بسم الله الرحمن الرحيم

المسلمون في أوربا ومسئوليتنا عنهم (14)


2 - ما الواجب علينا عمله؟
إن أبواب العمل الإسلامي مفتحة في العالم، ما عدا بعض البلدان الشيوعية التي بدأت تظهر السير البطيء نحو فتح أبوابها ليتنفس المسلمون فيه الصعداء (كان هذا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد انهار الآن، واستقلت غالب الشعوب الإسلامية وأصبح الباب مفتوحا-في الجملة-للدعوة إلى الله، إذا وجد الدعاة الحكماء الصادقون، ووجد المال الذي يعينهم على القيام بالدعوة إلى الله، وقد أنشئت كثير من المساجد والمدارس في حدود طاقة المسلمين في فترة قصيرة، وإن كان أكثر حكام تلك الشعوب يتربصون بالدعوة الإسلامية الصحيحة وأهلها، حيث لا زال بعضهم على ما كان عوده أبوه (أعني بأبيه: الملحدين أو العلمانيين) وما عدا كثيرا من البلدان الإسلامية التي لا يزال حكامها يحاربون الدعوة إلى تطبيق شريعة الله. )
ولنذكر بعض تلك الأبواب المفتحة للعمل الإسلامي في بلدان الغرب، ليلج كل قادر على ذلك العمل، من الباب الذي يناسبه على الوجه الذي يقدر عليه.
أولا: الإكثار من المنح الدراسية لأبناء المسلمين في العالم، وبخاصة في أوروبا، وغيرها من دول الغرب، سواء أكان هؤلاء المسلمون من الأوربيين أم من أبناء الجاليات الإسلامية الذين يجيدون لغات تلك البلدان مثل أهلها، لأنهم ولدوا ونشئوا فيها، وجالياتهم في أمس الحاجة إلى تعليمهم، ليعودوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، ويجب أن يعنى بتربيتهم
-مع تعليمهم-تربية ربانية إيمانية وعبا دية وسلوكية، وإن أهل السنة لأولى بتحقيق هذا المقصد وولوج هذا الباب، من غيرهم من الفرق الضالة والمبتدعة الذين يتخطفون أبناء المسلمين من أهل السنة ويغرونهم بالمنح الدراسية في جامعات أوروبا أو في الجامعات الموجودة في بلدان تلك الفرق، لتعلم أولئك الطلاب عقائدها وتربيهم عليها، ثم تجندهم لنشرها بين أهليهم، وتستغلهم في تنفيذ مخططاتها وسياساتها التي تقصد من ورائها شق صفوف أهل السنة وإفساد عقيدتهم الصحيحة التي لا يجوز التفريط فيها.
ولهذا الباب-تكثير المنح في الجامعات الإسلامية-أثره الفعال في نشر أي فكر أو مبدأ، ومن أحق به منا، ونحن أهل المبدأ الحق؟
ثانيا: من أهم الأبواب نفعا لنشر الدعوة الإسلامية في أوروبا-وغيرها-اختيار طلاب صالحين من البلدان الإسلامية واعين، لديهم دراسات إسلامية جيدة واطلاع على ثقافة العصر، وبعثهم إلى جامعات تلك البلدان، ليتلقوا فيها العلم الذي تحتاج إليه بلدانهم، ويكون من أهم أهدافهم تعلم لغة القوم ونشر الدعوة في صفوف الطلاب المسلمين في تلك الجامعات، سواء كانوا من الوافدين إليها من خارج البلد أو من أبناء الجاليات إسلامية أو من أبناء البلد نفسه، والاتصال بالجاليات الإسلامية في المساجد والمراكز والمدارس الخاصة بهم، وكذلك يقومون بالدعوة في أوساط زملائهم من غير المسلمين بالطرق المناسبة، إن هؤلاء الطلاب الذين يختارون ويبتعثون إلى تلك الجامعات يكون لهم أثر طيب في الدعوة، لأنهم يجيدون لغة أهل البلد ويدرسون فيه، ويفيدون الناس أكثر من غيرهم، ويستفاد منهم إذا رجعوا إلى بلادهم في ترجمة بعض الكتب الإسلامية إلى لغة تلك البلدان أو تأليفها ابتداء، إن كانوا قادرين على ذلك، لتوزع على من يجيد تلك اللغة وتقام بها الحجة.
والذي يرى نشاط الطلبة الصالحين وتأثيرهم النسبي في الناس، يعرف أهمية هذا الاقتراح وفائدته.
ثالثا: حصر المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب، لمعرفة نشاط القائمين عليها، معرفة صحيحة مبنية على الاتصال الشخصي أو التزكية الموثوق في أهلها، ثم إعانتها بالمال والعلماء والمراجع الإسلامية وكل وسيلة ممكنة نافعة لنشر الإسلام.
الحرص على وضع الأمور في مواضعها.
وهنا تنبيه مهم تنبغي العناية به، وهو أن لا يوثق بمجرد النشرات التي تصدرها بعض الجماعات للتعريف بنفسها، فإن بعض الذين ينتسبون إلى الدعوة يبالغون في نشاطهم كثيرا، ويكثرون من الصور الفوتوغرافية للاجتماعات الجماهيرية التي تحصل في بعض المناسبات، ويدعون لأنفسهم أكثر مما يعملون، ليجمعوا بذلك الأموال والمساعدات، وإذا فتشت عنهم للتأكد من دعواهم وجدت الدعايات أكثر من العمل، فقد تجد عندهم مباني فخمة ومساجد كبيرة ومرافق كثيرة، ومكتبات مليئة بالمراجع الإسلامية، عربية وغير عربية، ولكنك تسمع جعجعة ولا ترى طحينا.
وترى عكس ذلك في بعض الجماعات، حيث يؤثرون العمل على الكلام، فتجد عددهم قليلا ومقر عملهم صغيرا، ومسجدهم شقة صغيرة، وليس عندهم من المراجع ما يفي بحاجتهم، ومع ذلك تجد نشاطهم مؤتيا ثماره، وكثيرا ما ينال الأموال والمساعدات القسم الأول ويحرم منها الثاني الذي ينفق على الدعوة غالبا من دخله الخاص، وإذا حصل على مساعدة مالية حرص على الاستفادة منها في نشر الإسلام.
وإذا تبين لمن يريد فعل الخير صدق بعض المسؤولين عن المركز الإسلامي أو المدرسة الإسلامية، فعليه أن يجود من فضل ماله بما يساعد أولئك المسؤولين ليؤدوا عملهم الذي اختاروه.
وأفضل الإعانات لهذه المراكز إيجاد مصدر مالي دائم ينفقون منه على مصالح الدعوة دون انقطاع، وذلك بوقف بعض العقارات وجعل ريعها عائدا إليها تصرفه على وسائلها التي اتخذتها لنشر الإسلام...
رابعا: إمداد تلك المراكز والجاليات بدعاة مؤهلين فقهاء في الإسلام، ذوي تقوى وورع وخلق كريم، ومعرفة بلغة أهل البلد وبعض لغات الجاليات الإسلامية فيه، ومعرفة بأحوال الناس وثقافاتهم، ليقوموا بتعليمهم ودعوتهم إلى الإسلام وإفتائهم وإمامتهم، وإلقاء المحاضرات العامة والخاصة بينهم، وهذا الباب يحتاج إلى تعاون الأغنياء مع تلك المراكز بحيث يكفل الغني داعية أو أكثر براتب شهري يفي بحاجاته، وقد قامت بعض الدول بتعيين دعاة في بعض بلدان أوروبا وفي غيرها ( من تلك الدول المملكة العربة السعودية، عن طريق رابطة العالم الإسلامي، والرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (وقد انتقلت وظيفتا الدعوة والإرشاد إلى: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد المستحدثة.)
وكذلك دولة الكويت عن طريق وزارة الأوقاف، وتقوم جمعيات خيرية كثيرة فيها بمجهود في هذا الباب، وكذلك مصر عن طريق الأزهر... ) ولكن المسلمين في حاجة إلى المزيد، لكثرتهم وقلة العلماء والدعاة بينهم، وإسهام الأغنياء يكمل ذلك النقص، والمسؤولية عامة كما مضى.
خامسا: إعانة المسلمين على إنشاء مدارس كاملة، تجمع بين المنهج الإسلامي ومنهج الدولة التي تنشأ فيها المدرسة، لتضم أبناء المسلمين وتحفظهم من الذوبان في المجتمع الأوربي، بسبب دراستهم أيام الأسبوع كلها في مدارس الغرب، على أن تمد تلك المدارس بالمناهج الإسلامية والكتب الدراسية الإسلامية والمدرسين الأكفاء.
و الباب مفتوح لإقامة مثل هذه المدارس، وقد حاول بعض المسلمين إنشاء مدارس من هذا النوع لأبنائهم، ولكنهم قد يفشلون، إن لم يكونوا فعلا قد فشلوا، لأن الدول الأوربية تشترط في إنشاء مثل هذه المدارس شروطا معينة في قوة المباني وفي سعة فصولها وفي مستوى تأثيثها، وفي مرافقها، وتمنح أهلها فرصة لمدة معينة تكون نفقات المدرسة على حساب منشئيها، فإذا مضت المدة وهي مستكملة الشروط منحتها الترخيص والاستمرار، وقد تساعد الدولة الأوربية بثمانين في المائة من نفقاتها، وقد تساعد بنفقاتها كلها بحسب النظام المتبع في كل دولة.
سادسا: إنشاء دار للترجمة يختار لها العلماء الأكفاء الذين عندهم فقه في الدين وإجادة كاملة للغات الأوربية المختلفة، وتختار الكتب المفيدة للتعريف بالإسلام في كل الموضوعات: الإيمانية والعبادية والسلوكية والمعاملات... لتترجم وتطبع وتنشر بين المسلمين وغيرهم، في البلدان الأوربية، وكذلك تؤلف بعض الكتب ابتداء ممن عنده مقدرة على ذلك.
وأهم ما تجب العناية به في هذا الباب ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم المختلفة، فقد قام بعض المستشرقين من اليهود والنصارى وبعض الفرق الكافرة أو المنحرفة من المنتسبين إلى الإسلام، بترجمة معاني القرآن الكريم إلى بعض اللغات ترجمات محرفة، دسوا فيها ما يريدون من عقائدهم ومبادئهم ليضلوا المسلمين الجهال وغيرهم، وقد لا يوجد غير ترجماتهم في بعض البلدان، وذلك يلجئ المسلمين ومن يريد التعرف على الإسلام من غيرهم إلجاء، إلى قراءتها مع ما فيها من تحريف وضلال.
ولا شك أنه يجب على المسلمين القادرين القيام بهذا المشروع، سواء بالترجمة ابتداء، أو الحصول على ترجمات قريبة من السلامة وتصحيحها ونشرها، وإذا لم يفعلوا فهم آثمون، لأن ذلك من فروض الكفاية التي لا تسقط عن كل قادر عليها إلا إذا قام بها من تحصل به الكفاية.
هذا، ويجب أن تكون الترجمة تفسيرا لمعاني القرآن الكريم، بحيث يفهم منها القارئ مراد الله منه، وليست ترجمة حرفية تختلط فيه المصطلحات القرآنية بالمصطلحات المضادة لها، أو المخالفة لمعانيها...
سابعا: إعانة المراكز الإسلامية بنشر الإسلام، عن طريق وسائل الإعلام كإنشاء إذاعات محلية، أو استئجار أوقات معينة من إذاعات قطرية أو إقليمية، أو ساعات معينة لبث مواد تلفزيونية، أو إيجاد جرائد ومجلات خاصة، أو نشر مقالات إسلامية في بعض الجرائد الأوربية القوية الانتشار التي قد تتعاون مع المسلمين من أجل الكسب المادي، وهذا يحتاج إلى إعداد رجال إعلام مسلمين مثقفين ثقافة إسلامية، ليبلغوا الناس دعوة الإسلام، كما يحتاج إلى المال الذي يمكن المسلمين من ذلك.
تقديم الأولويات على ما عداها.
هذا وليعلم أن المصلحة تقتضي تقديم الأولويات، بحيث يبدأ بالأهم فالمهم، فإذا كنا في حاجة-مثلا-إلى بناء مسجد يتسع لعدد معين من المصلين، وفي ذات الوقت نحتاج إلى وسيلة من الوسائل لتعليم المسلمين، كمدرسة، أو لتبليغهم وتبليغ غيرهم دعوة الله وعندنا من المال ما يكفي لإقامة مسجد غير مزخرف، وإيجاد الوسيلة الأخر معه، فلا يجوز أن نؤخر تلك الوسيلة من أجل بناء مسجد مزخرف ننفق فيه كل الأموال للتباهي به، وأبناء المسلمين في حاجة إلى التعليم والمسلمون وغيرهم في حاجة إلى أن يبلغوا دين الله.
أما أن تبني مساجد كبيرة مزخرفة خالية من لأئمة والمدرسين الأكفاء، من ذوي العلم والقدوة الحسنة والقدرة على تبليغ الناس دين الإسلام بلغاتهم وتعليم أبناء المسلمين دينهم، فإن تلك المساجد المشيدة لا تفيد المسلمين ولا غيرهم الفائدة المطلوبة، وتكون غاية وجودها أن تدرجها الدول الأوربية في أدلة الآثار والمتاحف، ليزورها السائحون ويقال لهم: هذا أنموذج لمساجد المسلمين، وتنال تلك الدول مكاسب سياحية من تلك المساجد كما تنال ذلك من المتاحف ونحوها.
فالمقصود من المسجد هو عمارته بعبادة الله وأداء رسالة التعليم والدعوة فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر ببناء مسجد في المدينة إلا بعد أن دخل الإسلام كل بيت فيها تقريبا، بعث مصعبا رضي الله عنه فعلم الأنصار القرآن والإسلام، وعندما جاء عليه الصلاة والسلام إلى المدينة بدأ ببناء المسجد، وفيه رجال يصلون ويتفقهون، والوحي ينزل عليه فيه، وفيه آخى بين المهاجرين والأنصار، وفيه أمر من عنده مال أن ينفق على من ليس عنده مال، وفيه نظم الجيوش للدفاع عن الدولة الناشئة، وفيه عقد المعاهدات... وعندما بناه بناه من المواد السهلة المتيسرة ولم يزخرفه، بل نهى عن زخرفة المساجد، فلنبن المساجد بالمواد القوية ولتكن جميلة، ولكن دون زخرفة، ولتنفق أموال الزخرفة على تعليم أبناء المسلمين والدعوة إلى الله.
وقد أخبرني بعض المسلمين أن البابا عندما حضر إلى هولندا واحتشدت حوله جماهير النصارى، قال لهم: لا تخافوا من المسلمين ولا يزعجنكم وجودهم في أوروبا، ولا كثرة مساجدهم، وإذا طلبوا منكم مسجدا فأعطوهم مسجدين، ولكن عليكم أن تجتهدوا في تربية أبنائهم في مدارسكم على حضارتكم المسيحية، فهم بين أيديكم، فإذا فعلتم ذلك أصبح أبناؤهم أوربيين، أما آباؤهم فسينقرضون، وستصبح مساجدهم متاحف لا تقدم ولا تؤخر!.
لهذا يجب أن يعلم المسلمون أن داعية كفؤا، أو كتابا يشرح للناس مبادئ الإسلام شرحا صحيحا بلغة قوية، أو جريدة صغيرة تبلغ بها رسالة الله، تنطلق من غرفة صغيرة يزدحم فيه المصلون، خير من مسجد كبير مزخرف يبنى في أبرز مكان في أوروبا، بدون أن يكون فيه دعاة أكفاء ووسائل يبلغون الناس بها دين الله، وإن مدرسة ابتدائية أو روضة أطفال تحفظ أبناء المسلمين من الذوبان في المجتمع الأوربي خير من مركز كبير يشتمل على كل المرافق بدون دعاة إلى الله ينشرون دين الله.

تابـــــع

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل