الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(95-97)

بسم الله الرحمن الرحيم

(95)

الإيمان بالقدر لا يقتضي ترك العمل
إن الإيمان بالقدر لا يقتضي الاتكال والكسل، كما يظن ذلك بعض من لم يوفق لفقهه من المسلمين، الذين أوجدوا بهذا الظن أثرين خطيرين:
أحدهما: تشبث به بعض جهلة المسلمين، وقعدوا عن فعل أسباب الخير والفلاح في شئون دينهم ودنياهم، وصاروا جبرية من حيث العمل، وإن لم يفهموا معنى الجبرية من حيث الفكر، ففقدوا بذلك القوة والعزة، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من التأخر والانحطاط، وأخذ أعداؤهم بأسباب القوة المادية، فسبقوهم في كل ميدان من ميادين الحياة الدنيا، وحال المسلمين اليوم شاهد وبرهان.
وثانيهما: اتخذه أعداء الإسلام حجة ودليلا على أن هذا الدين، هو دين تواكل وكسل، وليس دين سعي وعمل.
الرد على هذا اظن
ونحن لا نريد أن نطيل في الرد عليهم من الناحية النظرية، وإنما نحيلهم إلى أمرين:
الأمر الأول: الرجوع إلى القرآن الكريم لإحصاء ما ورد فيه من ذكر العمل الصالح الذي كلفه الله عباده المؤمنين، وما ورد في معناه، من سعي وفعل وسباق ومسارعة إلى الخيرات، ومن أوامر بتعاطي أعمال بعينها، كالأمر بالعدل والإحسان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولإنفاق والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن نواهٍ عن أعمال الفساد والفواحش والمنكرات كالزنى، وشرب الخمر والظلم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومجالات العمل الذي كلفهموه من أبواب الخير القاصرة والمتعدية، وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الذي يتتبع أبواب العمل في الكتاب والسنة سوف لا يجد وقت فراغ في حياة المسلم، بل سيجد وقته كله وقت عمل وعمارة للأرض بالخير والصلاح، ليس للمسلمين فقط، بل للبشرية جمعاء، وهو معنى الخلافة التي أراد الله من عباده القيام بها على الأرض، وهذا وحده يبطل تلك الدعوى الكاذبة.
الأمر الثاني : العودة إلى تاريخ المسلمين في العصور التي طبق فيها الإسلام، والتي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) [اللؤلؤ والمرجان، فيما اتفق عليه الشيخان (ص: 689) رقم الحديث: 1647]، ليروا كيف كان العرب الأميون قبل الإسلام، الذين كانت تأكلهم الحروب لأتفه الأسباب، رعاة الإبل والغنم، الذين تحكمهم أعراف الجاهلية الظالمة، في الأنفس والأموال والأعراض يأكل القوي الضعيف، ويهضم الحقير الشريف، لا وزن لهم بين الأمم، فإذا هم بعد الإسلام سادة وقادة، يُعَلِّمون ذوي الحضارات العريقة من زعماء فارس والروم، فتحوا القلوب بالإيمان والقرآن، وفتحوا البلدان التي أذاق الطغاة فيها أهلها سوء العذاب، بالسيف والسنان، ونشروا في الأرض العدل وحاربوا الظلم، وعمروا الأرض في فترة قصيرة من الزمن، عم فيها الصلاح مشارق الأرض ومغاربها، وانزوى الفساد في كل أرض وطئتها أقدامهم، والذي ينظر إلى الإسلام ويحكم عليه من خلال أحوال المسلمين في أوقات ابتعادهم عنه إنما يتهم البريء بجرائم المذنب، وكفى بذلك ظلما!
وتأمل قول الله تعالى: {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير}. البقرة: 148.
كيف أمر الله عباده باستباق الخيرات قبل أن يقرر قدرته على كل شيء، أهذا السياق وأمثاله يدل على أن الإيمان بالقدر يقتضي التواكل والكسل، أم على العكس من ذلك يقتضي السعي والعمل؟!
كيف والرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بربه مما يؤدي إلى الاتكال البغيض، كما في حديث أنس، رضي الله عنه، قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات). [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (ص737، رقم 1732)]

(96)

شبهة قديمة وجواب شاف كاف:
هذا هو معنى الإيمان بالقدر، وهذه هي منزلة العمل في الإسلام مع الإيمان بالقدر، ولقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى غاية الإيضاح، عندما سألوه عما إذا كان لهم أن يتكلوا ويتركوا العمل، بناء على أن الله قد قدر لأهل الجنة دخولها، وقدر لأهل النار دخولها؟ فبين لهم صلى الله عليه وسلم، أن الإيمان بالقدر، لا يقتضي الاتكال وترك العمل، بل يجب العمل، مع الإيمان بالقدر فإن الله قدر لأهل الجنة دخولها بطاعته، وقدر لأهل النار دخولها بمعصيته، ومادام الإنسان لا يعلم أهو-في قدر الله-من أهل السعادة والجنة، أم من أهل الشقاوة والنار، وقد أمره ربه بطاعته التي هي سبب في السعادة ودخول الجنة، ونهاه عن معصيته التي هي سبب في الشقاوة ودخول النار، وعنده فرصة في حياته يستطيع أن يعمل بعمل أهل السعادة والجنة، ويبتعد عن عمل أهل الشقاوة والنار، فَلِمَ يتقاعس عن ذلك اتكالا على القدر الغائب عنه؟

ففي حديث علي، رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغر قد، في جنازة، فقال: (ما منكم من أحد، إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار) فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}، وفي رواية: (ما منكم من أحد، وما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة) فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير من أهل الشقاء؟ قال: (أما أهل السعادة فَيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء)، ثم قرأ:{فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى}. الآية. الليل: 5-10. [البخاري: (6/85) ومسلم (4/2039)]

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل لا بد منه، وأن الذي يجتهد في عمل أهل السعادة، ييسر الله له عمل أهل السعادة، والذي يجتهد في عمل أهل الشقاوة، ييسر له عمل أهل الشقاوة، كما دلت على ذلك الآيات التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يجيب السائل، وهو جواب شاف كاف على هذه الشبهة لمن وفقه الله لقبول الحق.

فالإيمان بالقدر داعي سعي وعمل، وليس داعي اتكال وكسل، بل إنه ليدفع صاحبه إلى اتخاذ الأسباب لعمل ما يرضي الله، ولا يقتضي الاتكال والقعود عن العمل، كما هو واضح من نصوص الكتاب والسنة، والواقع العملي في حياة الناس، يدل على ذلك، وهذا المعنى الواضح هو المحكم، وما قد يطرأ على الإنسان من شبه ووساوس شيطانية متشابه، والله تعالى يقول في الأمرين:{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}. آل عمران: 7.

(97)

 فساد الاحتجاج بالقدر على رضا الله بالفساد
لا يلزم من الإيمان بأن الله تعالى هو الذي يقدر الأمور كلها، رضاه سبحانه بكل ما يفعل المخلوق، مما يخالف أمره ونهيه، كما لا يلزم منه رضا المخلوق بكل مقضي مقدر، صلاحا كان أم فسادا، لأن لله تعالى إرادتين: إرادة كونية عامة، وهي الإرادة المقتضية وجود المراد، وقد دل عليها مثل قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}. يس: 82.
وإرادة شرعية خاصة-وهي بمعنى المحبة-ودل عليها مثل قول الله تعالى:{والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}. النساء: 27.

فالله تعالى يريد الأعمال الصالحة، أي يحبها ويأمر بها ويثيب عليها-مثل التوبة عن المعاصي-، ولكنه لا يريد، أي لا يحب، الميل عن طاعته إلى معصيته، واتباع الشهوات المنكرة التي يريدها الشيطان وأتباعه، وهذا واضح جدا في الإرادتين المذكورتين في هذه الآية، فالله يريد التوبة، ولا يريد اتباع الشهوات والميل إلى المعاصي، والشيطان وأتباعه يريدون اتباع الشهوات والميل عن الطاعة إلى المعصية.
وهذا ما فهمه علماء الإسلام الذين رزقهم الله الفقه قي دينه، فلم يكونوا يخلطون بين الإرادتين، ولم يحتجوا بالقدر-المتضمن للإرادة الكونية العامة-على رضا الله بالمعاصي والفساد في الأرض.

الاحتجاج بالقدر على رضا الله بالفساد في الأرض من سنن المشركين
والذين فهموا خلاف هذا الفهم، فظنوا أن تقدير الله الكوني دليل على رضاه بالفساد في الأرض هم المشركون الذين قال الله عنهم: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}، فرد الله عليهم بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}. الأنعام 148.
فمن فهم من قدر الله أن العبد غير مسئول عما يعمله، لأن الله هو الذي قدر عليه عمله، وأن تقديره لذلك العمل دليل على رضاه تعالى به، وأن العبد يجب أن يرضى به، ولوكا مخالفا لشرع الله، فقد سلك سبيل المشركين الذين أنكر الله عليهم ما زعموه واتبع سننهم، كما هو واضح من آية الأنعام السالفة الذكر.
فالإسلام بريء من فهم المتكلين على القدر احتجاجا به على ترك العمل، أو الزعم بأن الله يرضى بفعل المعاصي، بحجة أنه هو الذي قدرها عليهم.
 

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل