اطبع هذه الصفحة

http://saaid.net/Doat/aiman/212.htm?print_it=1

الوصوليون في زمن المصالح والتلون!

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لا يشك عاقل أو متابع أننا في زمن يطغى عليه كثرة التقلبات والتغييرات، في العديد من النواحي والمجالات، فعقديا اضطرب بل ضعف جانب الولاء والبراء، وأخلاقيا انعدمت العديد من القيم، وسلوكيا تقهقرت الكثير من المبادئ، وثقافيا تبدلت واضطربت نسبة كبيرة من المفاهيم، حتى تكرست حالة أصبحت سمة ظاهرة في العديد من المجتمعات، وتفاقمت يوما بعد يوم، وأخذت العديد من الصور والأشكال، لتكون كالنار التي تأكل الهشيم.
تكاد تكون "الوصولية " من أخطر وأفتك الأمراض، التي من شأنها تدمير الدول والمجتمعات والشعوب، وقبل الحديث عن تلك الحقيقة ومعناها ومظاهرها وأشكالها، لابد من التنويه والتنبيه لحقيقة هامة جدا، هي حصانة ووقاية وصمام أمان من هذه الآفة، كتوطئة لهذا الموضوع، واستحضارها بجميع شؤوننا ومراحل حياتنا.

وضح لنا ربنا سبحانه وتعالى في غير ما آية وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر من حديث صحيح؛ ضرورة سلوك صراط مستقيم وطريق قويم، وعدم الانحراف والاعوجاج يمنة أو يسرة، والثبات على القيم والمبادئ والثوابت، وعدم التقلب والتأرجح والتلون، مهما كانت الظروف قاهرة والأمواج كبيرة، يقول سبحانه ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[1].

كم نحن بحاجة في زمن الفتن للثبات على المبدأ، والاستقامة على القيم، ورسوخ العقيدة، ودوام النهج السديد، فهي الحصانة من التلون والانتكاس والمراوغة، فعن خالد بن سعد أن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ لما حضرته الوفاة دخل عليه أبو مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ فقال : يا أبا عبد الله, اعهد إلينا فقال حذيفة:(( أو لم يأتـك اليقين, إعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر, وأن تـنكر ما كنت تعرف, وإياك والتـلون في دين الله, فإن دين الله واحد)).[2]
الوصولي: هو الإنسان الذي يسعى لتحقيق أهدافه، والوصول لغاياته ومصالحه، ولو كانت على حساب الآخرين، باستخدام جميع الوسائل القذرة والمنحطة والدنيئة، حتى لو وضع يده بيد الشيطان، وشعاره القاعدة اليهودية" الغاية تبرر الوسيلة ".
الوصولي في علم النفس هو الشخص الفوقي الذي يضع نفسه بالمقدمة، بلا تردد أو حياء ولا خجل أو شعور، ولا يتراجع مهما كانت العواقب، ولا يكترث بأي رادع.

للوصولي العديد من المظاهر والأشكال والهيئات والتوصيفات، تختلف من بيئة لبيئة، ومن زمن لآخر، وبحسب الأحوال والمعطيات، واقتناص الفرص والمتغيرات، وقد يشترك بأكثر من مظهر ويفترق مع غيره بهيئات أخرى، يحدد ذلك طبيعة الوسائل والمصالح والمطامع المنشودة، وبحسب الطموحات وتسلق المناصب والوجاهات.

قد يتصف بالوصولية حاكم أو وزير أو مسؤول رفيع، وقد تشمل دولة أو مؤسسة أو تكتل أو فئة، وممكن إلتقاء مصالح عدد من المنتفعين والانتهازيين فيتصفوا بذلك، وقد يكون الوصولي إسلامي أو علماني أو قومي أو يساري أو اشتراكي، وقد يكون أيضا مثقف أو كاتب أو شاعر أو أديب أو فنان أو رياضي أو إعلامي، فجميع مفاصل المجتمع معرضة للسقوط في شباك هذا المرض الفتاك.

الشخصية الوصولية مستعدة للتخلي عن القيم والمبادئ، والتقولب بقوالب جديدة حتى لو تنافت مع مفاهيمه، والتأطر بإطار جديد، وبالتالي يتيح لنفسه استخدام أساليب النفاق والتملق والتزلف، لصاحب القرار والمعني بذاك الشأن وكسب وده، والإطراء والمبالغة بالمدح بما لا يستحق، وانتقاص الآخرين وخصومتهم وبغضهم، والتحريض ضدهم والاستعلاء عليهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام( الكبر بطر الحق وغمط الناس )[3]، وبطر الحق دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا[4]، وقيل هو أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقا، وقيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله[5]، والغمط هو الازدراء والاحتقار[6].
ومن أشكال الوصولية في زماننا، هو من يسعى لتحقيق أهدافه وغاياته ومصالحه، بأية صورة ووسيلة مشروعة أم لا، ويستثمر علاقته بالآخرين ونفوذه حتى لو كانت على حساب مبادئه، وعمقه المجتمعي حتى لو تعارض مع ثوابته وسلوكه، وبيئته الخصبة المتعاطفة حتى لو كانت على حساب الدين والقيم.
قد يستعمل البعض سياسة " الأنا " الفرعونية وعدم الاعتراف بالآخرين، وسياسة " على علم عندي " القارونية ونسبة الخير لنفسه وانتقاص جهود الآخرين، وهاتان السياستان المقيتتان من مظاهر الوصوليين في زمن الفتن والمصالح والتلون، أضف إلى ذلك سياسة التدليس والانتهازية للوصول إلى القمة على حساب جراحات وآلام الآخرين!! وسياسة الوصاية وإقصاء الآخر واحتقار جهوده، بنظرة فئوية ضيقة، وتقريب البعيد وإبعاد القريب بمعايير غير مهنية، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )[7].
من مظاهر الوصوليين عدم نكران الذات، وعدم الاعتراف بصاحب الفضل والبذل والعطاء، إما لأسباب شخصية أو فئوية، أو لأن إظهار الحقائق يتقاطع مع الوصول لأغراض وأهداف ضيقة، حتى لو كان من تم إقصائهم لهم باع وفضل على أولئك.

أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي *** فلما قال قافية هجاني

يقول عليه الصلاة والسلام:( سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة قيل: و ما الرويبضة ؟  قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة )[8]، وهو التافه من الرجال القاعد عن المساعي الكريمة[9].
الوصولي ليس له مبدأ ثابت ولا طريق واضح، يتلون كما تتلون الحرباء، مع تميزه باللعب في العبارات والتناقض في التصريحات، والاضطراب في المواقف والملمات، فهو مع الريح والسائد والغالب، موقفه متذبذب لا يستقر إلا وفق هواه ونظرته القاصرة.
من مظاهر الوصولي أنه مولع بالتقاط الصور، ويعشق تسليط الأضواء، ويهوى التصفيق من غير نقاش أو تحمل أي نقد بناء، ويسمح لنفسه بموعظة الناس، والضحك على الذقون بأنه منهم وهم منه، وهم جميعا أخوة وأبناء، إلا أنه لا يقبل الموعظة من أحد والتوجيه، ويتيح لنفسه تصنيف الآخرين بما يحلو له من أوصاف، مع رفضه آراء غيره فيه!!
مما لا يخفى أيضا أن الشخص الوصولي قد ينتقص الآخرين في دينهم وعلمهم وخلقهم وسمتهم، في الوقت الذي لا يقبل أي كلمة ضده، لأنه معظم مبجل ومقدس في قرارة نفسه ولدى أتباعه، المزمرون المصفقون المطبلون الموافقون بكل شيء علموا أو لا يعلمون!!
ليس لدى الوصولي الشجاعة الكافية لمواجهة الحقائق الدامغة والحجج البينة والبراهين الساطعة، ولا يتمكن من اتخاذ قرارات حازمة قوية حاسمة، حتى لا يفقد بعض المؤيدين من خلال مجاملتهم ومداهنتهم على حساب الحق وأهله، وبمجرد انكشاف مواقفهم الزائفة وتصدع صفوفهم، يبدأون بالتظلم واختيار لين القول، وتغيير المواقف حتى لو اضطرهم الأمر التعامل مع شياطين الجن والإنس، محاولين إرضاء جميع الأطراف بالكلام المعسول والكذب والنفاق والتلبيس!! والتقرب للآخرين وإيهامهم أنهم الأفضل.
الوصوليون يهابون من يتفوق عليهم ويخشونه ويحسبون له الحسابات، مع تربصهم به ومحاولة تشويه سمعته وتدميره، بكل الطرق والوسائل حتى التي تتنافى مع أبسط الأخلاق والقيم والمبادئ، للوصول لأهدافهم وتحقيق مآربهم.
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
الوصولي ينطلق من منطلق الإحساس بالنقص وعدم الثقة بالنفس، إذ يحاول الإثبات بأنه الناجح دون سواه، وأنه الصواب دون غيره، لذلك يحاول دائما الحديث على خصومه والترصد لهم وتتبع العثرات، مع سوء الظن وتحميل مواقفهم وسلوكهم ما لا تحتمل، لأن مبادئهم مطاطية هلامية تتغير حسب الظرف والضرورة.
ليس عيبا أن يتراجع الإنسان عن خطأ ارتكبه، أو انحراف تلبس به فترة من الزمن، أو الاعتراف بالذنب وتصويب مسار معوج سابق، بل هذا واجب ومطلوب إذ يقول عليه الصلاة والسلام (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون )،[10]لكن من المعيب الإصرار على الذنب وعدم الاعتراف به، ومن الطامات البقاء على مسار منحرف أو فهم خاطئ أو معتقد فاسد أو نهج معوج أو سلوك مشين والإصرار عليه، بعد معرفة الحق والصواب وطريق النجاة.
ما يحصل الآن من تغييرات جذرية، يجسد العديد من مظاهر الوصولية، فكم من إنسان كان يحمل فكرا معينا وينتهج نهجا واضحا، فسرعان ما انسلخ من ذلك وتأقلم وتغير مع واقع جديد، والدافع هي تلك الوصولية المقيتة والانتهازية المتجذرة، فهل نشهد ركوب موجات تقلبات الأحداث، وتغييرات أيديولوجية إلى البراغماتية التي تعتمد على مقياس المصلحة في الحركة والسكون، والتقدم والتراجع؟! أم أن موجات متلاطمة من بيع الذمم وتقمّص القيم، أصبحت كالتسونامي اخترقت القلوب والعقول والأفهام، قبل أن تغرق البلدان والأجسام، ويكاد يكون الحال كما قال عليه الصلاة والسلام(لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع )[11]، تافه غر غبي أحمق مغرور مفتخر على الناس بخرق يلبسها ومال يبذله أو يفتخر به على الناس فيكون هو أسعد الناس حظاً وأعلاهم منزلة وهو في الحقيقة تافه لا قيمة له في ميزان الله سبحانه وتعالى[12]، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.

من أبرز الأسباب المؤدية لانتشار الوصوليين إلى أن يصبحوا ظاهرة وإشكالية في المجتمعات:

1-    قلة العلم الأصيل والاستعاضة عنه بعلم طارئ دخيل.
2-    كثرة الفتن والقلاقل وأهلها وبروزهم وتصدرهم للمشهد، وضمور أهل الصلاح وخفوتهم.
3-    ضعف الإيمان وقلة التقوى وانعدام الصدق في القول والإخلاص في العمل.
4-    طغيان الحياة المادية واستحواذها على تفكير غالبية الناس، إلا من رحم الله وقليل ما هم.
5-    انعدام التوعية وقلة الثقافة الصحيحة، والابتعاد عن وسطية الإسلام.
6-    ضعف بناء الشخصية الإسلامية وتخلخل الأسس والقواعد الرصينة.
7-    كثرة النفاق الاجتماعي والفصام النكد، ومخالفة الفعال والأعمال للأقوال.
8-    الإنهزام النفسي الداخلي، وضعف الثقة بالنفس.
9-    الابتعاد عن تشخيص الأمراض ووضع علاج وحلول ناجعة جذرية.
10- كثرة المجاملات والمحاباة والمحسوبيات على حساب الدين والمنهج والسلوك والقيم.
11- عدم وجود رادع فعلي حقيقي والفوضى في التصرفات والعشوائية.
 
أيمن الشعبان
25/3/2011

-------------------------------------------------
[1] ( الأنعام:153 ).
[2] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي رقم 107.
[3] صحيح مسلم.
[4] شرح النووي على مسلم.
[5] تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي( 6/138).
[6] فتح الباري لابن حجر.
[7] صحيح البخاري.
[8] صحيح الجامع رقم 5963.
[9] أساس البلاغة ص156.
[10] صحيح الجامع رقم 4515.
[11] صحيح الجامع رقم 7431.
[12] مهلا يا أهل المظاهر ص19.

 

أيمن الشعبان