صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







عامر ملحم قصة محزنة من رحم المعاناة

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم


إن تسطير ما حل بفلسطينيي العراق من مآسي ومحن ومعاناة، يحتاج لمجلدات ووقفات وتأملات، لو أمعنا النظر وتأملنا في أحوالنا جميعا، لوجدنا نظرات أبنائنا وعبرات أطفالنا وملامح إخواننا وأخواتنا، ولتلمسنا كل حركة لآبائنا وأمهاتنا تعبر عن تلكم اللئواء والأسى والحزن العميق!!
أين كنا وكيف صرنا وما هو حالنا الآن؟!! فراق .. شتات .. تشرذم .. تفسخ الأواصر الأسرية .. حيرة بعد أخرى .. مصير مجهول .. ولسان حالنا ينطق في كل لحظة: هل ترانا نلتقي في هذه الدنيا بعد هذا الفراق؟! هل ستعاد علينا تلك البسمات والاجتماعات مع الأخوة والأخوات في مجمع البلديات؟!! نقول كما قال ربنا جل في علاه ( لله الأمر من قبل ومن بعد ).
نكبة كالتي حلت بنا بعد عام 2003 لا نبالغ إذا قلنا بأنها الأعظم والأكبر في التاريخ المعاصر، لما لهذه القلة المستضعفة تلك المصائب والويلات، وكأن هذا الوصف ( فلسطيني من العراق ) أصبح مستباحا بكل المقاييس وعلى جميع الأصعدة وبمختلف الشرائح، لا مجيب ..لا مغيث .. لا منقذ، وكأننا صرنا كبشا يُقدم قربانا بلا ثمن.
لابد والحالة هذه نذكر مثالا لتلك المأساة المظلمة، ونُعرِّج على قصة لم تنسج من الخيال أو تؤلَّف في الأذهان، إنها حقيقة عشناها بكل آلامها وتفاصيلها ومعاناتها، إنه الأخ عامر أسعد ملحم ( 44 عاما ) الذي نشأ وترعرع في مجمع البلديات ككثير من الشباب الفلسطيني، وكان له تعلق بالفن والموسيقى، وله ابنة متزوجة ( هدى ) وهدير ( 17 عام ) وعذراء ( 4 سنوات).
بعد احتلال العراق عام 2003 وصعوبة الأوضاع المعيشية، حصل تحول مفاجئ في حياته وانتقل ليشتغل ( عامل بناء ) رغم وضعه الصحي وعدم قدرته على ذلك، إلا أنه كالكثير من اللاجئين الفلسطينيين الذين ارتضوا قول النبي عليه الصلاة والسلام ( واليد العليا خير من اليد السفلى )، ولم يمدوا يدهم لأحد ولكسب لقمة العيش بالحلال.
أنا شخصيا معرفتي بالأخ عامر عن قرب، وجدته خلوقا وصاحب دين وأدب رفيع وخدوم جدا لكل من يطلب منه عمل بمقدوره عليه، وصاحب مبدأ يحن لفلسطين ولها أهمية في حياته، وله دور إيجابي وخدمي في مجمع البلديات ومجامل للجميع، متواضع جدا ولم يعرف عنه أي خلق سيء، وما أدل على ذلك من مسارعته في التبرع بدمه في الحملة التي قام بها جامع القدس لإنقاذ الجرحى في المستشفيات العراقية في رمضان من عام 2005 .
لكن لم يعلم عامر أنه على موعد في رمضان من السنة القادمة، مع وابل من قذائف الغدر التي أمطرت مجمع البلديات بعد صلاة التراويح بتاريخ 19/10/2006 ليكافأ بالدم الذي تبرع به بإراقة دمه ( وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان )! ليسقط جريحا في مكانه وتدخل الشظايا في رأسه وتعرض من حينها لفقدان الوعي والذاكرة، في حادثة من أبشع ما حل بالفلسطينيين في العراق.
استشهد بإذنه تعالى في حينها ثلاثة وجرح ثلاثة عشر آخرين من ضمنهم عامر، لتبدأ بعد ذلك قصة ومرحلة جديدة من المعاناة، والصراع مع المرض وفقدان الذاكرة والعلاج والمستشفيات في ظل ظروف صعبة وقاسية الكل يعرف ما تحمل في طياتها من أمواج متلاطمة وبحار مظلمة، فلا يكفي فراقه لأحبته وأهله في هذه الظروف، لتتضاعف المحنة وتثقل المهمة ويتحمل ذووه أعباء لم تكن بالحسبان، مع إهمال كبير من الجهات الرسمية والمؤسسات المدنية والمنظمات والجمعيات الشعبية والإنسانية لهذه الحالة والكثير من مثيلاتها .
مكث عامر قرابة العشرين يوما في مستشفى الجملة العصبية في بغداد أثر الحادث، وأجريت له عملية جراحية في رأسه، خرج على إثرها فاقدا للوعي وشلل نسبي لرجله ويده اليمنى، وبدأ بأخذ العلاجات في بيته على أمل تحسن حاله، ولا أحد يسأل عنه من أصحاب القرار!
كان يتلقى المساعدة من ذويه وبعض المحسنين بشكل فردي، إلى أن اضطر لمغادرة البلاد إلى سوريا على أمل الاستمرار بالعلاج وتحسن حالته، كان برفقته شقيقين له مع عائلته ليقوموا برعايته ومتابعة شؤونه، ليتم ترحيلهما إلى مخيم التنف الحدودي الصحراوي في رمضان من عام 2007 لتزداد محنة الأخ عامر.
بقي معه لرعاية شؤونه وأحواله زوجته وعائلته، لتزداد أوضاعهم سوءا وتتضاعف معاناتهم مع تقصير واضح من المؤسسات الرسمية والشعبية إلا من رحم الله وقليل ما هم، ليتم بتاريخ 27/4/2008 نقله مع زوجته وعائلة ابنته المتزوجة وابنتيه إلى مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية، لينضم إلى العوائل الفلسطينية التي أدخلت إلى الأراضي السورية في منتصف عام 2006 بعد أن كانت عالقة بين الحدين السوري – العراقي في التنف .
وإن نسيت فلن أنسى لقائي الأخير معه، قبل الحادث بليلة عندما خرجت بساعة متأخرة من الليل في العشر الأواخر من رمضان، وتجولت بداخل المجمع فوجدت عامر جالسا مع بعض الشباب في وسط المجمع قرب العمارة التي يسكنها، فسلمت عليه وتحدثت معه قليلا وسألني عن أوضاعي وأحوالي وتبادلت معه السؤال، ثم صعقنا باليوم التالي بتلك المجزرة البشعة المؤلمة على نفوسنا جميعا.
عندما زرته في دمشق أخبرني ذووه بأنه لا يمكنه التعرف على أي شخص، فالذي يراه ولا يبكي فهذا لم يتعرف عليه، وإذا رأى شخصا وبكى فإنه قد تعرف عليه، ويا سبحان الله بمجرد ما رآني وسلمت عليه انهال بالبكاء ورحب بي، فأخبرني من كان جالسا بأنه قد عرفني!
عامر ملحم بحق قصة محزنة من رحم معاناتنا التي أصبحت أشهر من نار على علم، وظاهرة المعاني يراها القاصي والداني، لكن يبدو نحن الآن نمر بزمن قلت فيه الشهامة وانعدمت المروءة ولم تلامس النداءات تلو النداءات والاستغاثات نخوة المعتصم.
لم يستشعر جراحاتنا وآلامنا إلا القليل ولا حيلة لهم، أما الأكثرية فلسان حالهم ومن يكن ( فلسطينيو العراق )؟!! فليذهبوا للجحيم، وللأسف صرنا نسمع تلك العبارات ولو بلسان الحال الذي يكون غالبا أنطق من لسان المقال.
إذ نرى الإهمال بل التقصير المفرط بقضيتنا بكافة جوانبها، إلا قلة قليلة من الذين يحملون هم هذه القضية، من المخلصين الذين لا يحملون ذلك الهم لمصالح معينة، بل استشعروا بأن هذا الهم لابد منه، في ظل السكوت والخنوع المخزي والخوف من إظهار تلك الحقبة للعالم .
إن معاناة عامر وأهله وأحبابه تزداد بتلك المسافات الشاسعة والأميال العديدة بينه وبين إخوته وأخواته، بل أصدقائه وأحبابه، فهو وزوجته وبناته في مخيم الهول في الحسكة، ووالدته وثلاثة من إخوته في بغداد وكذلك عائلة شقيقه الفقيد ماجد – رحمه الله – وإحدى أخواته في البرازيل والأخرى في مخيم التنف، واثنين من أشقاءه كذلك في مخيم التنف، وله أخت في مخيم الوليد، وأخت أخرى في سلطنة عمان، فكل هؤلاء الأحباب بعيدون عنه بذلك تتضاعف المحنة وتزداد المأساة .
بعد كل هذا العرض المتواضع لتلك القصة المحزنة لابد من وقفة حقيقية مشرفة، سنسأل عنها يوم القيامة، ولابد أن نبرئ ذمتنا أمام الله عز وجل وللتاريخ الذي سيسجل كل تلك الفترات ( وتلك الأيام نداولها بين الناس )، فعلى كل من بمقدوره عمل شيء أو تقديم المساعدة للجريح عامر وعائلته فليفعل سواء المنظمات الإنسانية أو الإغاثية والحقوقية أو الشخصيات الإعلامية والرسمية والشعبية وعلى كافة المستويات الدولية والإسلامية والعربية .
والذي ليس بمقدوره فعل شيء فعليه بالدعاء له ولجميع الجرحى من الفلسطينيين المنكوبين الذين انقطعت بهم السبل، وأن يفرج الله همنا وينفس كربنا ويعيننا على الخروج من تلك المحن وأن يجمع شملنا ويرفع الظلم عنا .
بعد سنوات قضاها عامر وعائلته في مخيمات الصحراء، تم تهجيرهم وتوطينهم في كندا، ولا زالت حالته المرضية حتى الآن.

23-5- 2008

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أيمن الشعبان
  • من أقوال السلف
  • مقالات
  • ما صح وما لم يصح
  • فلسطينيات
  • تأملات قرآنية
  • المسلم في بلاد الغربة
  • رمضانيات
  • الصفحة الرئيسية