بسم الله الرحمن الرحيم

أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي (29- 31)

(29)

الفصل الثاني : تربية الفرد المسلم بالعمل الصالح
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث.
تمهيد: في معنى العمل الصالح.
المبحث الأول: في الحض على طاعة الله ورسوله.
المبحث الثاني: اكتساب الحرية الحقة.
المبحث الثالث: نماذج تطبيقية لأثر التربية الإسلامية.

الفصل الثاني
تربية الفرد المسلم بالعمل الصالح
تمهيد: في معنى العمل الصالح.
الصلاح ضد الفساد، والعمل الصالح ضد العمل الفاسد، ولكن من الذي يحدد العمل الصالح من العمل الفاسد؟ من الذي له حق الحكم عل عملٍ مَّا بأنه صالح أو فاسد؟ أهم بشر؟ مَن مِن البشر؟ إنه لو أعطى هذا الحق للبشر لتباينت آراؤهم وأحكامهم، ولحكم بعضهم على عملٍ مَّا بأنه صال، وحكم آخرون على نفس العمل بأنه فاسد ومن الذي يفصل في نزاع الفريقين؟
لذلك ترى أنواعاً من السلوك وأنماطاً من النشاطات، تعد جرائم عند قوم يعاقَب عليها مرتكبها عندهم، وتجد نفس تلك الأنواع والأنماط حلالاً ومزايا، يدعى إليها ويثنى على فاعلها عند قوم آخرين، والأرض مملوءة بذلك.
ولنضرب لذلك مثالاً واحداً يتضح به المطلوب: الحرية الفردية في الاقتصاد، التي هي أساس في معسكر الدول الغربية: الولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أوروبا، كل فرد له الحق أن يملك ما يشاء من الأموال فأباحوا الملكية الفردية إباحة مطلقة، فله أن يملك ما ينتفع به من ملابس وأوانٍ وأثاث منزلي وغيرها مما يحتاج إليه الفرد لنفسه، وله أيضاً أن يملك ما يشاء من المرافق والوسائل التي تنتج الأشياء المستهلكة، ليبيعها من غيره، كالآلات والأراضي والمواد الخام بدون استثناء، وهو حر في سعيه لجمع المال بوسائله، ينتج ما يشاء ويبيع بالسعر الذي يريده، يتفق مع المشتري والأجير بكامل حريتهم، وفائدته الذاتية هي الدافع المحرك الأول له في الإنتاج والسعي دون التفات إلى منافع غيره، وذلك كفيل عندهم أن تنال الجماعة مصالحها من خدمة الأفراد الذين أعطيت لهم تلك الحرية ... وهم يتنافسون فيما بينهم، وليس للدولة أن تتدخل في حرية تجارة الأفراد وسبل إنتاجهم وأساليب تعاملهم مع غيرهم.
هذه الحرية في الملكية الفردية هي منشأ جميع الشرور والمفاسد في الأرض عند ذوي المعسكر الشرقي الاشتراكي، كروسيا-قبل انهيار الاتحاد السوفييتي- والصين ومن في فلكهم، فلم يبيحوا للفرد إلا ما يحتاجه لمنافعه الشخصية، كالأواني والملابس وأثاث المنزل ونحوها. وما عدى ذلك من الأرض والآلات وغيرها مما تنتج الثروات فلا حق للأفراد فيها، لأن الفرد إذا تمكن من ذلك استعبد غيره من الكادحين، لذلك يجب أن تتدخل الدولة في ذلك وتعتبره جريمة وفساداً يجب أن يستأصل من الأرض ... [راجع الأسس الاقتصادية للمودودي] فالملكية الفردية في المعسكر الرأسمالي صلاح يجب أن يحمى، وفي المعسكر الشرقي فساد يجب أن يستأصل.
وإذا تأملنا تاريخ البشرية وجدنا كل أمة أو كل قوم يدعون أنهم مصلحون، ويصفون من يخالفهم بالفساد في كل النشاطات الإنسانية: العقدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. الشرك هو الحق عند أكثر الأمم في الأرض، والتوحيد بدعة يجب أن تحارب: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ص: 5] قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد [هود: 87].
وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [غافر: 26] ... قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [غافر: 29] قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى [طه: 63] ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [الأعراف: 80-82] وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون [البقرة: 11-12].
وهكذا تجد الناس في تخبط واضطراب وتباين، كل قوم يدعون أنهم هم المصلحون وغيرهم مفسدون.
فمن الذي يحدد العمل الصالح ويكون صالحاً فعلاً في كل زمان ومكان ولكل قوم في هذه الأرض؟
إنه الله سبحانه وتعالى، وقد حدد الأعمال الصالحة في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في العقيدة والعبادة والسلوك وفي كل مجال من مجالات الحياة، وبيّن سبحانه أن كل من حاد عمّا أمر به ودعا إليه فهو خاسر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
وقد أجمل الله سبحانه وتعالى أصول الإيمان والعمل الصالح على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، واستنبط العلماء نصوص الكتاب والسنة للعمل الصالح، شرطين:
الشرط الأول: الإخلاص لله تعالى، كما قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [البينة: 5]
والنصوص الواردة في الإخلاص من الكتاب والسنة كثيرة جداً [راجع على سبيل المثال أول باب في كتاب رياض الصالحين للإمام النووي].
والشرط الثاني: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يكون العمل مطابقاً لما جاء به من عند الله وليس مخالفاً له، كما قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [آل عمران: 31] والنصوص الواردة في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً أيضاً في الكتاب والسنة، فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان مراداً به وجه الله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعمل الصالح هو كل ما يرضي الله تعالى من أعمال القلب واللسان والجوارح، كالعبادة [راجع المبحث الثاني من الفصل الأول في معنى العبادة]، وكل ما لا يرضي الله تعالى فهو عمل فاسد. فالميزان إذاً للعمل، أهو صالح أم فاسدٌ، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

(30)

المبحث الأول:
في الحض على طاعة الله ورسوله.
إن الغاية التي أنزل الله من أجلها كتبه وبعث لها رسله، هي رضاه سبحانه الذي لا وسيلة للوصول إليه، إلا طاعته وطاعة رسله وتقواه سبحانه وتعالى، قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [النساء: 64] ولهذا قرنت الطاعة بتقوى الله في دعوة رسله، كما قال تعالى، على لسان نوح وغيره: فاتقوا الله وأطيعون [الشعراء: 108 وما بعدها].
وقد تكرر الحضّ على طاعة الله ورسوله في القرآن الكريم كثيراً كما تكرر التحذير من طاعة غير الله في معصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة على طاعة الله ورسوله: قول الله عز وجل: ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء: 59].
وقوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [النساء: 69].
وقوله سبحانه : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [سورة النساء: 80].
وقوله عز وجل: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [آل عمران: 32].
وقال تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران: 132] وقال تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين [المائدة: 92].
وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم [التوبة: 71].
وقال تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور: 51-52].
وقال عز من قائل: قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [النور: 54].
وقال تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [النور: 56].
وقال تعالى: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب: 71]، وقال تعالى: ياأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم [محمد:33].
وقال تعالى: ... ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما [الفتح: 17].
وقال تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين [التغابن: 12].
وإن التأمل في هذه الآيات التي وردت الطاعة فيها منصوصاً عليها بلفظها، وغيرها كثيرٌ لم يذكر هنا، إن التأمل في ذلك ليدل على مدى الاهتمام بتربية المسلم على طاعة الله ورسوله التي لا إسلام بدونها ولا نجاة.
فما أرسل الله الرسل إلا ليطيعهم البشر، وما أرسل من رسول إلا دعا قومه إلى الطاعة التي هي مفتاح تقوى الله، وما يحصل نزاع بين المسلمين حاكمين ومحكومين إلا وجب عليهم رد ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله ليحققوا الطاعة لتي أمروا بها، ولا هداية لصراط الله المستقيم ولا مرافقة لعباد الله الصالحين، إلا بالطاعة لله ولرسوله، ولا رحمة ولا إيمان ولا فلاح ولا فوز ولا هداية بدون طاعة الله ورسوله.
أما إذا أراد القارئ أن يتأمل زيادة على هذه النصوص التي حضت على الطاعة بلفظها وغيرها مما لم يذكر هنا، إذا أراد أن يتأمل ما ورد في القرآن من الحضّ على الطاعة بمعناها وليس بذكر لفظها، فإنه يصعب عليه إحصاء ذلك وحصره، فما من ترغيب أو ذكر ثواب على عمل صالح أو على ترك عمل سيئ إلا كان امتثالاً لأمرٍ أو اجتناباً لنهي، وهو معنى الطاعة.
وما من ترهيب و عقاب يذكران على ترك أو فعل، إلاّ كان على ترك أمرٍ أو فعل نهي، وهو ما يضاد الطاعة.
فالتربية على طاعة الله ورسوله هبي التي تؤدي إلى العمل الصالح وترك العمل السيء، وفي ذلك يكمن الأمن الحقيقي.
التحذير من طاعة غير الله فيما يخالف أمره
ومن أمثلة النوع الثاني – وهو التحذير من طاعة من خالف أمر الله ورسوله، سواء كان صادراً عن العدو الداخلي، وهو الهوى والنفس والشيطان، أم العدو الخارجي وهم أعداء الله الكفرة ومحبو الفسوق والعصيان – قول الله تعالى: ياأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين [آل عمران: 100].
وقال تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [الأنعام: 116].
وقال تعالى: ... وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [الأنعام: 121].
وقال تعالى: ... ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف: 28].
وقال تعالى: فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً [الفرقان: 52] وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون [العنكبوت: 8].
وقال تعالى عن الكافرين الذين عصوا الله ورسوله: يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [الأحزاب: 66-67] وقال تعالى: فلا تطع المكذبين، ودوا لو تدهن فيدهنون، ولا تطع كل حلاف مهين [القلم: 8-10].
وقال تعالى: فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً [الإنسان: 24] وبهذا يعلم أن في طاعة غير الله ورسوله فيما خالف أمر الله ورسوله يكون الكفر والضلال والشرك والعذاب الأليم، والبعد عن ذلك يحتاج إلى صبر وتوكل على الله سبحانه وتعالى.
وعلى هاتين القاعدتين: - طاعة الله ورسوله وعدم طاعة من خالف أمر الله ورسوله - ربّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فكان عصرهم خير العصور في الأرض، وذلك ما يجب أن يسلكه كل من أراد أن يربّي أمة مسلمة يتحقق بتربيتها الخير والسعادة والأمن في الأرض.
فإن التربية على طاعة الله ورسوله تجعل من رُبِّي عليها يلتزم بأوامر الله ورسوله، وأوامر من اتبع شرع الله ورسوله في كل حال من الأحوال في الشر والعلانية.
وكل أمر أو نهي لا يكون نابعاً من طاعة الله ورسوله، فإن التمرد عليها سهل يسير إذا غاب المتمرد عن العين المادّية التي تراقب أو خلا عن سطوة القانون البشري.
أما طاعة الله فإنها لا تفارق صاحبها في كل لحظة من لحظات حياته، فلا يخون ولا يغش ولا ينفض عهداً ولا ينتهك عرضاً ولا يسرق مالاً ولا يغتصب أرضاً، ولا يتناول شيئاً ممّا حرم الله عليه، ورقيبه في ذلك كله هو الله الذي تجب طاعته التي التزم بها وتربّى عليها، وبغض معصيته التي حذّر منها وتربّى على البعد عنها وعن أهلها، فهو يحب طاعة الله ويسعى لتحقيقها ويكره معصية الله ويهرب من الوقوع ففيها، فإذا فعل خيراً يعود على غيره من البشر إنما يفعله لأنه طاعة لله ولرسوله، وإذا ترك شراً يعود ضرر فعله على الناس، فإنما تركه لأنه معصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لذلك لا يخاف منه خصمه أذى ولا يطمع منه صديقه محاباة وعمل منكر، وهذا هو الذي يأمنه الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وسائر حقوقهم.
وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين، ولم ينل هذا الفضل غيرهم، ممن يعبدون أهواءهم ويفضّلون المعصية على الطاعة، وقد امتن الله على عباده المؤمنين بهذا الفضل العظيم فقال عز من قائل: واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم [الحجرات: 7-8].

(31)

المبحث الثاني: اكتساب الحرية الحقة
إن الذي يرزقه الله العلم النافع، وهو هُدَى الله، والعمل الصالح، وهو الدين الحق، أي تطبيق علمه بسلوكه العملي، يُغرَسُ في قلبه أمران عظيمان:
الأمر الأول: العبودية الكاملة لله سبحانه وتعالى، بحيث لا يتحرك ولا يسكن إلا في عبادة ربه وطاعته، تحقيقاً لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] وقوله تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام: 162-163].
والأمر الثاني: الحرية الكاملة من عبودية غير الله، من هوى ونفس وشيطان وملذات وطغاة.
فإذا تمكنت عبوديته لله من قلبه، وتحرر من عبودية غير الله، كان أهلاً لأن يأمنه الناس على كل شيء، لأنه لا يستجيب لرغبة، ولا يخضع لرهبة، ولا يقوده إغراء ولا شهوة، ولا يتبع هوى، وإنما يستجيب لأمر الله، وأمر الله لا يوجد فيه إلا عمل الخير الذي فيه غاية الأمن لكل البشر.
والذي يعتدي على حقوق الله أو حقوق عباده، إنما يفعل ذلك بسبب استرقاق الشهوات لقلبه الذي لم تتمكن من عبودية الله منه، وإنما تمكنت منه عبودية غيره، فهو أسير شهواته وهواه ولو كان في ظاهر أمره ملكاً للناس.
وقد دل القرآن الكريم على أن الذي يحقق عبودية الله في نفسه يسلم من عبودية غيره، والذي لا يحقق عبودية الله في نفسه يكون عبداً لشتى مخلوقاته، فالحرية الحقة هي عبودية الله الواحد، والعبودية المذِّلة هي الخضوع لغير الله، قال تعالى: ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون [الزمر: 29].
والمثل مضروب لتقريب المعنى للأفهام، فالذي يكون مملوكاً لعدد من الناس يلقى عنتاً ومشقة في إرضائهم، ولا يجد منهم رأفة به ولا إعانة على مصالحه، بخلاف من كان مملوكاً لمالك واحد، فإنه يرضيه بطاعته ولا يجد من يعارضه في ذلك، ويثيبه مالكه على عمله ويعرفه له، فالذي يعبد الله وحده هو الحر الذي لا تستعبده آلهة شتى، والذي لا يعبد الله وحده يكون مسترقاً لتلك الآلهة المتعددة: آلهة الطواغيت التي تأمره بالمنكر فيفعله، وتنهاه عن المعروف فيتركه، وآلهة الشهوات التي تدعوه إلى الوقوع فيها والاعتداء على حقوق الناس، وهذا هو العبد الذليل الحقير لهواه وشهواته فَقَدَ العزّة التي تنال بعبادة الله، فأبدله بها الذل لغيره.
وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)). هذا هو الذي لم تتمكن العبودية الحقة من قلبه، فأصبح عبداً لكل شيء.
أما من تمكنت عبودية الله من قلبه فقد عناه النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث بقوله: ((طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع)) [البخاري (3/223)].
إن عبد الله حر عزيز، ولو لم يكن له ذكر بين الناس ولا جاه ولا منصب ولا هيئة تجعل الناس يلتفتون إليه، تقفل أبواب الناس في وجهه، ولكن باب الله له مفتوح، وإذا شفع عند أحد ردّت شفاعته، ولكن شفاعته عند الله مقبولة.
أما صاحب الجاه والمنصب والغني والهيئة إذا لم يحقق عبوديته لله، فإنه عبدٌ لجاهه ومنصبه وغناه وهيئته ولا قيمة له عند الله.
هذا، ولابن تيمية رحمه الله كلام جميل بديع في معنى الحرية في غاية من الدقة والعمق، فهو لا يعتبر من غلبته شهوته وهواه حراً في عرف الشرع ولو كان سيداً مطاعاً في الأرض، وإنما يعتبر الحر من تخلص من تحققت فيه العبودية لله، وتخلص من عبوديته لغير الله.
قال رحمه الله: "فإن أسْر القلب أعظم من أسر لبدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق وأُسِر، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب – الذي هو ملك الجسم – رقيقاً مستَعبَداً متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسْر المحض والعبودية الذليلة لما استُعبد القلبُ، وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافرٌ أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات ... أما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب ..." من [كتاب العبودية ص:96-97 طبع المكتب الإسلامي، وراجع كتاب منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب (1/270) والعدالة الاجتماعية لسيد قطب، ص:37-51].
والمقصود من هذا المبحث أن الذي يُرَبّى على عبودية الله وحبه والخوف منه واتباع شرعه والبعد عن معصيته والتوكل عليه وحده وعدم الخوف من غيره أن يقرب أجلاً أو يقطع رزقاً، إن الذي يربّى هذه التربية يصبح حراً من اتّباع الأهواء والشهوات وطغاة الباطل، فلا يقدم على معصية لربه أو ما يضر الناس، وهنا يكون الأمن والطمأنينة، بخلاف من أسر لشهوته وهواه أو لطاغية، فإنه يقدم على المعاصي والجرائم ولا يبالي ضرر الناس وأذاهم.
ولما كان معنى الحرية عند كثير من الناس هو الانطلاق الكامل في الاستمتاع بما يقدر عليه الفرد، ترتب على ذلك الاعتداء على المحرمات، واصطدمت الرغبات ونجم النزاع، ونتج عن ذلك اختلال الأمن في أرجاء المعمورة على الضرورات التي لا حياة بدون حفظها [راجع كتاب: الإسلام وضرورات الحياة للمؤلف].
قال سيد قطب رحمه الله: "لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة إلى غير حدٍ ولا مدى، يغذيه الشعور بالتحرر الوجداني المطلق من كل ضغط وبالمساواة المطلقة التي لا يحدها قيد ولا شرط، فإن الشعور على هذا النحو كفيل بأن يحطم المجتمع، كما يحطم الفرد ذاته وللمجتمع مصلحة عليا لا بدّ أن تنتهي عندها حرية الأفراد، وللفرد ذاته مصلحة خاصة في أن يقف عند حدود معينة في استمتاعه بحريته، لكي لا يذهب مع غرائزه وشهواته ولذائذه إلى الحد المردي، ثم لكي لا تصطدم حريته بحرية الآخرين، فتقوم المنازعات التي لا تنتهي، وتستحيل الحرية جحيماً ونكالاً، ويقف نمو الحياة وكمالها عند حدود المصالح الفردية القريبة الآماد، وذلك كالذي حدث في حرية النظام الرأسمالي وما صاحبه من نظريات الحرية الحيوانية للشهوات. والإسلام الذي يمنح الحرية الفردية في أجمل صورها، والمساواة الإنسانية في أدق معانيها، ولكنه لا يتركهما فوضى، فللمجتمع حسابه، وللإنسانية اعتبارها، وللأهداف العليا للدين قيمتها، لذلك يقرر مبدأ التبعة الفردية، ويقرر إلى جانبها مبدأ التبعية الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها، وهذا ما ندعوه بالتكافل الاجتماعي" [العدالة الاجتماعية ص: 62-63].

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل