بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(9-15)

(9)

وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته على أساس قاعدتين
اعلم أنه يجب الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته كما وردت في كتابه، وفي سنة رسوله الصحيحة على أساس قاعدتين:
القاعدة الأولى: إثباتها على أساس تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، وقد دلت على هذه القاعدة نصوص كثيرة، في القرآن والسنة، كما قال الله تعالى ى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. الشورى: 11
القاعدة الثانية: فهم معناها مع قطع الطمع عن الإحاطة بكيفيتها،كما قال تعالى:{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما} طه:110.
فإذا آمن العبد بأسماء الله وصفاته على أساس هاتين القاعدتين، وعلم هذا المطلب العظيم، وتعبد ربه سبحانه وتعالى به، حقق له العبودية لله تعالى.
وقد حفل كتاب الله، وكذا سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، بذكر أسماء الله وصفاته في سياق تقرير أصول الإيمان وفروعه، وفي سياق تقرير قواعد الإسلام وأجزائه، وفي تشريع الأحكام الفقهية بأبوابها المتنوعة، ليتعرف الله بتلك الأسماء والصفات الجليلة، إلى عباده، فيعبدوه بها حق عبادته، وليربط سبحانه تصرفاتهم، به عن طريق أسمائه وصفاته، التي يريد منهم أن يستحضروها عند تصرفاتهم في الحياة-فعلا وتركا-فيذكروا ربهم عند ذلك، ذكرا يدفعهم إلى العمل بما يرضيه، وترك ما يسخطه.

(10)

الغاية من معرفة أسماء الله وصفاته:
وقد بين تعالى الغاية من تعرفه إلى عباده بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وهي عبادته بها، كما قال تعالى: {قل ادعوا الله أو ا دعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. الإسراء: 110. وقال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} الأعراف: 180.
وضوح تلك الغاية في القرآن لمن تدبره:
وإنه ليصعب على الباحث تتبع المواضع التي وردت فيها أسماء الله وصفاته، في أصول الإيمان وفروعه، وقواعد الإسلام وجزئيا ته، لكثرة ذلك في كتاب الله، ولكن قارئ القرآن إذا تدبره أدنى تدبر، وتأمله أدنى تأمل، تبين له بوضوح أن كل اسم أو صفة، ذكرها الله في كتابه في أي مناسبة كانت يكون المقصود منها تلك الغاية العظيمة، وهي ذكر الله في كل فعل وترك، ذكرا يدفع صاحبه إلى العمل بما يرضي الله، وترك ما يسخطه.
مناسبة الأسماء والصفات للسياقات التي تذكر فيها:
كما أن كل اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، يكون ذكرها مناسبا للسياق الذي ذكرت فيه غاية المناسبة، فإذا كان السياق يقتضي رحمة الله ومغفرته، ذكر فيه ما يناسب ذلك كأسمائه:الرحمن الرحيم الغفور، وإذا كان السياق يقتضي إشعار العبد بما يعمل في سره وعلنه، ذكرت الأسماء الدالة على كمال علم الله وإحاطته بكل شيء،كأسمائه: العليم البصير السميع العليم الخبير، وإذا كان السياق يقتضي قدرة الله وجبروته وعظمته، ذكر من أسمائه ما يناسب ذلك، كأسمائه: العظيم الجبار المتكبر القهار، والمقصود من ذلك-والله أعلم-أن يعبد الإنسان ربه حق عبادته بأسمائه وصفاته، فيكون في كل أفعاله مرتبطا بربه-فعلا وتركا-مخلصا أعماله لله، مطيعا له طاعة كاملة، محبا لما يحبه الله، مبغضا لما يبغضه الله.

(11)

مناسبة أسماء الله وصفاته للسياق الذي تذكر فيه:
1- سياقات تقتضي رحمة الله ومغفرته و رأفته ، وهي كثيرة جدا، نذكر شيئا منها باختصار:
من ذلك قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم}. البقرة: 143. وقد ذكر في سبب نزولها أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يصلون إلى بيت المقدس ثم ماتوا قبل الأمر باستقبال الكعبة، فتساءل الناس: ما حال صلاة أولئك؟ فأنزل الله هذه الآية، ليعلم الناس أنه تعالى أرأف بعباده وأرحم بهم من أنفسهم، وأن رحمته تقتضي عدم ضياع أعمالهم الصالحة [ راجع تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم لابن كثير]. وقوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}. البقرة: 173.
فمن رحمة الله بعباده أن لا يوقعهم-فيما شرع لهم-في حرج لذلك أحل لهم ما حرم عليهم عند الضرورة، ورفع عنهم الإثم. وقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}.البقرة:191-192.[ راجع المصدر المذكور في الحاشية السابقة]
إن أعداء الله من الكفار، يحاد ونه ويحاربون دينه ويناصبون أولياءه العداء ويقاتلونهم بسبب عبادتهم لربهم، فإذا تابوا إلى الله وأنابوا فأسلموا له نالتهم رحمة الله فورا وجب إسلامهم ما قبله، وأصبحوا من أوليائه بعد أن كانوا قبل وقت قصير من أعدائه، وأذهب الله من قلوب المؤمنين الذين آذوهم وقاتلوهم الغيظ الذي كان بها، فأصبحوا إخوانهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم .وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}. النساء: 29.
إن حفظ الأموال وحفظ الأنفس من الضرورات التي لا حياة للناس بدونه، لذلك اقتضت رحمة الله وحكمته أن يشرع لعباده حفظ أموالهم وأنفسهم بتحريم الاعتداء عليهما، لما يترتب على الاعتداء عليهما من الفتن والمصائب، فناسب السياق ذكر رحمة الله بعباده حيث شرع لهم ذلك.
وقال تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}. النساء: 64.إن المنافقين الذين لا يفتأ ون يكيدون للمسلمين، ويفسدون في الأرض خلافا لمراد الله من إصلاحها، ويصدون عن سبيل الله، ومع ذلك يدعوهم الله للأوبة إليه ليغمرهم برحمته، وهذا يدعو العصاة من الكفار والمنافقين والفسقة أن لا ييأسوا من رحمة الله ومغفرته مهما كثرت ذنوبهم فرحمة الله واسعة يقبل التوبة ويبدل سيئات أهلها حسنات.

(12)

أمثلة تدل على مناسبة أسماء الله وصفاته للسياق الذي تذكر فيه:

2- سياقات تقتضي الجمع بين الرحمة والأمن والعزة والجبروت والقدرة
كما هو الحال في سورة الحشر التي ذكر الله فيها ما جرى من نصره وتأييده، لعباده المؤمنين، على أعدائهم اليهود والمنافقين الذين تواطؤا على الكيد للرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فاقتضى السياق أن يذكر من أسمائه ما فيه من رحمة وأمن وسلامة، ونصر وعزة، لعباده المؤمنين، وما فيه من هيمنة وكبرياء وعظمة وإذلال، للكافرين، فختم تعالى السورة بقوله: {هو الله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}. الحشر: 22-24.
فأسماؤه:الرحمان الرحيم، السلام المؤمن، يناسب أن تذكر في سياق ما أنعم به على المؤمنين ورحمهم ولطف بهم من كيد عدوهم، كما أن أسماءه: الملك العزيز الجبار المتكبر يناسب ذلك أيضا لأنها تدل على أنه قادر على نصرهم على عدوهم، في كل زمان كما نصرهم آنذاك، ويناسب أيضا أن تذكر في سياق عتو المشركين وتكبرهم عن الإيمان بالله وعن طاعته، وأنه تعالى قد أذلهم ونصر المؤمنين عليهم، وهو تهديد لهم، ولأمثالهم، حتى يكفوا عن إيذاء عباده، ويتوبوا إلى الله من عتوهم، وإلا فهو لهم بالمرصاد.
ومن ذلك قوله تعالى {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فلله الحمد رب السماوات والأرض رب العالمين وله الكبرياء في السماء والأرض وهو العزيز الحكيم} الجاثية:35-37
وقوله تعالى {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم}. البقرة: 209.
وقوله تعالى {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}. الحج: 40
والقوة والعزة يناسب ذكرهما النصر لأن من كان قويا عزيزا كانت له الغلبة.
وقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز}. الحج: 74.
وقوله تعالى: {كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} القمر:42.
وقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله إن الله قوي عزيز}. الحديد: 25.
وفي ذكر اسميه الكريمين هنا: قوي عزيز، ما يناسب وعد أوليائه بالنصر ووعيد أعدائه بالهزيمة .
وقوله تعالى: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام} إبراهيم:47.
وقال تعالى في ختام آية الكرسي، بعد أن ذكر بعض صفاته العظيمة، كالحياة والقيومية وإحاطة علمه بكل شيء، ونفى عن نفسه ما يضاد ذلك من صفات النقص، كالسنة والنوم قال: {وهو العلي العظيم}.البقرة:225.
وقوله تعالى {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير}. الحج: 62
وقوله تعالى:{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير}. سبأ: 2.
وقوله تعالى: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا}.النساء:34.
تأمل كيف شرع الله للرجل تأديب زوجه عند الحاجة إلى تأديبها، ثم نهاه عن البغي عليها، ثم ذكره أنه-أي الرجل-وإن كان أقوى من المرأة، وقد شرع له تأديبها عند الحاجة فإنه لا يجوز له أن يستغل قوته ويظلم زوجه، فإن فعل فليعلم أن الله أقوى منه، وفي ذلك تهديد وزجر له عن الاعتداء. فالمخلوق مهما علا وتجبر فالله أقوى منه.
وإذا كان في آيات الرحمة والرأفة والمغفرة ما يدعو العبد إلى محبة الله والطمع فيما عنده والإسراع إلى رضاه بفعل طاعته واجتناب معصيته، فإن في ذكر آيات الجبروت والعظمة والعزة والقوة ما يدعو العبد إلى الخوف من الله ومن عذابه، وبذلك يكون العبد دائما متقلبا بين الرجاء والخوف، فالرجاء يحفزه على الإسراع إلى طاعة الله، والخوف يحجزه من ارتكاب معصية الله، بل كل منهما يحفزه على الطاعة، ويحجزه عن المعصية. وفي ذلك يكمن صلاح الفرد والأسرة والأمة.

(13)

3- سياقات تقتضي إحاطة علم الله بكل ما يعمل العبد في سره وعلنه:

وفي هذه السياقات يذكر الله تعالى من أسمائه وصفاته ما يجعل العبد يشعر بأن الله معه في كل أحواله، يعلم هواجس نفسه وحركات أعضائه وما ينطق به لسانه وذلك هو معنى رقابة الله على عبده ويسميه العلماء: الواعظ الأعظم والزاجر الأكبر، وفي هذه السياقات يناسب ذكر أسمائه: السميع البصير العليم عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير..

من ذلك قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا}. النساء: 58.

وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}. النساء: 135.

وقال تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}. آل عمران: 5.

وقال تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون}. البقرة: 76.

وقوله تعالى: {إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم}. المجادلة: 5-7.

وقوله تعالى: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد}.آل عمران: 29-30.

وفي حديث جبريل المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [مسلم (1/37)]

والذي يشهد قلبه إحاطة علم الله بكل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سيدفعه ذلك إلى تحري ما يرضي ربه ليفعله، وما يسخطه، ليجتنبه، وستكون في قلبه رقابة ذاتية لا تفارقه وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمة الإسلامية، بل العالم كله.

فإذا أضيف إلى ذلك علمه بكمال قدرة الله التي لا يقف أمامها شيء والتي يصورها قوله جل شأنه {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}. آل عمران:47، زاده ذلك حرصا على فعل الخير وترك الشر، لعلمه أن الله الذي أحاط بكل شيء علما قد أحاط بكل شيء قدرة، فكما لا يخفى عليه شيء فإنه لا يعجزه شيء ومن ذا الذي لا يرغب في ثواب العليم القدير على ما يقدم من الحسنات، ومن لا يخاف من العليم القدير أن يعاقبه على ما يأتي من السيئات؟!

ومن كمال قدرته وكمال علمه تعالى أن جعل أعضاء الإنسان تسجل عليه أعماله التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب شهدت عليه بكل ما اقترف، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في كل مكان، بل بها يتعاطى الخير أو الشر؟!إن أعضاء الإنسان آلات تصوير-كمرات-تصور حركاته في الليل وفي النهار في الضوء وفي الظلمة، في السر وفي العلن، وهي كذلك آلات تسجيل-كاسيت-تسجل أصواته لتحتفظ بها فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين}. حم السجدة : 19-23.

وقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}. النور: 24.

فالعلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا والإيمان بها، والتربية على معانيها والتعبد لله بها، كل ذلك له أثره العظيم في صلاح الفرد والأسرة والأمة.

ولهذا يكثر ذكر اسم الله تعالى وغيره من أسمائه في القرآن والسنة في المناسبات المتنوعة في الموضوعات الإيمانية والأخلاقية والفقهية القضائية والأسرية، والجهادية والمالية وغيرها، لربط حركات المسلم وتصرفاته في تلك الأبواب كلها بالله تعالى، وكذلك أمر الله تعالى بالإكثار من ذكره، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} الأحزاب 41.

كما ذكر الله تعالى أن من صفات عباده المؤمنين الإكثار من ذكره الذي أمرهم به، فقال: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات}. الأحزاب: 35. لأن الذي يكثر من ذكر الله-بلسانه وقلبه-ويفقه معاني أسمائه وصفاته، الغالب أن يداوم على طاعته فيفوز برضاه، بخلاف من رددها بلسانه وقلبه لاه، فإنه لا يحوز المقصد الذي أراده الله من ذكره بأسمائه الحسنى، وإن كان يرجى له مع تكرارها أن ينال بركتها فيحاول التفقه في معانيها والتعبد المطلوب بها.

ومن هنا كان المكثر من الصلة بأسماء الله-حفظا وعلما وتعبدا-جديرا بوعد الله له بالجنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعا وتسعين اسما-مائة إلا واحدا-من أحصاها دخل الجنة} [البخاري (3/185)، ومسلم (4/262)] ، وما ذلك إلا للتأثير الرباني الذي أحدثته معاني تلك الأسماء في حياة محصيها المتعبد لربه بها لأنها زكته فأكثر من طاعة مولاه وازداد من شكره على ما أنعم عليه من التوفيق، وابتعد عن معاصيه، فهو دائما مع ربه تراه في كل ميدان من ميادين الطاعة فإذا فتشت عنه في ميادين أهل الفسق والفجور لم تجد له أثرا إنه من أهل الله وفي ركب عباده الصالحين: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}. النساء: 69

 

(14)

الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم
إن المؤمن بأسماء الله وصفاته المتعبد بها،-ومنها علم الله المحيط بكل شيء وقدرته الشاملة التي لا يشذ عنها شيء-لا بد أن تكون في قلبه تلك الرقابة التي يسميها العلماء: (الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم) والتي لا تفارقه، فإذا وسوست له نفسه بفعل ما هو فساد، أو ترك ما هو صلاح أو وسوس له الشيطان بذلك، ذكره ذلك الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، بالعليم القدير الرقيب فتفتحت بصيرته، ورجع إلى ربه، وجعل الشيطان يولي خاسرا خزيان، قال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. الأعراف 200-201.
تأمل ذكر اسميه تعالى: {سميع عليم} بعد أمر الله من أصابه نزغ من الشيطان بالاستعاذة به تعالى من نزغه، وتأمل قوله: {تذكروا} بعد قوله {إ ذا مسهم طائف من الشيطان}، ماذا يتذكرون إلا واعظ الله في قلوبهم من أثر أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي امتلأت بها قلوبهم حبا لله وولاء وتقربا إليه لنيل رضاه، ومهابة، وإجلالا، وخوفا منه وهربا من سخطه وعقابه؟!
ثم تأمل ثمرة الاستعاذة بالله السميع العليم في قول تعالى:{فإذا هم مبصرون} وما هو إبصارهم إلا السير في صراط الله المستقيم الذي توجههم إليه أسماء الله وصفاته، وذلك هو عين الصلاح الذي تنشده الأمم في هذه الحياة.
وبهذا يعلم أن الإيمان بربوبية الله وخلقه وتدبيره، والإيمان بأنه الإله المعبود الحق وحده، والإيمان بأسمائه وصفاته والتعبد بها مع فقه ما آمن به، إن ذلك كله هو قاعدة قواعد الإسلام وأساس صلاح العالم، وكل فساد يحدث في الأرض، فسببه ما يحدث من خلل في تربية النفوس على أساس تلك القاعدة.
وقد قال ابن القيم، رحمه الله عن هذا المطلب العظيم -الإيمان بأسماء الله وصفاته والتعبد بها-: (وهو باب المحبين حقا لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كل ما بدا له منه علم ازداد شوقا ومحبة وظمأ..... ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره-فضلا أن يوفاه حقه-، فأعرف خلقه به وأحبهم له، صلى الله عليه وسلم: يقول: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله، فإنهم لم يروه في هذه الدار وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم، فلو شاهدوه، ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه، لكان لهم في حبه شأن آخر وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به..) [طريق الهجرتين وباب السعادتين: 561-562، طبع قطر]
قلت: ولهذا كان المكثر من حفظ أسماء الله المتعبد بها لربه، جديرا بدخول الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما،-مائة إلا واحدا-من أحصاها دخل الجنة).[ البخاري: (3/185) ومسلم (4/262)] وفي رواية: (من حفظها).
وما ذلك إلا لتأثير تلك الأسماء في محصيها المتعبد بها لربه، لأنها زكته بألفاظها التي ذكره بها وبمعانيها التي تدبرها وعمل بمقتضاها، فأكثر من طاعة الله وشكره على نعمه وابتعاده عن معاصيه، فلم يترك صلاحا يقدر على فعله إلا أتاه، ولم ير فسادا إلا تجنبه وأباه.....

(15)

التدريس الفِرَقِي لأسماء الله وصفاته لا يحقق التزكية الربانية بها:

وهنا لابد من التنبيه على أمر مهم جدا، وهو أن الواجب على العلماء الذين يقومون بتدريس الإيمان (العقيدة)، وبخاصة أسماء الله وصفاته، أن يجعلوا جل اهتمامهم تربية طلابهم بمعاني هذه الأسماء والصفات، بحيث يغرسون تلك المعاني في نفوسهم، ويفقهونهم فيها، تربية وتفقيها يحدثان في حياتهم آثار تلك المعاني، من محبة الله وطاعته والطمع في ثوابه، ومن إجلاله وجبروته وعظمته والهيبة منه وخشيته والبعد عن معاصيه وتوقي عقابه، ولا ينبغي أن يكون الهدف الأول من تدريس أسماء الله وصفاته، ذكر اختلاف الفرق فيها والمقارنة بين ذلك الاختلاف، من إثبات ونفي، وتأويل وتحريف. فالأصل في التعرف على الله بأسمائه وصفاته أن يتعبد المتعرف ربه بهذه الأسماء والصفات، ويملأ قلبه بمعانيها ويهتدي بها ليكون صالحا مصلحا في الأرض، محاربا للفساد والإفساد.

أما ذكر مذاهب الفرق في أسماء الله وصفاته فذلك أمر طارئ لا ينبغي أن يكون هو الأساس في تدريسها، لأنه لا يؤدي إلى المقصود من العلم بها والتعرف عليها وهو التعبد بها الذي أمر الله عباده به، كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}.

فعلى من يريد التصدي لتدريس الناس أسماء الله وصفاته، أن يهتم هو أولا فيتفقه فيها ويعلم المقصود من التعرف عليها، ويربي نفسه بمعانيها، حتى تحدث فيه الأثر الذي أراد الله أن تحدثه في النفوس، وبذلك يكون معلما ومربيا ربانيا وقدوة حسنة يؤثر في طلابه بسلوكه قبل التأثير فيهم بتدريسه، ثم ينقل تلك المعاني التي أثرت فيه إلى طلابه بادئ ذي بدء، ولا يتعرض لمذاهب الفرق فيها إلا بعد أن يشعر بأنه قد غرس تلك المعاني في نفوسهم، وفقههم فيها تفقيها قرآنيا نبويا، وليس تفقيها فرقيا، فالعلم بها، والإيمان بمقتضاها، والتعبد بها، هي المقصود الأول من دراستها.

ثم يأتي بعد ذلك التنبيه على ما وقع من انحراف في منهج بعض الفرق في أسماء الله وصفاته، فيبين الحق من الباطل بأدلته، حتى يكون الدارس على علم بزلل تلك الفرق وانحرافها، سواء أكان ذلك تشبيها، أو تحريفا، أو تأويلا، مع بيان الأسباب التي أوجدت تلك الانحرافات، والجج الدامغة لها.

وإن الطالب الذي يتبع في تدريسه هذا المنهج الرباني للأسماء والصفات، لجدير أن يرفض كل انحراف فرقي فيها، لما وقر في نفسه وقلبه من معانيها العظيمة، ولما أحدثته في حياته من استقامة على صراط الله المستقيم. وتنبيهه بعد ذلك على تلك الانحرافات ما هو إلا تزويده بالحجج والبراهين التي تدحض تلك الانحرافات وشبه أهلها.

أما ما يسير عليه الآن كثير من مدرسي أصول الإيمان (العقيدة) من الاهتمام أولا بمذاهب الفرق في الأسماء والصفات، وعدم اتباع المنهج الرباني الذي سلكه القرآن الكريم وسار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتا بعون من علماء السلف الصالح، من التربية الإيمانية بالأسماء والصفات والتعبد بها، فهو منهج فرقي جاف مخالف لذلك المنهج الرباني و ينبغي إعادة النظر فيه، ووضعه في مكانه اللائق به، كما مضى.

وبهذا نعلم السبب وراء الجفاف الروحي الذي يتصف به كثير من الطلاب الدارسين للأسماء والصفات على المنهج الفرقي الجاف، فهو منهج يفقد صاحبه التربية الربانية التي أراد الباري سبحانه من عباده بلوغها من التعبد له بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل