسائل أو بطريقة تفتقد للحكمة أو من دون مراعاة لحال المخالف،  كلّها مخالفة للتسامح الفقهي الصحيح، كما أنّ التسامح الفقهي لا يلغي مبدأ الإنكار في مسائل الخلاف.

الملفّ الرابع: الاختيار بين المذاهب والأقوال الفقهية،
وهو تسامح فقهي يجب أن يبقى وسطاً بين طرفين، طرف "إلزام الناس بقول واحد" ورفض أي اجتهادات وأقوال أخرى لمذاهب فقهية معتبرة ، خاصة في المسائل الاجتهادية القابلة للنظر والخلاف، وطرف "تخيير الناس بين الأقوال" وجعلها في متناولهم ليختاروا منها أسهلها وأيسرها وأقربها لنفوسهم ومقتضيات عصرهم، فلا هذا ولا ذا، التسامح الحقيقي في أن القادر على النظر في الأدلة والمسائل لا يجوز له أن يتجاوز القول الفقهي الذي يراه راجحاً، وأما من لا يستطيع فيستفتي من يثق في دينه وعلمه من دون أن يتخيّر من الأقوال والمذاهب ما يشاء لأنّ هذا من الترخصّ الذي أجمع الفقهاء على ذمّه وعيبه لمنافاته لأصل التكليف [3]، لأن المسلم متعبّد باتباع النص ما استطاع، وجعل الأقوال في سلّة يختار منها ما يشاء يجعله متبعاً للهوى والنفس، كما أن هذا التسامح يجب أن لا يجعل الأصل في المسائل الخلافية العفو والتجاوز وأنّ المسألة ما دام فيها خلاف فالأمر واسع "فالمختلف في حرمته لا يكون حلالاً" وهو معلوم من دين الإسلام بالضرورة كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية [4]

وحين يكون الأصل هو "النصّ" فإن ذاك يستدعي البحث عنه وإشهاره وأن تكون دائرة البحث فيه وحوله، ولو حصل خلاف واجتهاد وتأويل له فإنه منطلق من النصّ، وهو تطبيق لأمر الله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) وأما حين يكون الخلاف بحدّ ذاته حجة وعذراً فإن هذا في النهاية سيؤدي إلى هجران النصوص وإضعاف مكانتها في النفوس، وهو ما دفع الحافظ ابن عبد البرّ ليقرر بوضوح أنَّ (
الاختلاف ليس بحجَّة عند أحد عَلِمْتُـه من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجَّة في قوله) [5]

الملفّ الخامس: التسامح مع الانحرافات العقدية،
وهو موضوع خارج عن حوار "التسامح الفقهي" كلّه، لأنّ الخلافات الفقهية تدنو من النصوص ولا تصادم أصول الشريعة وقطعياتها  بخلاف الظاهرة الفكرية المنحرفة التي تعبّر عنها "الانحرافات والمذاهب العقدية" ، غير أن البعض يسعى لاستغلال "التسامح الفقهي" لتهوين الانحرافات العقدية في النفوس، إما بجعلها اجتهادات بشرية قابلة للاجتهاد حيث لا وجود لمن يملك الحقيقة المطلقة، أو باعتبار أنّ هؤلاء قد يكونوا مجتهدين ومعذورين فيبدأ في خلط ملفّ "عذر القائل" بملف "الموقف من القول" أو يخلط فيها ملفّ "أخلاقيات الحوار" و"إعطاء الناس حقوقهم" وغيرها من الملفّات التي تربك بعض الناس فيغفل بسببها عن استحضار أن هذه منكرات مصادمة للشريعة ومخالفة لسبيل المؤمنين

ظاهرة "اختلاط الملفّات" و "دمج الموضوعات"  ليست مختصّة بالتسامح الفقهي فكثيراً ما يتلبس على المتابع حقيقة بعض القضايا الفكرية والشرعيّة لأنها تأتيه جميعاً فيختلط الحقّ بالباطل والصواب بالخطأ، والمنهج الشرعي فيه هو ذات المنهج الصحيح في التعامل مع "الألفاظ المجملة" فلا قبول لها بإطلاق ولا رفض لها بإطلاق، بل قبول للحقّ وردّ للباطل في منهج موضوعي يستفصل عن أفراد الموضوع حتى تكتمل الرؤية في كافة أطرافها.


--------------------------------
[1] مجموع الفتاوى 19/217
[2] ثم دراسات كثيرة تناولت مبحث "الإنكار في مسائل الخلاف" ومن أميزها رسالة لطيفة للدكتور فضل إلهي بعنوان "الإنكار في مسائل الخلاف".
[3] لمعرفة بعض من نقل الإجماع هنا من أهل العلم  راجع :  ابن حزم في مراتب الإجماع 271 وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/119 وابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع 1/65 وابن حمدان الحنبلي في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي41
[4] ذكر ذلك في  مجموع الفتاوى 20/270
[5] جامع بيان العلم وفضله 2/115

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية