بسم الله الرحمن الرحيم

السباق إلى العقول (59-61)
وسائل أهل الباطل في السباق إلى العقول


ولا بد لأهل الباطل من اتخاذ وسائل للسباق بباطلهم إلى العقول، وهي كثيرة، نذكر أهمها إجمالا، ثم نأتي إلى تفصيلها:
الوسيلة الأولى: تزيين الباطل وزخرفته
الوسيلة الثانية: الثناء على أهل الباطل وقادته
الوسيلة الثالثة: حشد قادة الباطل من يؤيد باطلهم
الوسيلة الرابعة: تخويف الناس من أهل الحق
الوسيلة الخامسة: إغراء أهل الباطل مؤيديهم بالمناصب والأموال
الوسيلة السادسة: وضع قوانين لنصر الباطل ومحاربة الحق
الوسيلة السابعة: جعل التعليم منطلقا لتضليل العقول به
الوسيلة الثامنة: الإعلام.
الوسيلة التاسعة: إقامة محاكم ظالمة لحماية الباطل وأهله
الوسيلة العاشرة: جعل وسائل الحق منطلقات للباطل
الوسيلة الحادية عشرة: استغلال اختلافات أهل الحق.

تمهيد:
اقتضت سنة الله الكونية أن يتصارع أهل الحق وأهل الباطل في هذه الحياة منذ وجد أبو البشرية آدم عليه السلام، وعدوه إبليس لعنه الله، وأن يمتد هذا الصراع في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ابتلاء منه تعالى لأهل الحق بأهل الباطل، ولأهل الباطل بأهل الحق، ليزداد الأولون إيمانا بحقهم ويحملوه عملا وسلوكا ودعوة وجهادا، فينالوا نصر الله وتمكينه لهم في الدنيا، ورضاه ودار كرامته في الآخرة، وليزداد الآخرون الذين تكبروا على أمر الله ودعوة أنبيائه تمردا وعتوا، فينالوا الضنك و الشقاء والنكد في الدنيا-وإن تمتعوا بنعم الله فيها كالحيوانات السائمة-والعذاب الأليم السرمدي وسخط الله في الآخرة.
قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}
قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}
وقال تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب-إلى قوله تعالى:-ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}
وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}
وقال تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم}
وقال تعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا}
وقال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا}
وإن الحق ليحمل عناصر قوته وبقائه في ذاته، وإن الباطل ليحمل عناصر ضعفه واضمحلاله في ذاته.
أليس الحق نورا... والباطل ظلمات؟ أليس الحق هدى والباطل ضلالا..؟ أليس الحق عدلا والباطل ظلما..؟ أليس الحق صلاحا والباطل فسادا؟ أليس الحق طهارة وتقى والباطل رجسا وفسقا؟ أليس الحق إيمانا وتوحيدا والباطل شركا وكفرا وجحودا؟ أليس الحق رحمة والباطل غلظة وقسوة ووحشية؟ أليس الحق برا والباطل إثما وعدوانا؟
إنه لو ترك الناس على فطرهم التي فطرهم الله عليها، لا يُكرهون على اعتقاد الحق ولا على اعتقاد الباطل، وإنما يعرض عليهم هذا وذاك، لاختاروا الحق ونبذوا الباطل، فالفطر السليمة التي لم تجتلها الشياطين لا تفضل الظلمات على النور، ولا الضلال على الهدى، ولا العدل على الظلم، ولا الفساد على الصلاح، ولا الرجس والفسق على الطهارة والتقوى، ولا الشرك والكفر على الإيمان والتوحيد، ولا القسوة والعنف على الرحمة واللين.
ولكن كل مولود يولد على الفطرة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه: [قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) لهذا كله اقتضت حكمة الله أن يكون لكل مبدأ من يحمله من البشر يعتقدونه ويعملون به، ويدعون إليه ويدافعون عنه وينصرونه، ولو كان ذلك المبدأ هو الحق الذي أنزل به كتبه وبعث به رسله وشرعه منهجا لكل البشر: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}.
ومن هنا وجد في الأرض معسكران: معسكر الحق، وهم حزب الله، ومعسكر الباطل، وهم حزب الشيطان، وقد سبق الكلام على حزب الله وغاياتهم في السباق بالحق إلى العقول ووسائلهم إلى ذلك، وكذلك سبق الكلام على حزب الشيطان وغاياتهم في السباق بالباطل، وبقي الكلام على وسائل حزب الشيطان التي يتخذ ها لذلك السباق.
وإذا كانت غايات أهل الباطل في سباقهم إلى العقول-تتلخص في الصد عن سبيل الله، والتمتع المطلق-الذي لا يقيده شرع الله-بمتع الحياة الدنيا، وتكذيب الرسل وما جاءوا به من وحي الله، والْحَوْل بين أهل الحق وإقامة الحجة على الناس-لئلا يكثر سواد أهل الحق فتضعف سلطة أهل الباطل-وإخراج الناس من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، والسعي في إحلال الشرك محل التوحيد، وإنكار الإيمان بأصوله وفروعه، لما يلزم من غرسه في نفوس الناس من التسليم المطلق لله تعالى ولما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ الحكم بما أنزل الله، والتحاكم إلى الطاغوت، لما في الحكم بما أنزل الله من القضاء على فسادهم وشرورهم، ولما في تحكيم الطاغوت من تحقيق مآربهم من الاعتداء على ضرورات الناس التي لا حياة لهم مستقرة بدونها، وهي الدين والنسل والنفس والعقل والمال-إذا كانت تلك هي غايات أهل الباطل في سباقهم إلى العقول بباطلهم، فإنهم قد اتخذوا لتحقيقها كل وسيلة متاحة لهم دون تقيد بشرع أو قانون، والغاية عندهم تسوغ الوسيلة.

الوسيلة الأولى: تزيين الباطل وزخرفته.
وقد تكون هذه الوسيلة أقدم الوسائل التي اتخذها أهل الباطل للسبق إلى العقول، بل هي أول وسيلة أضل بها عدو الله إبليس أَبَوَيْ البشر: آدم وحواء عليهما السلام، كما قال تعالى عنه: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور} .
فقد هون-الشيطان-أمرَ الله في نفوسهما، وجعل الالتزام به مؤديا إلى حرمانهما من العلو والرفعة والتمتع الطويل بالحياة، وأكد لهما بالأيمان بأنه ناصح لهما لا يريد لهما إلا الخير، فكان هو قدوة أهل الباطل في تزيين الباطل وزخرفته والتنفير من الحق والتهوين من شأنه.
وقال تعالى حاكيا عزم إبليس على هذا التزيين الماكر، واستمراره عليه وبذل جهده في إغواء كل من لم يتحصن بعبودية الله من بني البشر: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} .
وقال تعالى: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم}.
وبيّن سبحانه وتعالى أن أهل الباطل يقارنون الناس ويزينون لهم الباطل، كما قال تعالى: {وقيّضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين}
وهكذا استمر أهل الباطل في كل زمان يزينون الباطل ويزخرفونه ويشوهون الحق وينفرون منه.
وهانحن في هذا الزمان نشاهد ونسمع ونقرأ من تزيين الباطل والدعوة إليه وتشويه الحق والتنفير منه، ما لم يشاهد ويسمع ويقرأ مثله في الأزمان الماضية بسبب الوسائل الكثيرة التي أتيحت في هذا العصر.
فاليهود زينوا كثيرا من أفكارهم التي يصطادون بها عقول الناس، ومن ذلك الماسونية التي أصبح كثير من أغنياء العالم ومثقفيهم، بل وبعض حكامهم أعضاء بها، يدير بهم اليهود مصالحهم في كل البلدان.
والنصارى زينوا نصرانيتهم-مع مخالفتها للفطرة كذلك، لجعلها الثلاثة واحدا والعبد معبودا من دون الله، وما فيها من الضلالات التي لا تقبلها العقول السليمة-فأضلوا كثيرا من البشر في الأرض وبخاصة الجهال والأيتام والمرضى والمحتاجين الذين يمدونهم بالمال، ويشترطون عليهم الدخول في دينهم المحرف المزيف!
والوثنيون الذين يعبدون ما لا يحصى من المخلوقات، من شمس وقمر وكواكب وأشجار وأحجار وحيوانات ونار وغيرها، زينوا وثنيتهم فاتبعها ملايين البشر في الأرض.
والملحدون زينوا إلحادهم مع مخالفته للفطرة واتبعه كثير من الناس حتى قامت عليه دولة كبرى عاثت في الأرض فسادا أكثر من نصف قرن، ثم تهاوت وتمزقت وأصبحت دولها تتناحر فيما بينها، بل أصبح في كل دولة منها أحزاب يتناحرون فيما بينهم [1].
والقوميون زينوا قومياتهم حتى وجدوا من الأتباع ما أسقطوا به الدين والخلق، كما حصل في عهد اليهودي أتاتورك الذي حارب الإسلام حربا شعواء، بلغت إلى منع رفع شعيرة الإسلام (الآذان) باللغة العربية لغة الإسلام، وقلده في ذلك زعماء في البلدان العربية وغيرها حطموا بالقوميات المنتنة كل مقومات الأمة الإسلامية.
والعلمانيون الذين قرروا فصل الدين عن الحياة زينوا ذلك للناس حتى أصبحت غالب دول العالم علمانية تقصي الدين عن الحياة، بما في ذلك حكام الشعوب الإسلامية-إلا ما ندر-وليتها أقصت الدين عن الحياة في أنظمتها فقط وتركت للناس حريتهم في تطبيق ما يقدرون عليه من الإسلام، لو فعلت لكان الأمر أخف، ولكنها حاربته وحاربت دعاته وعلماءه الصادقين.
والمرابون زينوا للناس التعامل بالربا، حتى أصبح هو الأصل في كل أنحاء الأرض، برغم ما حصل منه ومن ويلات وكوارث على العالم وحوربت المشاريع الاقتصادية غير الربوية، فلم تأذن غالب حكومات الشعوب الإسلامية بالبنوك والمصارف الإسلامية.
وعباد الشهوات زينوا للناس فعل الفواحش والمنكرات، بأساليب شتى وبثوا وسائل نشرها حتى أصبح عالم الأرض من البشر-إلا من شاء الله-لا يفكر إلا في إشباع غرائزه بالشهوات من غير تفريق بين حلال وحرام...
وهكذا لم يبق باطل في الأرض إلا زينه أهله، بكل وسيلة من الوسائل المتاحة لهم، ودعوا إليه، وأوجدوا له أنصارا يكثرون سواده ضد الحق وأهله.
والخلاصة أنهم زينوا للناس الشرك بالله والخروج عن طاعته وشرعه والتعلق بغيره، كما زينوا اتباع الهوى والشهوات، واتخذوا لذلك كافة الوسائل المتاحة للسباق إلى عقول الناس بالباطل الذي زينوه وزخرفوه، قلبا للحقائق وإضلالا للعقول وزخرفة للباطل وتنفيرا من الحق. ألا ترى كيف وصف فرعون شركه وظلمه وعلوه وتكبره واستعباده للناس، والوقوف ضد رسول الله موسى عليه السلام وما جاء به من الوحي والدعوة إلى التوحيد والعدل والتواضع وغير ذلك من طاعة الله، وصف كل ذلك بأنه ما رآه من مصلحة قومه وهدايتهم إلى الطريق الراشد القويم؟! كما قال تعالى عنه-وهو يقف أمام حجج الرجل المؤمن موقف المهزوم-: {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} .وتزيين الباطل شبيه بالسحر في قلب الحقائق، كما في حديث بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا." فَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ-وهو أحد رواة الحديث_: صَدَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ.

الوسيلة الثانية: الثناء على أهل الباطل وقادته.
إن المبادئ لا تنتشر ولا تثبت ولا يكون لها أتباع وجماهير، إلا إذا حملها قادة يطبقونها في حياتهم ويخلصون لها ويتحمسون للدعوة إليها، ويتخذون كل الوسائل المتاحة لنشرها وتثبيتها، وكل صاحب مبدأ يريد نشره والدعوة إليه وتزيينه والثناء عليه، لا بد أن يَبْرُز هو للناس قائدا داعيا الناس إلى مبدئه، ولا بد أن ينال من الثناء عليه وعلى سيرته ما يجعل الناس يلتفون حوله ويتبعونه ويؤمنون بمبدئه.
وإذا كان صاحب الحق يكفيه ثناءً عليه الحقُّ الذي يحمله ويدعو إليه عند ذوي العقول السليمة والفطر المستقيمة، فإن صاحب الباطل يحتاج من الثناء الكاذب والإطراء المبالغ فيه من أجل تضليل عقول الناس واستخفافهم ليتبعوه ويقدسوه هو ويطيعوه، ما يستغرق الزمان الذي يعيش فيه ويطبق آفاق المكان الذي يريد أن يكون له فيه نفوذ.
لذلك ترى قادة الباطل ينفقون أموالا طائلة، ويعدون أدوات يصعب حصرها وجيوشا من البشر متخصصين في كل مجال، من أجل الثناء عليهم وإطرائهم، حتى تظهر مفاسدهم مصالح، وسوآتهم مفاخر.
فيوصف الجبان الرعديد بأنه الشجاع الصنديد، والبخيل الشحيح بأنه الكريم السميح، والظالم الغشوم بأنه العدل الرحيم، والغبي البليد بأنه الذكي الوحيد، والعاصي الفاسق بأنه ذو التقوى السابق.
ولما كان قادة الباطل بيدهم مقاليد الأمور، فإنهم يستغلون في الثناء عليهم مرافق دولهم كلها: التعليم والإعلام والمؤتمرات والندوات وكل المناسبات، فلا تسمع الأذن كلاما خاليا من مدحهم، ولا تقرأ العين مكتوبا مجردا من إطرائهم. ما يفعله غيرهم من المحا مد ينسب إليهم، وما يفعلونه هم من المساوي ينسب إلى سواهم، يكاد عبيدهم يقولون فيهم: (ليس كمثلهم شئ وهم...!)
بل إنهم يمدحون أنفسهم بأنفسهم، لينطلق خدمهم في الثناء عليهم وقد لا يبلغ ثناء غيرهم عليهم مهما بالغوا في الثناء ما أثنوا به على أنفسهم.
وقد كان فرعون نموذجا لزعماء الباطل في هذا الباب وغيره من أبواب الشر والفساد، فقد أثنى على نفسه-بعد أن جمع قومه-بأنه ربهم الأعلى، مسوغا بذلك عصيانه لله ولرسوله موسى عليه السلام عندما دعاه إلى الهدى، كما قال تعالى عنه: {هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى، فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى} .
وقال تعالى عنه: {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري، فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين، فاستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق} .
إن أهل الباطل مفسدون، وفسادهم ظاهر غير خفي في الغالب، ولكنهم يقلبون الحقائق فيحصرون الصلاح في أنفسهم، كما قال تعالى عن المنافقين: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} .
وهكذا يثني زعماء الباطل على أنفسهم بحيازة الملك والمال والغنى، معَرِّضين بفقر أهل الحق وضعفهم، مسوغين بذلك أنهم أحق بالاتباع والطاعة في باطلهم من أهل الحق، كما قال تعالى عن فرعون أيضا: {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين، فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين، فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} .
إن زعماء الباطل عندما يبالغون في الثناء على أنفسهم-وذم أهل الحق كما سيأتي-إنما يريدون بذلك صرف عامة الناس عن سماع الحق والإصغاء إلى أهله والتفكير فيه، لأنهم يعلمون أن الحق إذا ترك له السبيل ليصل إلى عقول الناس، فإنه يدمغ الباطل ويزهقه، ويجعل أهله حثالات لا قيمة لهم، ويظهر دعاة الحق وحامليه أئمة هداة وأبطالا، يقودون الناس إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.
ولهذا تجد أهل الباطل يحاولون إبراز أنفسهم مهما تنوع باطلهم-أنهم منقذو الشعوب وحماتها، ومفكروها ونجوم فنها وأساطين آدابها، وقادة جيوشها وأعلام اقتصادها، وهم ساسة فاشلون حطموا الشعوب بسياستهم الخرقاء وأذلوها لأعدائها الذين ينهبون خيراتها ويتخذونها أسواقا مربحة لتجارا تهم وصناعاتهم، ويجد أهل الباطل جماهير في شعوبهم يستخفونها فتخف لتأييدهم والتسبيح بحمدهم وتنفيذ أو أمرهم التي تصدر لتثبيت الباطل وتأييده ونشره، ومحاربة الحق ومحاصرته وطرده، وهذه الجماهير قسمان:
قسم مضلَّل العقول، يظن الباطل حقا والحق باطلا بسبب الزخم الداعم لهذا الباطل بالوسائل المتنوعة، وعدم وجود وسائل داعمة لتوصيل الحق إلى عقولهم، ولو أتيح للحق وسائل توصله إلى عقول هذا القسم لأصبح كثير منهم من أهل الحق ومناصريه ضد الباطل وأهله.
وقسم يعرف الحق والباطل، ويعلم أنه قد سلك طريق الباطل ومناصرته ضد الحق وأهله، لضعف همته واتباع هواه وإشباع شهواته المادية والمعنوية التي يمنحه إياها زعماء الباطل، من مال وجاه وسلطان.
أما الذين يفرقون بين الحق والباطل ويقفون بجانب الحق ضد الباطل فهم فئة قليلة من البشر في كل الشعوب، وهذه الفئة هي التي يخافها زعماء الباطل، لاطلاعها على أسرار الباطل، ومقدرتها على تبصير الناس بالحق ودحض الباطل وفضح أهله، بدلا من الثناء عليهم وعلى باطلهم، ولهذا تجد زعماء الباطل يحاربون هذه الفئة حربا شعواء، إلا إذا وجد بعض أفرادها وسيلة يتقوون بها على تلك الحرب، كأن يكونوا من أسر زعماء الباطل يكتمون إيمانهم بالحق، كحال مؤمن آل فرعون في دفاعه عن موسى عليه السلام، كما فصل دفاعه سورة غافر في مناظرة طويلة مع فرعون وقومه .

الوسيلة الثالثة: حشد قادة الباطل من يؤيد باطلهم.
وهم يحاولون أن يكثروا سواد مؤيديهم، من كل فئات الشعوب، ممن جهلوا الحق وخدعوا بالباطل أو استمرءوه.
إن أهل الباطل وقادته لا يقوى شأنهم ولا يستقر قرارهم ولا يبقى باطلهم، إلا إذا أيدتهم قوة تفوق قوة أهل الحق أضعافا مضاعفة، بحيث تكاد قوة أهل الحق المادية تنعدم بجانب قوة أهل الباطل، وإنما يستمد أهل الباطل قوتهم من الجماهير المؤيدة لهم، لذلك تراهم يجتهدون في حشد الجماهير التي تؤيدهم في الحق وفي الباطل.
أصناف الفئات التي يحشدها أهل الباطل لتأييد باطلهم.

أولا: فئة الأغنياء المترفين.
و المترفون من الأغنياء هم من أكثر الفئات استجابة للباطل وتأييده، وأكثر نفورا من الحق ومناصرته، والسبب في ذلك شعورهم بأن الحق يقيد الشهوات الجامحة والنزوات الطائشة، ويضع للناس منهجا يطهر القلوب ويهذب النفوس، ويدعو إلى التسامي عن عفن المعاصي وأدران الفواحش، ويوجه ذوي المال واليسار إلى الإنفاق في الطاعات وعدم الإسراف في المباحات، كما يأمر بالتواضع ومصاحبة الفقراء والمساكين وعدم التكبر عليهم واحتقارهم، والمترفون قد ألفوا الانغماس في دنس المعاصي، والفرار من الطاعات، قست قلوبهم حتى لم يعودوا يفكرون إلا في المزيد من أسباب قسوتها، وأعماهم الترف حتى أصبحوا يعبدونه من دون الله سيماهم التكبر على الحق وأهله وتقوية الباطل وأهله.
والغالب أن الترف يلازمه الظلم، والظالم يدأب في نصر الباطل وأهله ومحاربة الحق وأهله، قال تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون} .
وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} .
وقال تعالى: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} .
وقال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون}
قال سيد قطب رحمه الله في ظلال آية سورة الإسراء:
[والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال والخدم، ويجدون الراحة، فينعمون بالراحة والدعة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأر خصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها. ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي وتفقد جيوشها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها] .
ومن هنا كان من أعداء الأنبياء والرسل الذين جاءوا بالحق، الأغنياء المترفون، كما قال تعالى عن قارون: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم} .
وقال تعالى عن كفار قريش: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} .
ولهذا اشتكى نبي الله موسى إلى ربه من الغنى والترف اللذين آتاهما الله فرعون وملأه فرصدوهما لمحاربة الحق، وطلب من ربه أن يسلبهم هذه النعمة التي أطغتهم، كما قال تعالى: {وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، قال قد أجيبت دعوتكما} .
هذه إحدى الفئات التي يحشدها أهل الباطل للسباق إلى العقول بالباطل وصدها عن الحق، ولهذا تجد المنظمات المحاربة للحق المؤيدة للباطل تحرص على هذه الفئة من الناس لتنضم إليها، لأنها تعينها على تحقيق أهدافها كما هو شأن المنظمة الماسونية التي هي إحدى منظمات اليهود في العالم.

ثانيا: فئة علماء السوء.
وهذه الفئة أشد خطرا على الحق وأهله وأعظم الفئات مناصرة للباطل وأهله، لأنها تغزو العقول باسم الدين وبصفة علماء الأمة، وتنسب الباطل الذي تحاول السبق به إلى العقول إلى الله، همها حطام الدنيا وشراؤه بالدين، والتقرب بتأييدهم للباطل إلى أهله من الطغاة الظالمين.
إن هذه الفئة تكتم الحق وتلبسه بالباطل، وتصدر الفتاوى الظالمة والأحكام الآثمة، كل ذلك بصفتهم علماء الأمة وفقهاءها، يوقعون في فتاواهم وأحكامهم عن الله ورسوله، فتسفك بفتاواهم الدماء وتستحل الحرمات وتصادر الأموال، ويخرج بها الناس من ديارهم ويفرق بينهم وبين أولادهم وأزواجهم، تفتح لهم الأبواب التي يلجون منها بأفكارهم إلى العقول، وتهيأ لهم الوسائل في الإعلام والتعليم، والمنابر وقاعات المحاضرات، وأماكن الحشود والتجمعات، حتى ينشروا الباطل باسم الحق، وتسد تلك الأبواب وتمنع كل تلك الوسائل، من أن يتخذها علماء الحق ومفكروه وسيلة لنشر الحق والرد على الباطل، ولذلك تضلل عقول الناس فيصبح الحق عندهم باطلا والباطل حقا.
ولقد كان علماء السوء من أهل الكتاب هم قدوة علماء السوء من هذه الأمة، قال تعالى عن أولئك: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} .
وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} .
وقال تعالى: {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} .
وقال تعالى: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} .
الله يبين الحق للناس ويأمر ببيانه، وهم يلبسونه بالباطل ويكتمونه، كما قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} .
وقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}.
فكل من لبس الحق بالباطل وكتم الحق وهو يعلمه، فهو من علماء السوء الذين اقتدوا بعلماء بني إسرائيل، يستحقون هذا الوعيد الشديد الذي سجله الله في آخر كتاب أنزله على آخر رسول وهو القرآن الكريم.
ولقد نجح أعداء الإسلام ومحاربو الحق، في حشد كثير من علماء السوء الذين ينفرون الناس من دعاة الحق وأهله، ويصفونهم بما ليس فيهم من القبائح، ويطعنون في عقائدهم ومقاصدهم زورا وبهتانا، وقد يكون عند أهل الحق بعض الأخطاء التي وقعوا فيها عن اجتهاد وحسن نية، يؤجرون فيها على اجتهادهم عند الله، ولكن علماء السوء يضخمونها ويحكمون على أهلها أحكاما جائرة سيكافئهم الله عليها بما يستحقون.

ثالثا: فئة الأدباء والشعراء والكتاب.
وهم الذين أوتوا من البلاغة والفصاحة والقدرة على صياغة الأفكار والمعاني بأساليب جذابة شعرا أو نثرا، يقلبون بتلك الأساليب الحقائق، ويصورون الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، ليضللوا بذلك العقول، ويسابقوا أهل الحق إليها بباطلهم.
وهذه الفئة هي من أهم الفئات التي يتخذ كثيرا منهم زعماءُ الباطل وقادته وسيلة للسباق إلى العقول بباطلهم، وهم الذين يقودون الإعلام والتعليم والنوادي الأدبية والثقافية، وينالون من التأييد والتمكين والاحترام ما يجعلهم قادة الشعوب وموجهيها، من أجل أن يفسدوا عقول أبنائها بالباطل، ويحولوا بينها وبين الحق الذي يحاربون أهله ويصدونهم عن السبق به إلى تلك العقول.
وقد يكون كثير ممن يسمون بالأدباء والكتاب والشعراء لا يستحقون تلك التسمية، لهبوط مستواهم في كل تلك المجالات وضعفهم فيها، ولكن قادة الباطل يرفعون شأنهم ويبرزونهم ويطلقون عليهم من الألقاب والصفات ما لا يستحقونه، فيسمون بالرواد والكتاب وقادة الأدب والفكر وغير ذلك، حتى يخدعوا عامة الناس بهم ليقبلوا إلى ما يكتبون وما ينشرون من شعر ونثر ومحاضرات وغيرها، لما فيها من تزيين الباطل وتزو يقه، وذم الحق وتقبيحه.
وإن الذي يتتبع وسائل الإعلام في الشعوب الإسلامية، وما يبثه فيها أمثال هؤلاء من تأييد الباطل ومحاربة الحق، وما ينشر لهم من الكتب والبحوث والمقالات، وما يحدثونه من آثار سيئة في عقول الناشئة وعامة الناس، ليصاب باليأس وخيبة الأمل في إصلاح الأمة التي أريد لها أن تنقاد إلى الباطل وتنأى عن الحق، لولا الأمل الكبير في لطف الله بهذه الأمة ووجود بقية من دعاة الحق صامدة صابرة، تتخذ ما تستطيعه من وسائل السباق الشرعية إلى عقول الناس، والله تعالى يبارك في جهودها فتؤتي ثمارا أعظم مما تؤتيه وسائل أعداء الحق وأنصار الباطل إذا قورن بين هذه وتلك.
ولعل أفراد هذه الفئة وجمعياتها ومؤسساتها كلها، يشملها قول الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون} . بجامع أنهم يقلبون الحقائق، ويمدحون المذموم، ويذمون الممدوح ويكونون أداة لقادة الباطل والطغيان لإفساد العقول.

رابعا: فئة الجيوش والشُّرَط.
وهم الذين يشملهم كلهم لفظ "الجنود".
وهم الفئة التي تتولى نصر الباطل وأهله وإكراه الناس على قبوله والصد عن بيانه للناس، بقوة السلاح والسلطة، فهم الذين يزجون بأهل الحق في السجون والمعتقلات، وهم الذين يسومونهم سوء العذاب، وهم الذين يستحلون الحرمات ويصادرون الأموال، وهم الذين يكممون الأفواه ويستعبدون الناس لقادة الباطل، وهم الذين يخدون الأخاديد ويحرقون الناس بالنار إذا ما أصروا على التمسك بالحق، وهم الذين يخرجون أهل الحق من ديارهم لأنهم يقولون: ربنا الله، ذلك أن أهل الحق أقدر على أسر القلوب والعقول، لما عندهم من الحجج والبراهين التي لا يجد لها أهل الباطل ما يقاومها، إلا الحديد والنار والتنكيل عن طريق جنودهم المناصرين لباطلهم.
فإبراهيم الذي قال الله تعالى فيه: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم} . لم يجد طغاة الباطل الذين أقام عليهم الحجة بالحق ما يقف أمام حجته وينصر آلهتهم إلا النار: {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين} . {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار} .
وهكذا أصحاب الأخدود، كما وردت قصتهم في سورة البروج، كما قال تعالى: {قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون على المؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} .
ولو لم يجد فرعون جنودا ينصرون باطله ويحارب بهم الحق، لما وصل إلى ذلك العلو والتكبر والجبروت، ولهذا قرنه الله بجنوده في الاستكبار والعقاب كما قال تعالى: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون... فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} .
والذي يتأمل ما يحدث اليوم في العالم، من قيام جنود طغاة الباطل بمناصرته بالقوة ومحاربة الحق وأهله بالقوة، يظهر له خطر هذه الفئة على الحق وأهله ، ولو تخلت هذه الفئة عن مناصرة الباطل وتركت دعاته ودعاة الحق يتسابقون إلى العقول، كل يدلي بما يؤيد دعوته بالطرق السلمية، لما وجد أهل الباطل لأنفسهم مكانا يقودون فيه الأمة إلى مهاوي الهلاك، ولهذا ينال جنود الباطل وطغاته عقابهم من الحق جل جلاله، كما قال تعالى: {فأخذناه وجنوده} .

خامسا: فئة الجواسيس.
تمهيد: التجسس قسمان:
القسم الأول:تجسس مشروع.
وهو أن يقصد منه ولي أمر المسلمين معرفة بعض الصالحين من أفراد رعيته، ليسند إليهم وظيفة من الوظائف التي تتحقق بها مصالح الرعية، أو يقصد منه معرفة أهل الرِّيَب والإجرام ليتجنب توليتهم على مصالح الرعية أو يحمي الرعية من إجرامهم، أو يقصد منه جمع المعلومات عن العدو الحربي، لحماية الدولة الإسلامية من العدوان، وإعداد العدة الكافية لهزيمته....

القسم الثاني: غير مشروع.
وهو أن يُقْصَد من التجسس تتبع عورات الناس والبحث عن عيوبهم وفضحها، لأن تتبع عورات الناس للكشف عن أسرارهم بدون وجه شرعي محرم، بدليل نهي الله تعالى عنه في كتابه، ونهي رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته كما سيأتي، ولأن الأصل حسن الظن بالناس، بل وستر معاصيهم ما لم يجاهروا بها أو يصروا عليها.
ويستثنى من ذلك ما إذا ظهرت أمارة أو خبر ثقة على وجود اعتداء على حرمة يفوت تداركها، لو لم يُعَجَّل ببعث عيون لاكتشافها قبل وقوعها وردع المعتدي عن عدوانه، كالقتل وارتكاب فاحشة الزنا، و كذا إذا وقعت جريمة اعتداء ولم يعرف مرتكبها، فإن الواجب على ولي الأمر البحث عن مرتكبها ببعث العيون للقبض على المجرم وعقابه.
ومن هنا نعلم أن الجواسيس الذين يرتكبون التجسس غير المشروع، قد انحطت نفوسهم عن معالي الأمور إلى دركات الخسة، وبخاصة من آثروا الكون في صف قادة الباطل، لنصرتهم ونصرة باطلهم، ومحاربة الحق وأهله بأحط الأعمال وأخسها، وهي تتبع عورات الناس بغير حق، وبخاصة دعاة الحق الذين يتجسسون عليهم في منازلهم وأماكن أعمالهم وإحصاء حركاتهم في حلهم وترحالهم، والتنصت عليهم بما يزود هم به أهل الباطل من الوسائل، وكثيرا ما يتقمص أولئك الجواسيس ثياب التقوى والصلاح، ليوهموا أهل الحق أنهم منهم ومن أخلص الناس للحق، ليخدعوهم بذلك ويعلموا غاياتهم ووسائلهم التي يسابقون بها إلى عقول الناس بالحق، وينقلوا ذلك إلى قادة الباطل ومحاربي الحق، ليضعوا التدابير اللازمة لمحاربة الحق الذي ينوي دعاته إبلاغه إلى عقول الناس، بل قد يزيد الجواسيس مِن عندِهم ما يوغرون به صدور قادة الباطل على أهل الحق من أجل محاربة الحق وأهله.
كما أن بعض الجواسيس يندسون في صفوف دعاة الحق ويتخذون كل الوسائل للتحريش بينهم، حتى يصدعوا صفوفهم ويفرقوا كلمتهم، وهذه الفئة تتكون من غالب طبقات الأمة، فقد يكون منهم الرجل والمرأة والطالب والمعلم والمدني والعسكري والمثقف والجاهل، كل منهم يوضع في المكان المناسب له.
ويكمن خطرهم في أن السباق بهم إلى العقول بالباطل غير منظور، لأنهم بمنزلة السراق الذين يتخفون عن أعين الناس لأخذ أموالهم من حرزها.
سيئات الجواسيس وخطرهم.
والجواسيس يجمعون بين سيئات متعددة:
منها سوء الظن الآثم، ومنها التجسس على الناس، ومنها اغتيابهم، بل وبهتهم، ومنها النميمة عليهم، ومنها التحريش بينهم وإلقاء العداوة في صدورهم، وكل واحدة من هذه كافية لنصرة الباطل ومحاربة الحق.
وخطر الجواسيس على الحق أعظم مما يتصوره كثير من الناس، فهم-مع ما سبق-يخططون لإسقاط دول، واغتيال زعماء، ونشر فساد في الأرض.
ومن أقرب الأمثلة على ذلك اغتيال الجنرال ضياء الحق الذي شعر أعداء الحق أنه كان متجها إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في شعبه الذي أسس على أن يُحكَم بالإسلام، وإعداد العدة الحربية لردع أعداء المسلمين.
وما من داعية يشعر أعداء الحق أنه سيحقق بدعوته نشر الحق وإبلاغه إلى عقول الناس، إلا أسرعوا باغتياله عن طريق جواسيسهم، كما حصل للأستاذ الداعية حسن البنا رحمه الله، أو قتله بمحاكمة ظالمة، كما حصل للداعية المجاهد سيد قطب رحمه الله، وكذلك الداعية المجاهد الشيخ أحمدو بلو النيجيري رحمه الله...
وما من حكومة يظهر لأعداء الإسلام عزمها على نشر الحق وتطبيقه في شعبها إلا نصبوا لها العداء وحاربوها في عقر دارها، ومن أخطر وسائلهم لمحاربتها الجواسيس الذين أعدوهم لذلك .
وما من جماعة اقتربت من تسلم الحكم في بلادها بطريق مشروع عند أعداء الإسلام وهي تريد تطبيق الإسلام، إلا تكالبوا عليها وحاربوها وداسوا على مبادئهم التي يدعون إلى تطبيقها في العالم، ما دامت تلك المبادئ ستكون وسيلة لنشر الحق وإبلاغه إلى عقول الناس، وما قصة الانتخابات الجزائرية التي كادت توصل جبهة الإنقاذ إلى الحكم إلا أحد الأدلة على ذلك.
فقد أجمعت على محاربتها دول الغرب وجواسيسه وأذنابه، وفتح جنود الباطل لأعضاء الجبهة السجون والمعتقلات ونصبوا المشانق وأنزلوا الدبابات وعاثوا في الأرض فسادا، ملغين في سبيل نصرة الباطل ومحاربة الحق أهم مبدأ يتغنون به ويدعون إليه وهو ما يسمى بالديمقراطية، وللجواسيس في ذلك دور عظيم كما هو معلوم.
ولخطر الجاسوسية ومساويها التي تقوم عليها، وهي-كما مضى-سوء الظن، والغيبة، والنميمة، وتتبع العورات، والتحريش، وإيجاد الفرقة والأحقاد بين الناس، جاء الإسلام بالنهي عنها وعن تلك المساوي كلها.
فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا.]
وقال: [إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم].
وقد شرع الله تعالى الاستئذان على أهل المنازل، صيانة لأسرارهم وحماية لعوراتهم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن اطلع من بعض حجره: [لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.]
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل الجنة نمّام.] .

والخلاصة أن قادة الباطل يحشدون كل الطاقات ويحشرون كل فئات الشعوب التي تستجيب لهم، ليسبقوا بباطلهم وصولَ الحقَّ إلى عقول الناس، أو يصدوا عقول الناس عن سماع الحق والاستجابة له، فقد يدخل في تلك الفئات الصناع الذين يصنعون لهم الآلات والأدوات التي تستعمل لنشر الباطل أو لتعذيب أهل الحق أو تشويه الحق، وكذلك يستعملون الفئة الجاهلة، وهي جماهير الشعوب المتخلفة، لتأييد الباطل ومحاربة الحق، بالتجمهر والهتافات والمظاهرات الصاخبة، التي يطلقون فيها ألسنتهم بالسب والشتم لدعاة الحق ووصفهم بأقبح الصفات، للتنفير منهم ومن الحق الذي يدعون إليه، كل ذلك من باب التقليد والخفة والاستجابة الطائشة للدعوات المضللة، ألا ترى الجماهير الفرعونية كيف استجابت للتجمهر الذي لا تدري لمن تكون الغلبة فيه، كما قال تعالى: {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون، لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} .
وهم الذين قال الله تعالى عنهم: {فاستخف قومه فأطاعوه} .

--------------
[1] ولا تزال الصين الشعبية تحاول إظهار التمسك بالشيوعية والإلحاد، ولكنها في طريقها إلى الاقتداء بأختها: دولة الاتحاد السوفييتي، طال الوقت أم قصر.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل

صيد الفوائد العلماء وطلبة العلم د. عبدالله قادري الأهدل