بسم الله الرحمن الرحيم

أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي (77-78)


(77)

المبحث السادس
حقوق العبد على السيد، وحقوق المستأجر على المؤجر

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: تواضع السيد والمستأجر وعدم تكبرهما.

إن تواضع السيد مع عبده، والمستأجر مع أجيره، يشعرهما بالطمأنينة وعدم الحرج من العسر والفقر والرق، والتكبر عليهما يوحشهما، ويجعلهما يشعران بالاحتقار والسخرية، فتضطرب حياتهما ويعيشان كئيبين حزينين، وقد ذم الله تعالى المتكبرين، كما مدح المتواضعين ووعدهم الجزاء الحسن.

قال تعالى: ((واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)) [الشعراء:215].
وقال في وصف المؤمنين: ((أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)) [المائدة:54].
وقال: ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين)) [القصص:83].

وفي حديث عياض بن حمار، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في إحدى خطبه: (وإن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) [مسلم (4/2198)].
وروى حارثة بن وهب الخزاعي، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتَضَعِّف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر" [البخاري (6/72) ومسلم (4/2190) والجواظ الشديد الغليظ].
وفي حديث أنس رضي الله عنه، قال: (كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت " [البخاري (7/90)].

المطلب الثاني:
أداء المستأجر حق الأجير وعدم ظلمه.

إن الظلم محرم، كما أن العدل واجب، وقد تواتر النهي عن الظلم في الكتاب والسنة، وإذا كان الظالم يظلم لقوته في الدنيا وقدرته على الظلم، فإن الله تعالى، وهو القادر المطلق الذي لا أقوى منه، يأخذ حق الضعيف المظلوم من القوي الظالم، إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولا يجد ذلك الظالم من ينصره من دون الله ((وما للظالمين من نصير)) [الحج:71].

وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة المظلوم على الظالم، وأن تلك الدعوة لا يحجبها عن الله شيء، كما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). [البخاري (2/136) ومسلم (1/50)].

وفي حديث أبي أمامة الحارثي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع حق امريء مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة) فقال له رجل وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول لله؟ قال: (وإن كان قضيباً من أراك ). [مسلم (1/122)].

وحذر الله تعالى من لم يعط الأجير أجره تحذيراً شديداً، فجعل نفسه خصماً له، كالغادر وبائع الحر، كما في حديث أبى هريرة الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، قال: (قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً ولم يعطه أ جره) [البخاري (3/41)].

المطلب الثالث:
العفو عن الخادم، إذا أخطأ وعدم تأنيبه.

وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم العفو مع خادمه، في أعلى صورة من صور العفو والتغاضي، حيث لم يكن يسأل خادمه: لم فعلت؟ أولم لم تفعل؟ كما في حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أفاً قط، ولا قال لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا" [مسلم (4/1804)].

وفي حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كم تعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة، قال: (أعفو عنه في كل يوم سبعين مرة). [أبو داود (5/362ـ363) والترمذي (4/336) وقال: هذا حديث حسن غريب، وقال المحشي على جامع الأصول (8/48): وإسناده حسن، ورواه أبو يعلى بإسناد جيد]. ومعلوم أن العدد سبعين ونحوه، بكنى به عن الكثرة، مثل قوله تعالى: ((إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)) [التوبة (80)

المطلب الرابع:
أن ينفق على العبد أو الخادم ويطعمه مما يطعم ويكسوه مما يكتسي.

وهذا هو الحد الأعلى من معاملتهما، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ذلك أصحابه، الذين كان يحرص على سموهم في المعاملة والسلوك، كما حث على إعانتهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون، روى المعرور بن سويد، قال: رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك؟ فذكر أنه ساب رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعيره بأمه، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له.
فقال له – أي لأبي ذر - النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: (نعم هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه). [البخاري (1/80ـ81) ومسلم (3/1282ـ1283)].

والحد الأدنى أن يعطيه من الكساء والطعام ما يكفيه، حسب قدرته، روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه، ثم جاءه به وقد ولى حره ودخانه، فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً، فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين). [مسلم (3/1284) وهو شامل للخادم والعبد. ومعنى مشفوهاً: كثرت عليه الشفاه، ومعنى أكْلَة أو أكلتين: لقمة أو لقمتين].

وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم الإنفاق على العبد، كما روى خيثمة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً، مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، إذ جاءه قهرمان [أي خازنه ووكيله]. فدخل، فقال: (أعطيت الرقيق قوتهم)؟ قال: لا، قال: (فانطلق فأعطهم)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته) [مسلم (2/692)].

بل لقد أوجب بعض علماء المسلمين على السيد إعفاف العبد بتزويجه إذا احتاج إلى ذلك لئلا يقع في الحرام. [راجع المغني (8/254) لابن قدامة].

(78)

المطلب الخامس:
بذل السيد جهده في عتق عبيده

قضت سنة الله الكونية أن يختلف الناس، وأن يتبع ذلك حروب، وأن يغنم المنتصر الأموال ويسبي النساء والذرية، ويأسر الرجال ويسترق الجميع، وهذا ما كان الناس يفعلونه قبل الإسلام، بل كانت طرق الاسترقاق متعددة، فمن الناس من يسترق المرأة، ومنهم من يسترق الأجير، ومنهم من يسترق ذا لون معين.

فلما جاء الإسلام أبطل تلك الطرق كلها، ما عدا طريق الحرب، فقد أبقى جواز استرقاق أسرى الحرب، لأن الكفار كانوا يسترقون المسلمين إذا أسروهم، فأعطى الله المسلمين حق استرقاق عدوهم معاملة بالمثل.

ومعلوم أن العبيد بالمصطلح الشرعي، غير موجودين الآن في غالب العالم الإسلامي، ويقال: إنهم لا زالوا موجودين في موريتانيا وبعض البلدان الأفريقية، والله أعلم بشرعية ذلك.
ولكنهم – أي العبيد – قد يوجدون في المستقبل، كما وجدوا في الماضي، ولذا تبقى أحكامهم الواردة في الشريعة الإسلامية أحكاما قابلة للتطبيق إذا وجدوا.

والنصوص الواردة في السنة تدل على أن رايات الجهاد سترتفع، وستكون ملاحم مع أعداء المسلمين، من اليهود وغيرهم، ودواعي الجهاد وأسبابه متوفرة الآن، لأن أعداء الإسلام يشنون حملات ظالمة على البلدان الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها... ومن أهم دواعي الجهاد احتلال اليهود للأرض المباركة وعدوانهم المشاهد على أهلها، وقد وعد الله المسلمين بالنصر على أعدائهم إذا اتخذوا أسباب النصر التي أمرهم بها، ومنها إعداد العدة المستطاعة [يراجع في أسباب النصر كتابنا "الجهاد في سبيل الله – حقيقته وغايته"]

وإذا كان قادة المسلمين مقصرين في إعداد العدة، لرفع راية الجهاد اليوم، فسوف لا يستمر الحال على ما هو عليه، فالقوي اليومَ ضعيفٌ غدا، والضعيف اليومَ قويٌّ غدا، والأيام دول: ((إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين)) [آل عمران(140)]

هي الأمور كما شاهدتها دول،،،،،،، من سره زمن ساءت أزمان

والإسلام لا يضيره عيب أعدائه له، لتشريعه الرقَّ، لأنه شرع – في الأصل – للمعاملة بالمثل، فقد كان الرق مشروعا عند الأمم قبل الإسلام كما سبق، بوسائل شتى، وكان من وسائل الاسترقاق، أخذ الأسرى في الحروب، فعامل الإسلام أعداءه بمثل معاملتهم للمسلمين

فإذا عقدت بين الأمم – ومنهم المسلمون - اتفاقات ومعاهدات على عدم الاسترقاق، جاز ذلك، لأن الاسترقاق ليس واجبا في الإسلام، بل للإمام أن يعامل الأسرى بما يرى فيه مصلحة للمسلمين، وهو مخير بين خمسة أمور: الاسترقاق، أو إطلاقهم على مال يؤخذ منهم، أ ومفاداة أسرى المسلمين بهم، أو المن عليهم بدون مال، أو القتل، وكلها وقعت في العهد النبوي.

قال ابن الخرقي رحمه الله: " مَسْأَلَةٌ وَإِذَا سَبَى الْإِمَامُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ, إنْ رَأَى قَتَلَهُمْ, وَإِنْ رَأَى مَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَطْلَقَهُمْ بلا عِوَضٍ , وَإِنْ رَأَى أَطْلَقَهُمْ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ, وَإِنْ رَأَى فَادَى بِهِمْ, وَإِنْ رَأَى اسْتَرَقَّهُمْ, أَيَّ ذَلِكَ رَأَى فِيهِ نِكَايَةً لِلْعَدُوِّ وَحَظًّا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَ" وذكر ابن قدامة الأدلة على كل خصلة من هذه الخصال...[9/179)]

وأوجب الله عتق الرقبة كفارة للقتل الخطأ في ثلاث حالات، لا ينتقل منه إلى غيره إلا إذا تعذر، تضمنتها الآية الكريمة في قوله تعالى: ((وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما)). [النساء:92].

وجعل تعالى عتقهم من مصارف الزكاة، فقال إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم)) [التوبة (60)]

وخيَّر تعالى من حلف فحنث، أن يكفر بواحدة من ثلاث، منها تحرير رقبة، كما قال تعالى: ((لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الإيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)). [المائدة:89]. خير في الإطعام والكسوة والعتق، ولا ينتقل إلى الصيام إلا إذا لم يجد واحدة مما ذكر.

وأوجب سبحانه على من ظاهر من امرأته، ثم أراد إبقاءها زوجة له، أن يعتق رقبة، ولا ينتقل منها إلى غيرها إلا إذا لم يجدها، قال تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا)). [المجادلة: 3،4].

و حث الرسول صلى الله عليه وسلم على العتق ووعد عليه بالجزاء العظيم، كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها، عضواً من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه) [مسلم (2/1147)].
وشرع صلى الله عليه وسلم عتق من لطمه سيده كفارة لتلك اللطمة، كما في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه). [مسلم (3/1278)].

وفي حديث معاوية بن سويد، قال: لطمت مولى لنا فهربت، ثم جئت قبيل الظهر، فصليت خلف أبي، فدعاه ودعاني، ثم قال: امتثل منه فعفا، ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لنا إلا خادم واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اعتقوها) قالوا: ليس لهم خادم غيرها، قال: (فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها). [مسلم (3/1279)].

وهذان الحديثان يدلان على أن العبد يجب أن يعيش لدى سيده آمنا من الاعتداء، فإن لم يجد لدى سيده الأمن، فينبغي للسيد أن يعتقه لينجو من الخوف الذي أصيب به بسبب رقه عنده.

وإذا كان العبد مشتركاً بين جماعة، فأعتق أحدهم نصيبه منه عَتَق سائره، ووجب على المعتق أن يعوض من ماله شركاءه نصيبهم منه، فإن لم يكن للمُعتَقِ نصيبُه مال، طلُبَ من العبد أن يسعى في تحصيل نصيبهم، من غير أن يشق عليه في ذلك، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من أعتق شقصاً في عبد أعتق كله، إن كان له مال، وإلا يستسع غير مشقوق عليه) [البخاري (3/113ـ114) ومسلم (3/1287)].

أي إن كان للمُعتِق نصيبَه مال، فعليه أن يعطي شركاءه نصيبهم، لأن العبد قد تحرر كله بسبب عتقه نصيبه، وإن لم يكن للمعتق مال، طلب من العبد أن يسعى في مال الآخرين من الشركاء، وروايات مسلم عن أبي هريرة وغيره توضح هذا المعنى.

وأمر الله تعالى المالكين أن يلبوا طلب العبيد مكاتبتهم، إن علموا فيهم خيرا، والمكاتبة عقد بين العبد والسيد، على مال يدفعه العبد منجماً أو دفعة واحدة إن قدر، ويعتبر العبد بعد دفع المال حراً، وأمر السيد أن يعين عبده بإعطائه شيئا من مال الكتابة، أو إنقاص شيء منه ليتمكن من تحرير نفسه.

قال تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيديكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتكم). [النور:33].

والظاهر أن الخير المشروط علمه في العبد المكاتب، يشمل صلاحه في دينه وأخلاقه، وفي قدرته على الكسب واستغنائه عن الناس به.

ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في عتق الأمة وتزوجها، لرفع قدرها وجعلها ركناً في بناء الأسرة المسلمة، كما روى أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران). [البخاري (3/113ـ114)].

وشرع صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله ليكون قدوة لغيره، كما شرعه بقوله، روى أنس بن مالك، رضي الله عنه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها". [البخاري (6/121) ومسلم (2/1045)].

ولقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الاهتمام بالرقيق، ولهذا أوصى به في آخر لحظات حياته مع وصيته بالصلاة.

قال علي رضي الله عنه: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم). [أحمد (1/78) وأبو داود (5/359) وابن ماجة (2/901) قال الشوكاني في نيل الأوطار (7/3) وهو يعلق على حديث أنس الذي في معناه: حديث أنس أخرجه أيضاً النسائي وابن سعد، وله عند النسائي أسانيد منها ما رجاله رجال الصحيح].

تنبيه: قد يقال: ما الحاجة إلى نقل هذه النصوص للاستدلال بها على أن الإسلام عني بتحرير الرقيق، في عصر لم يعد فيه للرقيق مكان، إذ جاء عصر الحرية وحقوق الإنسان وتحرير الرقيق؟ ! والجواب من وجهين:

الوجه الأول: إن الاستعباد في هذا العصر أخذ صوراً أخرى، والمستضعفون فيه أشد ذلاً من العبيد الأرقاء، عصر استعبدت فيه دولٌ دولاً وشعوباً، وشركات قطعاناً من البشر، وأغنياء عدداً من الفقراء، وإن لم يسم المستعبِد سيدا. ولا المستعبَد عبدا، فالرق المذل موجود وإن لم يسم رقاً. وهذا الرق أولى بالرحمة ومنحه الحرية، لأنه مستعبد بغير وجه مشروع.

[وإن المشاهد التي يعرض الشيء اليسير منها، لأسرى المسلمين الذين اقتادتهم أمريكا في حملتها الصليبية الصهيونية، إلى غواتنامو، لخير شاهد على الاستعباد الذي يندر أن يوجد له نظير، الدولة التي تتعاطاه هي دولة حماية الحريات وحقوق الإنسان في مطلع القرن الحادي والعشرين! فليقارن المسلمون وغير المسلمين، بين الرق في الإسلام، والرق عند أعداء الإسلام الطاعنين فيه!

فذلك مثال للأسير المستعد عند دعاة الحريه، وهذا مثال واحد أسوقه بدون تعليق، من الأمثلة التي وقعت للأسير في صدر الإسلام:
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حَنِيفة يقال له: "ثمامة بن أثال" فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما عندك يا ثمامة(؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، حتى كان الغد، ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة(؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: (ما عندك يا ثمامة(؟ فقال: عندي ما قلت لك، فقال: (أطلقوا ثمامة).

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة، قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن بها النبي صلى الله عليه وسلم [البخاري رقم 4372، فتح الباري (8/87) ومسلم (3/1386)].

الوجه الثاني: أن الرق في الإسلام ما زال مشروعاً، إذا وجد سببه وهو الجهاد في سبيل الله، وإذا كان الجهاد في سبيل الله الآن غائبا في أغلب المعمورة فإنه آت بإذن الله على رغم أنف الأعداء الكفار الصرحاء الذين يهاجمون الإسلام لتشريعه الجهاد واتهامه بشتى الاتهامات، وعلى رغم أنف أبناء المسلمين الذين نصبوا أنفسهم سدوداً ضد الجهاد في سبيل الله، وإذا جاء الجهاد في سبيل الله وجد الرقيق – إن لم يتم اتفاق على إلغائه بين الأمم كما سبق - وإذا وجد الرقيق احتاج إلى تلك التوجيهات الشرعية لتحريره ورحمته والإشفاق عليه.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل