بسم الله الرحمن الرحيم

أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي (79-80)


(79)

المبحث السابع: العدل الأسري

وفيه مطلبان:
المطلب الأول: العدل بين الأزواج:

وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: العدل في المبيت:
الفرع الثاني: العدل بينهن في النفقة والكسوة.
الفرع الثالث العدل: بين الأزواج في الحكم.

الفرع الأول: العدل في المبيت:
إن من أهم الأمور التي تعتبر أساساً لأمن الأسرة واستقرارها، وإبعاد أسباب القلق والاضطراب عنها، العدل بين أفرادها، وعدم تفضيل بعضها على بعض، لما في العدل من الإحساس بالرضا، ولما في الجور من جلب الإحن، والشحناء.

ولقد عني الكتاب والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، بالعدل الأسري عناية فائقة.
أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل عموما بين النساء، كما قال سبحانه وتعالى: (فانكحوا ما طالب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا) [النساء:3].

والعدل المذكور شامل لكل ما يقدر عليه الزوج، من مبيت ومعاشرة ونفقة وكسوة وغيرها.
وقد ورد في معنى الآية أحاديث دالة على وجوب العدل عموما،ً منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل) [أبو داود (2/600) والترمذي (3/438) وقال المحشي على جامع الأصول (11/513): وهو حديث صحيح].

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل، بين نسائه، فلا يفضل إحداهن على الأخرى كما روت عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك). [الترمذي (3/437) وأبو داود (2/601) وقال المحشي على جامع الأصول (11/514): وهو حديث صحيح].

وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلها، وإذا أراد سفرا أقرع بينهن، فيأخذ من خرج سهمها، كما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم. [البخاري (3/135ـ136)].

وقصة سودة هذه تدل على سقوط حق المرأة في القسمة، إذا رضيت بذلك، وأن للزوج أن يعطي قسمها لمن وهبته من أزواجه، وقد روت عائشة، رضي الله عنها، "أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة" [البخاري (6/154) ومسلم (2/1085)].

وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حبه لعائشة، أكثر من غيرها، يسأل وهو مريض عن أيامه المقبلة رغبة في يومها، ولم يبق عندها، على الرغم من مرضه، إلا بعد أن أذن له أزواجه، كما روت عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: (أين أنا غدا أين أنا غدا)؟: يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة، حتى مات عندها.
قالت عائشة: "فمات في اليوم الذي كان يدور عليّ فيه في بيتي، فقبضه الله، وإن رأسه لبين نحري وسحري وخالط ريقه ريقي". [البخاري (6/155) ومسلم (4/1893)].

وقالت عائشة، رضي الله عنها في قوله تعالى: ((وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً)) قالت: هي المرأة تكون عند الرجل ولا يستكثر منها، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج غيري، فأنت في حل من النفقة والقسمة لي، فذلك قوله تعالى: ((فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير)) [البخاري (6/153)].

الفرع الثاني: العدل بينهن في النفقة والكسوة.
وهل يجب أن يسوي بينهن في كل شئ من الكسوة والنفقة ونحوهما؟ بحيث إذا أعطى إحداهن شيئاً من المال أو الكسوة لحاجتها إليه، يجب أن يعطي غيره مثل ذلك، ولو لم تكن محتاجة إلى ذلك؟

قد يستدل على أن ذلك واجب بعموم النصوص، إلا أن في ذلك مشقة، قد لا يقدر عليها الزوج، وتعليق الوجوب بالحاجة أولى، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أن التسوية الواجبة إنما هي في الكفاية، لكل واحدة منهن ولا تضر بعد ذلك المفاضلة.

قال ابن قدامة رحمه الله: "وليس عليه التسوية بين نسائه في النفقة والكسوة، إذا قام بالواجب، لكل واحدة منهن، قال أحمد في الرجل له امرأتان: له أن يفضل إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والسكنى، إذا كانت الأخرى في كفاية، ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه، وتكون تلك في كفاية، وهذا لأن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكنه القيام به، إلا بحرج، فسقط وجوبه، كالتسوية في الوطء" [المغني (7/305ـ306)].

قلت: الذي يظهر من هذا النص أن الرجل قد تكون إحدى نسائه ساكنة في منزل يكفيها، فيحتاج إلى منزل للأخرى، فلا يتمكن بسهولة من إيجاد منزل مساوٍ لمنزل الساكنة من كل وجه، بل قد يجد منزلاً أحسن منه أو أقل، فلا يجب عليه البحث عن منزل مساوٍ، بل يشتري المنزل الذي تيسر له، أو يستأجره، لما في تكليفه البحث عن منزل مساوٍ من المشقة والحرج.

وكذلك قد تكون إحدى نسائه عندها ما يكفيها من اللباس، وتكون الأخرى في حاجة إلى لباس، فلا يجب عليه أن يبحث عن نوع اللباس الذي يوجد عند من لا حاجة لها الآن في اللباس، ليشتري مثله للمرأة المحتاجة، بل يشتري لها من النوع المتيسر، وقد يكون أجود أو أردأ، وهكذا ما يحصل للأخرى عند حاجتها، وبذلك تحصل التسوية بينهن في الجملة، وليس في كل شيء بالتفصيل.

ومثل السكنى النفقة، فقد يكون عند إحداهن ما يكفيها من أنواع الأطعمة، والأخرى محتاجة، فله أن يشتري لها ما أراد من الطعام، ولو لم يكن مثل طعام ضرتها، والمهم أن يراعي حاجة كل منهن.

ومع ذلك ينبغي أن يحاول أن لا يكون الفرق بين ما يعطي هذه أو تلك كبيراً ملفتا للنظر، خشية من الحزازات والضغائن التي قد تحدث بسبب ذلك بين الضرات، أو بينهن وبين الزوج، وليسدد ويقارب حسب استطاعته.

هذا الذي ينبغي أن يفهم من كلام ابن قدامة رحمه الله، ومن النص الذي استشهد به للإمام أحمد رحمه الله، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن للزوج تفضيل إحدى نسائه على الأخريات باستمرار وبدون سبب، فإن ذلك يخالف النصوص الواردة في العدل بين الأزواج.

الفرع الثالث
العدل بين الأزواج في الحكم.
وقد سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة طريفة، وقعت بين اثنتين من نسائه، كما رواها أنس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: (غارت أمكم) ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيها". [البخاري (6/157) والترمذي (3/631) وفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (طعام بطعام وإناء بإناء) وأبو داود (3/826)..].

وفي رواية عائشة رضي الله عنها بيان بأن صاحبة الصفحة المكسورة هي صفية، وأن عائشة هي التي كسرتها، قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فبعثت به، فأخذني أفكل [رعدة شديدة بسبب الغيرة، راجع النهاية في غريب الحديث]. فكسرتُ الإناء فقلت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال: (إناء بإناء وطعام مثل طعام). [أبو داود (3/827ـ828)].

هذا وليعلم أن الأسرة في الفقه الإسلامي شاملة للزوجين ولجميع الأقارب الذين يعيشون في منزل واحد، أو منازل متقاربة أو متباعدة، وليست خاصة بالآباء والأولاد المباشرين كما قد يظن ذلك، فهي تشمل الأبوين وآباءهم وأجدادهم وجداتهم، كما تشمل الأولاد وأولادهم، وإخوان الآباء وإخوانهم، وإخوان الأم وأخواتها، وأبناءهم وبناتهم، وكل ذلك مفصل في كتب الفقه في النفقات والولايات والمواريث وغيرها. [راجع كتاب المغني لابن قدامة (8/212ومابعدها)..].

وقال الشيخ محمد أبو زهرة، رحمه الله: "كلمة الأسرة في الإسلام أوسع مدى من الأسرة في القوانين الأخرى، فإن الأسرة في الإسلام تشمل الزوجين والأولاد الذين هم ثمرة الزواج وفروعهم، كما تشمل الأصول من الآباء والأمهات، فيدخل في هذا الأجداد والجدات، وتشمل أيضا فروع الأبوين، وهم الإخوة والأخوات وأولادهم، وتشمل أيضاً فروع الأجداد والجدات، فيشمل العم والعمة وفروعهما، والخال والخالة وفروعهما، وهكذا كلمة الأسرة تشمل الزوجين وتشمل الأقارب جميعا، سواء منها الأدنون وغير الأدنين.

وهي حيثما سارت أوجدت حقوقاً وأثبتت واجبات، وتتفاوت مراتب هذه الحقوق بمقدار قربها من الشخص وبعدها عنه، فالحقوق التي للأقارب الأقربين، أقوى من الحقوق التي تكون لمن هم أبعد منهم، وهكذا..." [تنظيم الإسلام للمجتمع ص63].

وبهذا المفهوم للأسرة يمكن أن تكون بعض القبائل أسرة واحدة، على كل فرد منها حقوق لمن قرب منه، وله حقوق كذلك.

(80)

المطلب الثاني: العدل بين الأولاد

العدل بين الأولاد يجعلهم يطمئنون إلى آبائهم، ويُقَوِّي رابطتهم بهم، كما يمرنهم على مراعاة حقوق بعضهم على بعض، وعدم الاعتداء من بعضهم على بعض، لأن الوالدين هما القدوة الأولى للأولاد، فإذا رأى الأولاد من الآباء الاتصاف بالعدل دفعهم ذلك إلى الاقتداء بهم فاتصفوا به.

والمفاضلة بين الأولاد بغير سبب، تجعل المفضول يحقد على والده وعلى أخيه الذي فُضِّل عليه، كما تجعل الأولاد كلهم يقلدون والدهم في ذلك، ويطمعون في المفاضلة باستمرار.

ولقد حسم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وشدد فيه، فأنكر على من فضل بعض أولاده على بعض، وأمر بالعدل، وسمى التفضيل جورا.

كما روى النعمان بن بشير، رضي الله عنهما، أن أباه أعطاه عطية، فقالت عمرة بنت رواحة "أم النعمان بن بشير": لا أرضى حتى تُشهِد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟" قال: لا، قال: (فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم) فرجع فرد عطيته.

وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأرجعه). وفي رواية: (فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور).
وفي رواية: (فأشهد على هذا غيري) ثم قال: (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء(؟ قال: بلى، قال: (فلا إذا).
وفي رواية: (فلا يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق). [البخاري (3/134) ومسلم (3/1241) والروايات الأربع المذكورة له].

وألفاظ الحديث واضحة في وجوب التسوية بين الأولاد، وفي أن المفاضلة بينهم بدون سبب مشروع، ظلم وباطل، وقد أكد ذلك بالأمر بالتقوى والعدل، والأمر برد العطية، وبأنه لا يشهد إلا على حق، وأنه لا يشهد على جور، وهذه الأمور لو فرضنا أن الأمر بإطلاقه لا يدل على الوجوب - وإن كان ذلك مرجوحا - فإنها قرائن تمحض الأمر هنا للوجوب بدون أدنى شك، وهذا يرد قول من ذهب إلى أن المفاضلة مكروهة فقط،وليست بحرام. [راجع شرح النووي على مسلم (11/66)].

وبهذا ينتهي هذا الباب المتعلق بتربية الأسرة، وقد حاولت الاختصار ما استطعت، كما حاولت الاكتفاء ببعض الأمور المتعلقة بذلك، ولم أتعرض للتفريعات خشية الإطالة.
وذلك - كما ترى - جدير بتثبيت الأمن والاستقرار في حياة الأسرة، لو طبق حق التطبيق، لما فيه من قيام كل فرد من أفراد الأسرة بحقوق الآخرين، وعدم الاعتداء من بعضهم على حقوق بعض.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل