بسم الله الرحمن الرحيم

المبحث الثالث: جهاد الفرقة والتصدع ( 143 -147)

(143)

المبحث الثالث: جهاد الفرقة والتصدع
إن اجتماع كلمة المسلمين ووحدتهم، وحماية صفهم من الفرقة والخلاف والتصدع من أعظم الواجبات المفروضة على المسلمين، والسعي في حصول ذلك من الجهاد المأمور به، والتقصير في ذلك أو السعي في إيجاد الفرقة والخلاف والتفرق، من أعظم المعاصي التي يجب على المسلمين أن يحاربوها، ويحولوا بينها وبين وجودها في الجماعة الإسلامية في أي بقعة على وجه الأرض.

وقد عني القرآن الكريم والسنة النبوية وعلماء المسلمين قديماً وحديثاً بالدعوة إلى جمع كلمة المسلمين واعتصامهم بحبل الله والتنفير من الفرقة والخلاف وبيان مضارهما.

كما دل الواقع التاريخي على أن المسلمين بخير ما اجتمعت كلمتهم وأن النزاع شرٌ عليهم وخطر على وجودهم وكيانهم.

قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم )) [آل عمران: 100ـ105].

في هذه الآيات تحذير من الله لعباده المؤمنين، من أن يستجيبوا لأعدائه وأعدائهم الكافرين الذين منهم أهل الكتاب؛ لأنهم لا يقر لهم قرار وهم يرون المؤمنين مستقيمين على صراط الله، بل يسعون جادين في صرفهم عنه، إلى الكفر بالله تعالى، وليس من اللائق بالمسلمين وقد أكرمهم الله بهذا الكتاب، الذي بين لهم ما فيه سعادتهم في الدارين ودعاهم إليه، كما أوضح لهم ما فيه شفاؤهم في الدارين وحذرهم منه، ليس من اللائق بهم أن يستجيبوا لدعوة أعدائهم، إلى عصيان الله والكفر به، ولما كانت أساليب أعداء الله في الصد عن دينه متنوعة إغراءً وتهديداً، فإنه لا عاصم للمسلمين من الاستجابة لهم إلا ربهم، فإنه هو القادر على تثبيتهم على صراطه المستقيم الذي يحتاج سالكه إلى التزام طاعة الله، إلى أن يلقى ربه.

ولما كان المسلمون ليسوا على درجة واحدة في الاستقامة والصبر على طاعة الله، فإنه يخشى عليهم من التفرق والاختلاف، فيستجيب بعضهم لأعداء الله، ويبقى آخرون على صراطه، أمرهم الله بالاجتماع على كلمته والاعتصام بحبله ونهاهم عن التفرق، ولقد كان المسلمون عند نزول القرآن حديثي عهد بفرقة واختلاف وثارات، وكان بعض ذلك الخلاف من أهم أسبابه بعض أهل الكتاب، وهم اليهود الذين كانوا يورون نار الخلاف والاقتتال بين الأوس والخزرج، فما كانوا يضعون سلاحهم إلا ليحملوه للاعتداء أو الدفاع، لذلك ذكرهم الله بتلك الحالة التي كانوا فيها قبل الإسلام، وبنعمة الله عليهم بالإسلام حيث غدوا إخواناً متحابين، بعد أن كانوا أعداءً متقاتلين.

وإذ قد لا يستجيب المسلمون كلهم لنداء الله تعالى للاجتماع والاعتصام والقضاء على الفرقة وأسبابها، فإنه لا بد من أن تكون في المسلمين طائفة هادية داعية إلى الخير، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، تأخذ على يد السفيه وتعين صاحب الحق على صاحب الباطل؛ لأنه بدون ذلك لا فلاح، بل خسران ووبال، كما كان ذلك حاصلاً فيمن قبل هذه الأمة من أهل الكتاب، الذين تفرقوا واختلفوا، فأنزل الله بهم عقابه جزاءً لهم على تفرقهم واختلافهم، بعد أن أنعم عليهم بآياته الهادية.

كما حذر الله تعالى المسلمين من التنازع والاختلاف، ورتب على تنازعهم واختلافهم فشلهم وذهاب هيبتهم، فقال تعالى: (( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين )) [الأنفال: 46].

وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب حيث تفرقوا واختلفوا، بعد أن جاءهم من عند الله الحق مبيناً في وحيه الذي أنزله على أنبيائه الذين بلغوهم رسالته، قال تعالى: (( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة.. )) [البينة: 4].

وأمر الله تعالى المؤمنين بإصلاح ذات بينهم إذا حصل بينهم خلاف، فقال: (( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )) [الأنفال: 1].

قال في المنار: "أي أصلحوا نفس ما بينكم وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض، وهي رابطة الإسلام، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة وترك الأثرة والتفرق ـ إلى أن قال ـ: وأمرنا في الكتاب والسنة بإصلاح ذات البين، فهو واجب شرعاً يتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها، وتحفظ به وحدتها" [المنار: 9/542].

وقال تعالى: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )) [الحجرات: 9ـ10].

فقد أوجب الله في هذه الآيات أن يقوم المسلمون بالصلح بين أي طائفتين منهم حصل بينهم خلاف بالعدل، فإذ لم يقبلوا الصلح بالعدل فإنه عندئذٍ يجب على المسلمين أن يقاتلوا الطائفة الباغية حتى تعود إلى صف المسلمين، وفي هذا اهتمام عظيم بالقضاء على أسباب الخلاف والشقاق بين المسلمين.

قال القرطبي رحمه الله:
"قال العلماء: لا تخلوا الفئتان من المسلمين في اقتتالهما إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً أو لا.. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما.
وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المقضي عليها بالقسط والعدل، فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة، والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به في اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين" [الجامع لأحكام القرآن: 16/317].

(144)

وهنا تنبيهان:
التنبيه الأول:
وجوب الإصلاح بين طوائف المسلمين بالعدل، ومن لم يستجب للصلح بالعدل، قوتل وأجبر على الانصياع للحق.

وهذا الفرض يكاد الآن يكون مفقوداً بين المسلمين، لأنه إذا حصل خلاف بين دولتين من الدول المنتسبة إلى الإسلام، لا تقوم الدول الأخرى بالصلح بالعدل. وإنما تحاول الصلـح الذي لا يتحقق فيه العدل، حيث يكون الحل المطروح في جانب القوي على الضعيف، ولو كان ظلماً صريحاً أو فيه ظلم، لأن الضعيف مضطر لقبول ذلك، لعدم قدرته على الحصول على حقه بالعدل، ولأن القوي قد أخذته العزة بالإثم، وقد وقع الضعيف في قبضة يده، وهو لا يريد تفويت الفرصة، ولأن من نصب نفسه مصلحاً لم يدخل بنية صادقة لله تعالى، وإنما دخل ـ في الغالب رياء ليقال عنه: إنه مصلح ـ أو دخل بنية إضعاف طائفة وتقوية أخرى، اتباعا لهوى أو خوفا من قوي.

التنبيه الثاني: أن كثيراً من طوائف المسلمين تقتتل فيما بينها لمدة طويلة، ويظهر حكام بعض الشعوب الإسلامية تحمساً للصلح الذي سبق الحديث عنه في التنبيه الأول، ثم يفترقون والدماء تسفك والأعراض تنتهك والحقوق تغتصب دون أن يحركوا ساكناً ولا يعينوا ضعيفاً أو يقفوا مقاتلين ـ كما أمرهم الله ـ طائفة البغي.
وعذرهم في ذلك أنهم لا يرغبون في التحزب أو في التدخل في شؤون الغير، وهو عذر من أقبح الأعذار، وهو أعظم فظاعة من احتجاج بعض الناس بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قتال المؤمن كفر ) على منع قتال الطائفة الباغية إذا كانت من المسلمين، وقد شنع عليه علماء المسلمين، مع أنه، فيما يظهر إنما رأى هذا الرأي من باب الورع الذي وسوس له فيه الشيطان.

قال القرطبي رحمه الله:
"دون أن يحركوا ساكنا ولا يعينوا ضعيفاً أو يقفوا مقاتلين كما أمرهم الله طائفة البغي، عذرهم في ذلك أنهم لا يرغبون في التحزب أو في التدخل في شؤون الغير، وهو عذر من أقبح الأعذار وهو أعظم فظاعة من احتجاج بعض الناس بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قتال المؤمن كفر" على منع قتال الطائفة الباغية إذا كانت من المسلمين، وقد شنع عليه علماء المسلمين، مع أنه فيما يظهر إنما رأى هذا الرأي من باب الورع الذي وسوس له فيه الشيطان.

قال القرطبي رحمه الله:
(في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد المسلمين، وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين واحتج بقوله عليه السلام: "قتال المؤمن الكفر"، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفرا لكان الله تعالى قد أمر بالكفر تعالى الله عن ذلك، وقد قاتل الصديق رضي الله عنه من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة وأمر ألا يتبع مول ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم، بخلاف الواجب في الكفار. وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل، لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولو جد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله عليه السلام: خذوا على أيدي السفهاء) [الجامع لأحكام القرآن (16/317)].

قال الكاتب:
كأن الطبري في هذه الجمل يصف حالة المسلمين الآن، حيث تتكتل طائفة في أي شعب من الشعوب الإسلامية، وتطلق على نفسها الحزب الفلاني وتحتل مناصب الدولة وتحمل السلاح، وتتفق مع أحد المعسكرين الكافرين على التعاون على قتل الشعب المسلم باسم الشعب نفسه.

والمسلمون يذوقون أصناف العذاب والحرمان، والهتك لأعراضهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم، وقد يجد الحزب الحاكم من علماء السوء الضالين من يمجده ويفتي بسداد طريقته، والشعب كله في غفلة وفي نوم عميق دون أن يثأر لنفسه من الحاكم الكافر الخارج على الإسلام.

فإذا وفق الله طائفة في شعب من الشعوب الإسلامية، فقامت تدافع عن ذلك الشعب وترفع يدها في وجه الطاغي قائلة له: قف عند حدك سلط عليها زبانيته فأخذ يقتل ويسجن ويعذب ويشرد وبقية الشعب تتفرج لا تمد يد العون لا بالنفس ولا بالمال والصالح من يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون ) مثل العجائز.

وغالب الناس يعيب الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، متسائلين: لماذا يلقى هؤلاء الناس بأنفسهم إلى التهلكة؟ وحكام الشعوب الإسلامية الأخرى ساكتون كان الأمر لا يعنيهم، يخشون أن يقال عنهم أنهم متحزبون أو متعصبون لجهة أو لطائفة، هذا إذا كان أولئك الحكام ممن يسكت ولم يؤيد الحكام المحاربين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لا بل إن شعوبا إسلامية يعتدي عليها كافرون ملحدون بالقوة، ويحاولون استئصال جذور الإسلام من تلك الشعوب، وأهلها يذبحون وتستحل حرماتهم، وهم يقاتلون أعداء الله، ولم يجدوا من يمدهم من المسلمين بالسلاح الكافي والأغذية والملابس، والسبب في ذلك كله انطماس جذوة الإيمان في قلوب المدعين للإسلام الساكتين عن المنكر.

(145)

تابع لوجوب الصلح بين المسلمين بالعدل
وما اعتذر به تاركو الصلح من أنه ابتعاد عن التحزب أو التحيز، أو عدم التدخل، لا عبرة به، بل هو عذر يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم علماء الإسلام، وما مضى من آيات الحجرات ومن كلام القرطبي والطبري واضح في هذا.

ولكن لا بد من زيادة بيان ليأخذ به مريد الحق، وليخرس لسان صاحب هذا العذر القبيح.

إن القاعدة في الإصلاح أن يكون بالعدل، وهذا هو الواجب على المصلح رضي من رضي وسخط من سخط، وإذا لم يصلح بالعدل فهو معين على البغي.

قال ابن تيمية رحمه الله:
(وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر، إنما هو البغي وترك العدل فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها بعضا من الأخرى، دما أو مالا أو تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق، فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية، وإذا أصلح مصلح بينهما فليصلح بالعدل.

كما قال الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم )[مجموع الفتاوى (28/377) والآيتان في سورة الحجرات (9ـ10)].

أما الاعتذار بالتحزب أو التحيز فلا يقول به إلا جاهل بالإسلام وواجباته، أو عدو خفي له يريد أن يدلس على غيره بذلك، فنصر الحق وأهله واجب والانضمام مع أهل الحق ضد أهل الباطل فرض.

والناس كلهم ينقسمون إلى قسمين أو حزبين.
الحزب الأول: حزب الله:
وهم أهل طاعته واتباع رسوله، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

الحزب الثاني: حزب الشيطان:
أو حزب الكفر وهم أعداء الله الكافرون أتباع الشيطان، ولا ثالث لهما - إلا المنافقين- وهم من الحزب الثاني وإن كانوا قد يظهرون في بعض الأوقات بمظهر حزب الله لأغراض دنيوية.

قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا أن حزب الله هم المفلحون) [المجادلة: 32].

فهذا هو حزب الله الذي شرفه الله بالانتساب إليه سبحانه.
وقد بين قبل ذلك عدوه سبحانه وعدو حزبه ونسبه إلى الشيطان بلفظ: (حزب) كما قال تعالى: (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان، ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون ) [المجادلة: 19].

فالذي يحجم عن نصر الحق وأهله، خوفا من أن يتهم بالتحزب، إنما يفر من الانتساب إلى حزب الله، والذي يفر من الانتساب إلى حزب الله، لم يبق له ما ينتسب إليه إلا حزب الشيطان (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) [المجادلة:19].

نعم التحزب المذموم هو الذي يكون المقصود منه التناصر على الحق والباطل، أو يكون المقصود به صدع المسلمين وتشتيت شملهم وإضعافهم، فإن ذلك لا يجوز بحال من الأحوال، أما حينما يكون الهدف منه مناصرة الحق ضد الباطل فإنه متعين على المسلمين ليكونوا كلهم صفا واحدا ضد الكافرين وأتباعهم.

وقد بين علماء الإسلام ذلك بيانا شافيا فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى أن التآخي والتحزب بين المسلمين من أجل التعاون على البر والتقوى إذا كان ذلك في مجتمع قد تحققت فيه الأخوة الإيمانية العامة التي عقدها الله ورسوله بينهم في الكتاب والسنة، بين رحمه الله أن فيها نزاعا فقال:
(وإنما النزاع في موآخاة يكون مقصودهما بها التعاون على البر والتقوى، بحيث يجمعهما طاعة الله وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون: تجمعنا السنة وتفرقنا البدعة، فهذه التي فيها النزاع.

فأكثر العلماء لا يرونها، استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله، فإن تلك كافية محصلة لكل خير فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها، إذ قد أوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس، ومنهم من سوغها على الوجه المشروع إذا لم تشتمل على شيء من مخالفة الشريعة) [مجموع الفتاوى (35/96)].

وبين في موضع آخر معنى حزب الحق، ومعنى حزب الباطل فقال: (وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبا. فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، و،إن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله.

فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والإئتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان. [مجموع الفتاوى (11/92)].

فهل بقيت بعد هذا حجة لمن يرى المسلمين يتناحرون ثم يقعد عن القيام بالإصلاح بينهم أو قتال الطائفة الباغية التي ظهر بغيها جليا بحجة الخوف من التحزب؟

ولقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على الاجتماع والائتلاف وحذرهم من الفرقة والاختلاف وبين المضار المترتبة على الفرقة.

ففي حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه [البخاري رقم 481، فتح الباري (1/565) ومسلم (4/1999)].

وجعل صلى الله عليه وسلم التنادي بالشعار الإسلامي الذي وصف الله به أصحابه: "المهاجرين، والأنصار" من أجل العصبية التي تحدث الفرقة والخلاف من دعوى الجاهلية.

كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى جاهلية"؟ قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: "دعوها فإنها منتنة" [البخاري رقم 4905 فتح الباري (8/648) ومسلم (4/1998)].

وقد جعل صلى الله عليه وسلم السباب الذي يقع بين المسلمين شعبة من شعب الفسوق، كما جعل القتال الذي ينشب بينهم شعبة من شعب الكفر، لما يفضي إليه السباب والقتال من الأحقاد والفرقة.

ففي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" [البخاري رقم 48، فتح الباري (1/110) ومسلم (1/81)].

وفي حديث جرير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: (استنصت الناس " فقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " [البخاري رقم 121، فتح الباري (1/217) ومسلم (1/81)].

ولحرصه صلى الله عليه وسلم على اجتماع كلمة أمته، والحول بينهم وبين الخلاف والفرقة، أمرهم أن يصبروا على الأئمة الظالمين ذوي الجور ما لم يأتوا الكفر الصريح.

كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان [البخاري رقم 7055) فتح الباري (13/5) ومسلم (3/1470)].

وفي حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر) قال: أي رسول صلى الله عليه وسلم -: "نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " [البخاري رقم 3606، فتح الباري (6/615) ومسلم (3/1475)]. الحديث.

(146)

تابع لجهاد الفرقة والتصدع
ولما كان الاجتماع والائتلاف من دعائم قوة المسلمين التي بها يرتفع شأنهم وتعلو كلمتهم على كلمة أعدائهم، جعل صلى الله عليه وسلم إصلاح ذات البين أفضل من الصيام والصلاة والصدقة، ولما كان فساد ذات البين من أعظم الأمور التي تضعف المسلمين وتبعدهم عن رضا الله ونصره، جعل ذلك صلى الله عليه وسلم حالقاً للدين بمنزلة الموسى التي تحلق الشعر.

كما في حديث أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة". وفي رواية: (هي الحالقة لا أقول هي تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) [أبو داود (5/218)].

وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من كل أسباب الخلاف والفرقة، كالحسد والبغضاء والهجر والغيبة والنميمة وغيرها، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام " [البخاري رقم 6065 وفتح الباري (10/481) ومسلم (4/1983)].

كما نهى عن تجسس المسلم على المسلم وتتبع عوراته وسوء الظن به، دون دليل واضح، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) [الحجرات: 12].

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا" الحديث [البخاري رقم 6066 فتح الباري (10/484) ومسلم (4/1985)].

ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون الثالث حتى يختلطوا بالناس، خشية أن يقع في نفس الثالث شيء فيظن بهما ظنا سيئا، وذلك من أسباب الخلاف، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال النبي في صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج رجلان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس أجل أن يحزنه " [البخاري رقم 6290 فتح الباري (11/82) مسلم (4/1718)].

وفسر صلى الله عليه وسلم الغيبة المنهي عنها فقال: "أتدرون ما الغيبة"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "ذكرك أخاك بما يكره " قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته " [مسلم (4/2001)].

وقال البخاري رحمه الله:
باب النميمة من الكبائر.
ثم ساق حديث ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما - وفيه: (وكان الآخر يمشي بالنميمة) [البخاري رقم 6055 فتح الباري (10/472)].

ولقد جد إبليس لعنه الله في إحداث الفرقة والاختلاف بين المسلمين، وظفر في ذلك بما لم يظفر به في غيره، ودخل عليهم من كل باب وأغراهم بكل سبل الإغراء، فإن رأى أن باب الدنيا أيسر له في التفريق بين قوم منهم، دخل عليهم من باب الدنيا: المال، الجاه، المنصب، القبيلة والعشيرة الأرض، النساء وغيرها.

وإن رأى أن باب التدين والعبادة والعلم أيسر له في التفريق بين آخرين، دخل عليهم من هذا الباب، فأغرى بعضهم بالاجتهاد وأغرى الآخرين بالتقليد، وأغرى هؤلاء بالتشديد وأغرى غيرهم بالتيسير، أغرى قوما بكتب الفقه وحضهم على الالتزام بها، لأنها قرائح علماء عظماء خدموا الإسلام خدمة عظيمة، فالخروج على أقوالهم زندقة وإلحاد وطعن في السلف الصالح، وأغرى آخرين بكتب الحديث وحضهم على البعد عن كتب الفقه، لأنها أفكار بشر يخطئون ويصيبون، والاقتراب منها يضل ويبعد عن السنة والمنبع الصافي الذي جاء به الكتاب والسنة، وأن في مقدور كل مسلم متعلم أن يأخذ أحكام دينه من كتاب الله وسنة رسوله مباشرة، دون حاجة إلى أقوال الآخرين التي هي سبب في قفل باب الاجتهاد الذي سما بالمسلمين عندما كانوا يلجونه إلى أوج المجد، ولم تعترضهم مشكلة من المشكلات إلا وجدوا لها حلا في الكتاب والسنة والإجماع.

وأغرى قوما بالقياس وحثهم على المبالغة فيه لكثرة النظائر واعتبار النظير بالنظير وحضهم على الالتزام به، ولو خالف بعض النصوص الظنية الدلالة أو الثبوت لأنه أضمن، كما أغرى آخرين بالابتعاد عنه وذمه وعدم الاعتبار به لأنه من أهم أسباب معصية إبليس وخروجه عن طاعة الله، وأغرى قوما بالمبالغة في التكفير فكل من ارتكب كبيرة يجب أن يحكم عليه بالكفر ولو أتى بما أتى من أحكام الإسلام الأخرى.

كما أغرى آخرين بالبعد عن تكفير الناس ماداموا على معرفة بالله تعالى ولو لم يستجيبوا لأي أمر من أوامره أو لم ينتهوا عن أي شيء نهاهم الله عنه، وهكذا دخل إلى الآباء والأبناء والأسر والجماعات والأحزاب.

فأغرى بعضهم بمذاهب المعسكر الغربي وأغرى آخرين بمذاهب المعسكر الشرقي: السياسية والاجتماعية والعسكرية وغيرها حتى لم يبق بيت أو أسرة أو شعب أو حزب إلا كان فيه انقسام واختلاف لسبب من الأسباب.

وهكذا الدول المتجاورة والمتباعدة على السواء لا تجد دولة على وفاق تام مع أخرى.

(147)

تابع لجهاد الفرقة والتصدع
وهذا أحد كتاب المسلمين المعاصرين يلح في الشكوى من هذا التمزق والاختلاف فيقول: (إن عملية التمزيق والتشتيت التي ورثها العالم الإسلامي من مرحلة التجزئة والضعف وزادها الكافرون في مرحلة الاستعمار عمقا وبعدا قد بلغت الآن ذروتها.

والأفظع من هذا أن الكافرين المستعمرين راعوا خلال مرحلة الاستعمار وقبل الجلاء، أن يجعلوا في كل قطر جيوب مشاكل سياسية تستنفذ طاقة القطر من ناحية ومن ناحية أخرى تؤثر على سير الإسلام سياسيا بمشاكل حدود جوار، مناطق وضعها الطبيعي أن تكون لأقطار وضعت بيد أقطار أخرى، أقليات يوضع في يدها الحكم، إقامة دول غير عادية، تقوية الاتجاهات الممزقة لوحدة المسلمين... كما روعي في عملية التمزيق وإقامة الحكومات أن يعمق في العالم الإسلامي الصراع بين الأقطار المتجاورة والتفكير العازل بين هذه الأقطار مع ملاحظة عدم إعطاء الآمال الشعبية محتوياتها وآمادها.

صنعوا دولاً ليست لها مقومات الحياة المستقلة، وجعلوا بين الكيانات عقدا وأطلقوا قضية المصلحة من عقالها، وعملوا على إيجاد الأنظمة المختلفة المتجاورة: نظام رأسمالي يجانبه نظام اشتراكي، نظام ملكي يجانبه نظام جمهوري، يجانبه نظام ديكتاتوري [جند الله ثقافة وأخلاقاً لسعيد حوا ص17ـ18]. الخ....

ولقد أحس علماء الإسلام الذين رزقهم الله الفقه في دينه، خطر الفرقة والاختلاف بين المسلمين، فأنذروهم من ذلك وحذروهم كل التحذير، وحثوهم على الائتلاف ونبذ الفرقة وعدوا ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله.

قال الشيخ عبد الرحمن ابن ناصر السعدي رحمه الله:
(الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الإلفة واتفاق الكلمة، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)

وقال تعالى: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )

وقال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) [الحجرات: 9ـ10].

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله، وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد" إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على هذا الأصل العظيم.

فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل، في تأليف قلوب المسلمين واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية، في جميع أفرادهم وشعوبهم، وفي ربط الصداقة والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة.

ومن أنفع الأمور أن يتصدى لهذا الأمر جميع طبقات المسلمين من العلماء، والأمراء والكبراء وسائر الأفراد منهم، كل أحد بحسب إمكانه

فمتى كانت غاية المسلمين واحدة، وهي الوحدة الإسلامية، وسلكوا السبل الموصلة إليها، ودافعوا جميع الموانع المعوقة والحائلة دونها، فلا بد أن يصلوا إلى النجاح والفلاح.

ومما يعين على هذا، الإخلاص وحسن القصد فيما عند الله من الخير والثواب، وأن يعلموا أن كل سعي في هذا الأمر من الجهاد في سبيل، الله ومما يقرب إليه وإلى ثوابه، وأن المصلحة في ذلك مشتركة، فالمصالح الكليات العامة تقدم على المصالح الجزئيات الخاصة، ولهذا يتعين عليهم ألا يجعلوا الاختلاف في المذاهب (يعني الفقهية) أو الأنساب أو الأوطان داعيا إلى التفرق والاختلاف.

فالرب واحد والدين واحد، والطريق لإصلاح الدين وصلاح جميع طبقات المسلمين واحد، والرسول المرشد للعباد واحد، فلهذا يتعين أن تكون الغاية المقصودة واحدة. فالواجب على المسلمين السعي التام لتحقيق الأخوة الدينية والرابطة الإيمانية.

فمتى علموا وتحققوا ذلك، وسعى كل منهم بحسب مقدوره، واستعانوا بالله وتوكلوا عليه وسلكوا طرق المنافع وأبوابها، ولم يخلدوا إلى الكسل والخور واليأس، نجحوا وأفلحوا، فإن الكسل والخور واليأس من أعظم موانع الخير، فإنها منافية للدين وللجهاد الحقيقي، فمن استولى عليه الكسل والخور لم ينهض لمكرمة، ومن أيس من تحصيل مطالبه انشلت حركاته ومات وهو حي.

وهل أخر المسلمين في هذه الأوقات، إلا تفرقهم والتعادي بينهم وخورهم، وتقاعدهم عن مصالحهم والقيام بشؤونهم، حتى صاروا عالة على غيرهم.

ودينهم قد حذرهم عن هذا أشد التحذير، وحثهم على أن يكونوا في مقدمة الأمم في القوة والشجاعة والصبر والمصابرة والمثابرة على الخير والطمع في إدراكه، وقوة الثقة بالله في تحقيق مطالبهم ودفع مضارهم. [رسالة (وجوب التعاون بين المسلمين) ص5 ـ 6].

كما بين رحمه الله بعد ذلك الفرق العظيم بين علماء الإسلام المجاهدين، الذين يدعون إلى وحدة الكلمة والتصدي لنصر دين الله بشتى أنواع الجهاد، ومن يدعون العلم وهم حرب على الإسلام والمسلمين مقتدين في ذلك بأعداء الله المنافقين، بل هم منهم، لانطباق صفاتهم عليهم.

فقال: (الفرق العظيم بين رجال الدين وبين المخذلين والمرجفين).
قال تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظرو ما بدلوا تبديلا) [الأحزاب: 23].

هذا نعت رجال الدين: الصدق الكامل فيما عاهدوا الله عليه من القيام بدينه، وإنهاض أهله ونصره بكل ما يقدرون عليه، من مقال ومال وبدن وظاهر وباطن.

ومن وصفهم الثبات التام على الشجاعة والصبر، والمضي في كل وسيلة بها نصر الدين، فمنهم الباذل لنفسه، ومنهم الباذل لماله، ومنهم الحاث لإخوانه على القيام بكل مستطاع من شؤون الدين والساعي بينهم النصيحة والتأليف والاجتماع، ومنهم المنشط بقوله وجاهه، ومنهم الفذ الجامع لذلك كله...

وأما الآخرون وهم الجبناء المرجفون، فبعكس حال هؤلاء لا ترى منهم إعانة قولية ولا فعلية ولا جدية، قد ملكهم البخل والجبن واليأس، وفيهم الساعي بين المسلمين بإيقاع العداوات والفتن والتفرق، فهذه الطائفة أضر على المسلمين من العدو الظاهر المحارب بل هم سلاح الأعداء على الحقيقة.

قال تعالى فيهم وفي أشباههم: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم) [التوبة: 47].

أي يستجيبون لهم تغريراً أو اغتراراً، فعلى المسلمين الحذر من هؤلاء المفسدين، فإن ضررهم كبير وشرهم خطير، وما أكثرهم في هذه الأوقات التي اضطر فيها المسلمون إلى التعلق بكل صلاح وإصلاح وإلى من يعينهم وينشطهم.

فهؤلاء المفسدون يثبطون عن الجهاد في سبيل الله ومقاومة الأعداء ويخدرون أعصاب المسلمين ويؤيسونهم من مجاراة الأمم في أسباب الرقي… [نفس الرسالة السابقة ص 7].

فأين هذا الفهم الثاقب والنصح الخالص والنظر البعيد مع الفقه في الدين، من سعى كثير ممن يدعي العلم والتدين في تثبيط همة المسلمين وإيقاع الفرقة والاختلاف بينهم والوقوف ضد كل صلاح وإصلاح وجد واجتهاد وجهاد في سبيل الله؟

أين أمثال هذا الرجل المجاهد من خفافيش ظلام النزاع، وجعلان جلب الفرقة والاختلاف؟!
وبهذا يظهر أن من أعظم الجهاد في سبيل الله، جمع كلمة المسلمين على الحق، ودعوتهم إلى نبذ الفرقة والاختلاف، والوقوف صفاً واحداً ضد الأعداء.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل