بسم الله الرحمن الرحيم

محاسبة النفس ومخالفتها ( 133 -135)

(133)

الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني: محاسبة النفس ومخالفتها
وذلك بالأمور الثمانية الآتية:
الأمر الأول:
محاسبتها على ما منحها الله تعالى من النعم العظيمة التي توجب عليها شكره والبعد عن معصيته. إن نعم الله سبحانه وتعالى على عبده لا يحصيها إلا هو سبحانه.

فمنه تعالى كانت نعمة خلق هذا الإنسان وإيجاده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر كما بين له طريق الخير والشر، وحثه على سلوك الأولى وحذره من الثانية. قال تعالى: ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)) [الدهر: 1ـ3].

ومنه سبحانه نعمة الرزق حيث سخر له السموات والأرض والنباتات والحيوانات في البر والبحر، ومنحه الأدوات التي تعينه على تناول ذلك الرزق ـ المنفصلة عنه كالآلات الزراعية وآلات الصيد وآلات الطهي وغيرها ـ والمتصلة به، وهي جوارحه وأجهزة جسمه كاليدين والرجلين والجهاز الهضمي والجهاز الدموي والجهاز التنفسي والجهاز الإخراجي وغيرها، كما قال تعالى: ((يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك)) [الانفطار: 6-8].

وقال تعالى: ((أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاهاً، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، متاعاً لكم ولإنعامكم)) [النازعات: 27-33]. وقد شمل ذلك وغيره من نعم الله التي لا تحصى قوله تعالى: ((وما بكم من نعمة فمن الله..)) [النحل: 53]. وقوله: ((وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)) [إبراهيم: 34] وأعظم نعمة على الإنسان إنزال الكتب وإرسال الرسل لهدايته وبيان الهدى والضلال له ودعوته إلى الهدى وتحذيره من الضلال، كما قال تعالى: ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتبوا الطاغوت)) [النحل: 36].

الأمر الثاني:
تذكير النفس بأن الله تعالى لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء وأن كل شيء يعمله العبد فإنه محصًى عليه مكتوبٌ يحاسب عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلى لديه رقيب عتيد)) [ق: 16 ـ 18] وقال: ((وإن عليكم لحافظين ، كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون)) [الانفطار من 10 ـ 12].

وقال تعالى يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا، أحصاه الله ونسوه، والله على كل شيء شهيد)) [المجادلة: 6] وقال تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)) [الزلزلة 7 ـ 8] وفي حديث جبريل المشهور: الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [البخاري رقم 50 ، فتح الباري (1/114) ومسلم (1/36)].

ولهذا أمر الرسول  بتقوى الله في كل مكان لأنه تعالى حاضر: ((اتق الله حيثما كنت)) [الترمذي (4/355 ـ356) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وراجع جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 136)].

الأمر الثالث:
تذكير النفس بالموت، وبأهوال يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، وفيه تكشف الأسرار وتوزن الأعمال، فمن غلبت حسناته فاز ونجى، ومن غلبت سيئاته خسر وندم، ولات ساعة مندم، قال تعالى: ((إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت وأخرت)) [الانفطار: 1 ـ 5] وقال تعالى: ((فأما من ثقلت موازينه ، فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه، فأمه هاوية، وما أدراك ما هي، نار حامية)) [القارعة: 6 ـ 11].

وقال: ((فإذا جاءت الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسان ما سعى، وبرزت الجحيم لمن يرى، فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى)) [النازعات: 34 ـ 41].

ويجب كذلك أن ينبهها من غفلتها وإعراضها ولعبها ولهوها وظلمها، بأن قيام الساعة كذلك قريب وهو أمر يجب أن يعد له العدة، كما قال تعالى: ((اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا…)) [الأنبياء: 1 ـ 3 ].

وعليه أن يصف لها أهوال هذا اليوم فيطلعها على مثل قوله تعالى: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد)) [الحج: 1 ـ 2 ].

وعليه دائماً أن يوقظها من غفلتها بأن الموت على الرقاب فيجب أن يعد له العدة قبل أن يدهمه وهو على سخط الله تعالى، وقد أعذر الله إليها بما أعطاها من الفسحة في العمر كما قال تعالى: ((أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءكم النذير)) [فاطر: 37]. وقال تعالى: ((وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون، كل نفس ذائقة الموت، ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)) [الأنبياء: 34 ـ 35].

وقال: ((ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر)) [التكاثر: 1ـ2]. وبقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف إذنيه) [البخاري رقم 4937 ، فتح الباري (8/696) ومسلم (4/2195)]. وقوله في حديث أبي هريرة: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم) [البخاري رقم 6532 فتح الباري (11/392) ومسلم (4/3196)].

وكذلك يذكرها بالقبر ووحشته وعذابه الذي لا ينجو منه إلا صاحب العمل الصالح، ويذكر لها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ ـ لمحمد صلى الله عليه وسلم ـ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً) [البخاري رقم 1374 ، فتح الباري (3/232) ومسلم (4/2200)].

وهذا يدعو المؤمن أن يذهب بنفسه إلى القبور فيزورها ليتذكر الحياة وابتلاءه فيها والموت وما بعده، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) [مسلم (2/672)] وفي رواية في غير مسلم: (فإن زيارتها تذكرة) [أبو داود (3/557)] وفي رواية: (فزوروا القبور فإنها تذكم بالموت) [أبو داود (3/557)].

(134)

الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني: محاسبة النفس ومخالفتها

الأمر الرابع: توجيه النفس إلى الاقتداء بأهل القدوة الحسنة:
وهم أصحاب السمو والرفعة الذين ارتفعت نفوسهم عن كل ما يخالف أمر الله من شهوات الدنيا وسفاسفها وملذاتها، حباً لله وطمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه. حتى يكون ممن تشمله رحمة الله ومغفرته، إذ يحقق بذلك محبة الله ومحبة رسوله وعباده الصالحين، والمرء مع من أحب، فإن أحب أهل الكفر والفسوق والعصيان فهو معهم في الدنيا والآخرة، وإن أحب أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين كان معهم في الدنيا والآخرة.

ألا ترى أن المسلم يجب أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة يصليها لله فرضاً كانت أو نفلاً. وهو يدعو فيها بهذا الدعاء: ((اهدنا السراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين…)) [الفاتحة: 6] فمن هدي إلى صراط الله المستقيم مع المنعم عليهم، كان معهم يوم القيامة حيث يمر على الصراط مثلهم أو قريباً منهم، ومن ترك هذا السبيل واتبع سبلاً أخرى متفرقة، كان مع أهل تلك ا لسبل، وهم المغضوب عليهم والضالون.

وتذكير النفس بهذا الأمر من أعظم الدواعي لتزكيتها وتطهيرها وإعدادها للجهاد في سبيل الله.
قال ابن تيمية رحمه الله:
ومن هذا الباب ـ أي مما تستلزمه محبة الله ورسوله ـ ما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرء مع من أحب) [مسلم (4/232) وما بعدها]. وفي رواية أنه سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ـ أي ولما يعمل بأعمالهم ـ فقال: (المرء مع من أحب).

قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يجعلني الله معهم وإن لم أعمل عملهم.

وهذا الحديث حق، فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك، وكونه معه هو على محبته إياه، فإن كانت المحبة متوسطة أو قريباً من ذلك كان معه بحسب ذلك، وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك، والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه إذا كان المحب قادراً عليها، فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك، وإن كانت موجودة.

وحب النبي وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته، مع العلم بالمضاد، ولهذا قال تعالى: ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)) والموادة من أعمال القلوب. [مجموع الفتاوى: (10/752) والآية في سورة المجادلة: 22].

وليذكر المسلم نفسه بقصة يوسف عليه السلام التي يتضح بها التطبيق العملي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب). فقد توافرت كل دواعي الإغراء والترغيب لوقوعه في معصية الله، ثم كل وسائل التهديد والترهيب.

ومع ذلك كان مع من أحب وهو الله سبحانه وتعالى ـ فلم تستهوه دواعي الإغراء والترغيب، ولم تخضعه وسائل التهديد والترهيب، بل لجأ إلى ربه مستغيثاً به فأغاثه قال: ((رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم)) [يوسف: 33 ـ 34].

ولا يقال إن هذه المنزلة لا يبلغها إلا الأنبياء لأنهم معصومون، فإن الذي يقتدي بالأنبياء في مجاهدة نفسه وصبره ودعاء ربه واستعانته به يوفقه الله ويعينه، ويحول بينه وبين معصية الله وييسر له تزكية نفسه. وفي هذا تذكر قصة الثلاثة أهل الغار الذين فرج الله عنهم بتوسلهم إليه بأحسن أعمالهم التي تقربوا بها إليه مخلصين.

ومنهم ذلك الرجل الذي اجتهد في الوقوع في المعصية حتى تمكن منها فلما ذُكِّر بالله ذَكَر وخاف وترك لله : (وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال ففرج عنهم الثلثين) [البخاري رقم 2215 ، فتح الباري (4/408) ومسلم (4/2099)].
فليقتد المؤمن في مجاهدة نفسه بعباد الله الصالحين حتى يكون في ركبهم.

(135)

الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني: محاسبة النفس ومخالفتها

الأمر الخامس: تذكير النفس بمعنى الحرية الحقة ومعنى الرق والعبودية المذلين.

لأن النفس دائماً تحب أن تنطلق في ميادين شهواتها، وتكره أن يقيدها أحد عن تلك الشهوات ـ مهما كانت ـ وتظن أن في ذلك حريتها، وأن في تقييدها عبودية وخضوعاً لمن يقيدها عن شهواتها، وهي لا تريد الخضوع لأحد، وإنما تريد الحرية الكاملة، ولم يمر زمان من الأزمان ـ فيما يظهر اشتهر فيه النداء بالحرية، وإن كان الناس ينطلقون في كل الأزمنة وراء شهواتهم كما يشاءون، وذلك يكثر ويقل حسب تربية الناس وتوجيه قادتهم ـ لم يمر زمان مثل هذا الزمان انتشرت فيه الدعوة إلى الحرية ـ بهذا اللفظ ـ

والسبب في ذلك أن أعداء الله ممن يحبون إشاعة الفاحشة وتدنيس النفوس وبعدها عن الله تعالى، فسروا لها الحرية بعكس معناها والعبودية ـ كذلك ـ بعكس معناها، وعندما يسوء الإدراك والتصور يسوء السلوك والتصرف.

ففسر أعداء الله الحرية بأنها الانطلاق الكامل من كل قيد ـ حتى ولو كان هذا القيد صادراً من خالق السموات والأرض ـ وبنوا على ذلك بأن للإنسان أن يغشى كل ما تشتهيه نفسه وتهواه مالاً أو جنساً، أو منصباً أو غير ذلك، وله أن يدوس على حريات الناس كلهم ما دام يستطيع الوصول إلى بغيته وكل واحد عليه أن يباري غيره فمن عزَّ بزَّ ومن غلب استلب، وتسمية الأشياء بغير أسمائها للتضليل ليست جديدة، وإن اختلفت أساليبها ووسائلها.

ألا ترى هذه العبارة الخبيثة التي أطلقها إبليس لإغراء آدم وتحريضه على معصية الله ((فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)) [طه: 120] وعلى الرغم من ترغيب الله وتحذيره لآدم فإن قلب الحقائق عمل فيه عمله: ((وعصى آدم ربه فغوى)) [طه: 121].

ولقد كذب عدو الله ـ الشيطان ـ وكذب أتباعه الكفرة الفجرة، فليس ما زعموه حرية بحرية، بل إنه الرق لا لجهة واحدة، بل لجهات لا تحصى ولا تعد إلا إذا أحصيت شهوات النفس وملذاتها التي يشتهيها ويهواها البشر، ومن يستطيع أن يحصي ذلك غير الخالق؟

فإن الإنسان لا يهوى شيئاً من الملذات، جنساً أو مالاً أو جاهاً أو غيرها، إلا ريثما يمله ويهوى غيره من جنسه، وهكذا يظل طول عمره وهو يهوى شيئاً ويمله، ويهوى غيره ويمله، فتبقى نفسه في طمع وهلع، طمع في ما تهوى ولم تحصل عليه، وهلع من مفارقة ما حصلت عليه أن يذهب من بين يديها.

والذي يهواه الإنسان يهواه غيره فينافسه فيه، وقد يرغب في شيء ويكره الآخر حصول ذلك الراغب عليه، فيقف ضده ويحول بينه وبينه، والنفس في كل ذلك أسيرة رقيقة لتلك الأشياء كلها حصلت عليها أو لم تحصل.

والحرية الحقة إنما هي حرية من حقق عبوديته لله وحده، فأطاعه في أوامره وازدجر عن نواهيه، ولو كره الناس منه طاعة ربه وازدجاره عن معاصيه، بل ولو كرهت نفسه ذلك.

عندئذٍ فقط يكون حراً لا تخضع نفسه لمال ولا لجنس ولا لمنصب أو جاه، ولا لشيء إلا لله الخالق الذي لا يستحق أحد غيره الخضوع المطلق والحب المطلق والطاعة المطلقة، وها هو القرآن كلام الله يصور ذ لك أبين تصوير ويوضحه أعظم توضيح.

قال تعالى: ((ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل له يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون)) [الزمر: 29] كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرق والأسر أن تصير النفس مستعبدة للملذات والشهوات كما قال: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم) [البخاري رقم 2887 فتح الباري (6/81)].

واقرأ هذه الجمل لأحد عمالقة الحرية، وهو يبين معناها ومعنى الأسر والرق بياناً شافياً وهو ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قال: "فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب.

فإن المسلم لو أسره كافر واسترقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك، إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر، فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك. وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ولو كان في الظاهر ملك الناس.

فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس) [البخاري (6446) فتح الباري (11/271) ومسلم (2/726)]. وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة.

فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدانى فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً، ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه" انتهى كلام ابن تيمية من[مجموع الفتاوى:(10/186)].

فالذي يسترق قلبه لغير الله، بل قل الذي لا تخلص عبوديته لله يكثر أسياده الذين يتشاكسون فيه، ويصير كل واحد منهم يأمره بتنفيذ ما ينهاه عنه الآخر، فهل تراه قادراً على تنفيذ أمر وضده في وقت واحد.

ولقد تعمق ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في معنى الحرية والعبودية فأبان أن قادة الشعوب الذين لا يتمتعون بالحرية الحقيقية هم عبيد لعبيدهم وخدمهم، فقال ـ رحمه الله ـ:

"وكذلك طالب الرياسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كلاهما ـ كذا ـ فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله. وإن كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر" [الفتاوى (10/189)].

وإن مجاهدة الإنسان نفسه على إدراك هذا المعنى للحرية والعبودية معينة له عليها، في خضم جموع البشرية الضالة المضلة، واقرأ هذه القطعة التالية لأحد عمالقة الحرية في هذا العصر، وهو سيد قطب ـ رحمه الله ـ قال:

"ويغرق المجتمع في شهواته الهابطة، ويمضي مع نزواته الخليعة، ويلصق بالوحل والطين حاسباً أنه يستمتع وينطلق من الأغلال والقيود، وتعز في مثل هذا المجتمع كل متعة بريئة وكل طيبة حلال، ولا يبقى إلا الْمَشْرَع الآسن وإلا الوحل والطين، وينظر المؤمن مِن علٍ إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا يهم ولا يحزن ولا تراوده نفسه أن يخلع رداءه النظيف الطاهر وينغمس في الحمأة وهو الأعلى بمتعة الإيمان ولذة اليقين" [معالم في الطريق صفحة 165].

وبين في كتابه القيم (في ظلال القرآن) أن الذي ينحل من عبوديته لله يقع في أحط أنواع العبوديات المتعددة لغير الله، فقال: "إن العبودية لله وحده هي العاصم للعبودية من الهوى والعاصم من العبودية للعباد، وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه.

إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى، يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم، فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع الإنسان من بين سائر الأنواع، وينحدرون في سلم الدواب، فإذا هم شر الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين، بعد أن كانوا، كما خلقهم الله، في أحسن تقويم" [في ظلال القرآن (10/1521)].

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل