بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(75-82)

(75)

رجاء لقاء الله
ومن صفات عباد الله الصالحين : رجاء لقاء الله ورجاء ثوابه في جنته في اليوم الآخر

قال تعالى في الرجاء: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}.الكهف: 110.

وقال تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت}. العنكبوت: 5

وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. الأحزاب: 21.

فقد قرن تعالى رجاء اليوم الآخر برجائه. والمقصود رجاء النعيم الكامل الذي وعد الله به عباده في الجنة.

وقد أمر الأنبياء قومهم برجاء اليوم الآخر، كما قال تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. العنكبوت: 36.

وفرق تعالى بين من جمع بين من رجا رحمته وحذر الآخرة فاستعد لذلك بطاعة الله، وبين من فقد ذلك، فجعل الأول من أهل العلم والعقول، وجعل الثاني من الذين لا يعلمون، وهما لا يستويان في ميزان الله، قال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب}. الزمر: 9

(76)

 ترغيب الصالحين في الجنة
وقال تعالى -مرغبا عباده في الجنة ومشوقا لهم إليها-: {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه}. البقرة:221.

وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}. آل عمران: 133.

وقال تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}. الحديد: 21.

وقال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم
الجنة}. التوبة: 111.

وقال تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}.محمد: 15.

وفي سورة الرحمان أوصاف عظيمة مشوقة إلى الجنة.

تخويف الله عباده من نار جهنم
وأنذر سبحانه من كفر به وعصاه بعذاب نار جهنم في آيات كثيرة من كتابه، تخويفا لهم من كفرهم وعصيانهم.

قال تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم}. البقرة:206

وقال تعالى: {أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}. آل عمران: 162.

وقال تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}. النساء: 93.

وقال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. البقرة: 275.

وقال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}. النساء: 10.

وأثنى سبحانه على عباده الذين يطلبون منه المغفرة والوقاية من النار، قال تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}. آل عمران: 15-16.

وأمر عباده المؤمنين بأن يتقوا النار بترك معصيته، ويرجوا رحمته بطاعته وطاعة رسوله فقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}. آل عمران: 130-132

وقال تعالى عن أنبيائه وعن جندهم الذين قاتلوا أعداءهم في سبيله: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا والآخرة والله يحب المحسنين}. آل عمران: 146-148.

(77)

 أحاديث ترغب في الجنة

أما الأحاديث الدالة على الترغيب في الجنة ورغبة عباد الله الصالحين فيها، فهي كثيرة، نذكر شيئا منها.

فمنها حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق بر سلي، أن أرجعه، بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا،ثم أقتل). [اللؤلؤ والمرجان، فيما اتفق عليه الشيخان (ص: 491) رقم الحديث: 1229. جمع محمد فؤاد عبد الباقي]

في هذا الحديث عدة دلالات:

أولاها: أن الرجل إذا خرج للجهاد في سبيل الله، لا يخرجه إلا إيمان بالله وتصديق برسله-أي إنه مخلص لله في خروجه-فإنه قد يجمع الله له بين الأجر والغنيمة، إذا قدر له الرجوع إلى أهله، وأن الغنيمة التي كتبها الله له لا تنافي إخلاصه ولا تنقص من أجره، وذكر الأجر فيه تشويق للجهاد في سبيل الله، وليس فيه منافاة للإخلاص الذي ذكر معناه في أول الحديث (لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق بر سلي).

ثانيتها: فيه وعد لمن كانت تلك حاله أن يدخله الله الجنة إذا استشهد في سبيل الله. وفي ذلك ترغيب للمجاهد بذلك الوعد، ولو كان ينافي الإخلاص لما رغب فيه.

ثالثتها: تعقيب الرسول صلى الله عليه وسلم على وعد الله هذا، بتمنيه أن تتكرر حياته و يتكرر قتله في سبيل الله، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه إن هذا الوعد من الله يستحق العناية والحرص، ليناله المجاهد في سبيل الله.

وكما أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم تمنيه تكرار الحياة والشهادة في سبيل الله، فقد أخبر أن الذي يدخل الجنة من المؤمنين لا يحب مفارقتها ليرجع إلى الدنيا، لما رأى فيها من النعيم الذي لا يطمع في سواه، ماعدا الشهيد، فإنه لعظم ما رأى من الكرامة على استشهاده يحب أن يرجع إلى الدنيا ليذوق طعم تكرار الشهادة في سبيل الله.

ففي حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما أحد يدخل الجنة، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة). [المصدر السابق (ص 492) رقم الحديث: 1232]

فإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه الكرامة في الآخرة وهو يحثهم بها على الجهاد في سبيل الله واضح الدلالة على تشويقهم إلى الجنة، ولو كان ذلك ينافي الإخلاص لما شوقهم هذا التشويق.

بل إن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعجل الشهادة في سبيل الله-وهو في وسط حلبة القتال من أجل أن يدخل الجنة في تلك اللحظة، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك ينافي الإخلاص لما أقره على ذلك.

كما في حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال (في الجنة)، فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل. [نفس المصدر (ص 495) رقم الحديث: 1241]

هذا وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته الجنة-مرغبا لهم فيها بالعمل الصالح، كما وصف النار محذرا لهم بها من العمل السيئ-وما ذلك إلا من أجل الرجاء والخوف، الذين هما من صفات عباد الله الصالحين، كما مضى.

فقد روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). فاقرؤوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. السجدة: 17. [المصدر السابق (ص 794) رقم الحديث: 1797.والآية ذكر منها إلى قوله {قرة أعين) وقد أكملتها لما في آخرها من كون ذلك جزاء بعملهم، وذلك دليل على عدم منافاته للإخلاص]

وأحاديث أخرى تحذر من النار

وذكر صلى الله عليه وسلم الجنة والنار، في كلمتين جامعتين للترغيب في الجنة بتعاطي الأعمال الصالحة ولو كرهتها النفس، وللتحذير من النار التي تكون الشهوات المغرية بالمعاصي سببا في دخولها.

ففي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره). [نفس المصدر (ص 794) رقم الحديث: 1797. ومعنى الحديث أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكروه، ولا يوصل إلى النار إلا بارتكاب الشهوات]

(78)

 الحق أحق أن يتبع

فهل يجوز بعد الاطلاع على هذه النصوص، من القرآن والسنة الصحيحة الدالة دلالة واضحة، على أن الله تعالى تعبد خلقه-تعبدا-بخشيته والخوف منه، وبخشية عقابه في اليوم الآخر، والخوف من النار، كما تعبدهم برجائه، ورجاء ثوابه ومغفرته وجنته، وأن عباده الصالحين من الأنبياء والرسل ومن تبعهم عبدوا الله بذلك، هل يجوز بعد هذا أن يقال: (ما عبدته خوفا من ناره، ولا حبا لجنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبا له، وشوقا إليه)؟ أو يقال:(تعظيم الأمر والنهي، لا خوفا من العقوبة. ولا طلبا للمثوبة..)؟!

إن غاية ما يمكن أن يعتذر به لمن قال هذه العبارات وأمثالها أنهم أرادوا الخير -وهو هنا الاجتهاد في الإخلاص لله تعالى، والتجرد من شوائب حظوظ النفس غير المشروعة، ولكنهم بالغوا في ذلك مبالغة أنستهم ما دلت عليه هذه النصوص، فأدخلوا حظوظ النفس المشروعة التي تعبدها الله بها، في حظوظها غير المشروعة، وهذا اجتهاد أخطئوا فيه، نسأل الله أن يغفر لهم خطأهم، ويثيبهم على اجتهادهم.

لكن ذلك لا يسوغ لمن اطلع على هذه النصوص وغيرها مما في معناها أن يقلدهم فيما ذهبوا إليه فالحق أحق أن يتبع، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.

 (79)

تعليق العلماء على هذه العبارات

قال ابن تيمية، رحمه الله:(ومن قال من هؤلاء: لم أعبدك شوقا إلى جنتك، ولا خوفا من نارك، فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات، والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم، في فهم مسمى الجنة، بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة، والنظر إليه هو من الجنة، ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته، قال: (إني أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ،فقال: (حولها ندندن) [مجموع الفتاوى (10/240)]

وقال في موضع آخر: (وقد علم بالاضطرار أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين والنبيين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبا، أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها، لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات، إذ ما سوى ذلك محرم أو مكروه أو مباح، لا منفعة فيه في الدين). [نفس المرجع (10/714)]

وقال ابن القيم، رحمه الله-معلقا على قول الهروي رحمه الله: (الرجاء أضعف منازل المريدين...)-: (شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم، صلى الله عليه وسلم، فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محا مله، ثم نبين ما فيه.)، وبعد أن جمل كلامه على أحسن محا مله، قال: (فأما قوله: الرجاء أضعف منازل المريدين، فليس كذلك، بل هو من اجل منازلهم وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله، وقد مدح الله تعالى أهله، وأثنى عليهم). فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. الأحزاب: 21.

وفي الحديث الصحيح الإلهي، عن النبي صلى الله عليه وسلم-فيما يروي عن ربه عز وجل-: (يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي ..)-إلى أن قال-: (وبالجملة فالرجاء ضروري للمريد السالك، والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنزلة يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها، فكيف يكون الرجاء من اضعف منازله وهذا حاله)؟!.. [مدارج السالكين باختصار شديد (2/37) وما بعدها]

وقال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله- ردا على من زعم منافاة قصد الجزاء على الأعمال الصالحة للإخلاص-:(فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا، فإن كان أخرويا فقد أثبته الشرع، حسبما تقدم. وإذا ثبت شرعا، فطلبه من حيث أثبته صحيح، إذ لم يتعد ما حده الشارع، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره، ولا قصد مخالفته، إذ قد فهم من الشارع، حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال، فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي. وذلك غير قادح في إخلاصه، لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله، لا ما قصد به غيره، لأنه عز وجل يقول: {إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم} الصافات: 40-43.

فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص-ومعنى كونه مخلصا لا يشرك معه في العبادة غيره-فهذا قد عمل على وفق ذلك، وطلَبُ الحظ ليس بشرك، إذ لا يعبد الحظ نفسه، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب، وهو الله تعالى، لكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد، فهذا هو الذي أشرك، حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل. والله لا يقبل عملا فيه شرك. وليست مسألتنا من هذا. فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي، في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى، فذلك باعث له على الإخلاص قوي، لعلمه أن غيره لا يملك ذلك..) [الموافقات (2/215) وما بعدها]

هذا هو الأثر الأول الذي ترتب على تلك العبارة وما أشبهها، وهو مخالفتها لنصوص القرآن والسنة، وهو واضح، وقد تبين ما يمكن أن يعتذر به لأصحابها، مع عدم جواز تقليدهم في ذلك.

 (80)

أما الأثر الثاني الخطير المترتب على تلك العبارة الفاسدة: أن بعض المنتسبين إلى الإسلام، ممن كانوا قبل دخولهم في الإسلام ينكرون اليوم الآخر، ولم يهتموا بالتفقه في الدين على من هو أهل لتفقيههم فيه، فهموا من هذه العبارات غير مراد أصحابها-وهو المبالغة في إخلاص العمل لله تعالى من شوائب حظوظ النفس، حتى ولو كانت هي الرغبة في الفوز بالجنة والخوف من عذاب النار، كما سبق-فحملوا تلك العبارات على معنى أنه لا يوجد يوم آخر، وليس هناك جنة ولا نار، وأن الذي يعمل العمل الصالح رغبة في دخول الجنة فهو عبد شهواني، لم يعبد الله وإنما عبد شهواته، كرغبته في النساء الجميلات ذات العيون الواسعة-يقصد الحور العين-وشرب الخمر، وغيرها، وأن خشية الله، ليس معناها الخوف من أنه يعاقبنا، كما يخاف المذنب من الضرب.

هذا الفهم هو الذي يعتقده/أوربي مشهور/ [هو بروفيسور: رجاء جارودي] أعلن إسلامه، وسُرَّ به المسلمون، لأنه مفكر عالمي، له اطلاع واسع على الفلسفات القديمة والحديثة، وكان ماركسيا.

وعندما قابلته حاورته في هذا الموضوع، وقد سمعت أنه ينكر الإيمان باليوم الآخر، وكنت أظن أنه يبالغ في معنى الإخلاص، كما بالغت في ذلك رابعة العدوية وغيرها، ولكن عندما ذكرت له كثرة الآيات الواردة في الإيمان باليوم الآخر، قال: هذا تمثيل وخيال، وليس بحقيقة، فليست هناك جنة ولا نار، والله ليس عنده يوم أول ويوم آخر، والجنة المذكورة في القرآن المقصود بها السعادة التي تحصل في القلب في الدنيا عندما يعمل المؤمن خيرا، والنار المذكورة في القرآن هي القلق النفسي الذي يحصل في قلب العاصي في الدنيا.

بعد نقاش طويل قال: لقد اختلفت مع محمد الغزالي وشيخ الأزهر، في هذه المسألة، وإذا صح أنه يوجد يوم آخر وتوجد جنة ونار،فليدخلوا هم الجنة وهو-أي جار ودي-يدخل النار. قال هذا مبالغة في إنكار الإيمان باليوم الآخر واحتج على صحة اعتقاده هذا بما أورده الغزالي في (إحياء علوم الدين) عن/رابعة العدوية/وغيرها، ورفض رفضا باتا التسليم لآيات القرآن الكريم بالمعنى الذي فهمته الأمة الإسلامية كلها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن.

وكان يهزأ بعلماء الإسلام الذين يثبتون الإيمان باليوم الآخر، ويرى أنهم لا يفهمون حقيقة المعنى الذي أراده الله في القرآن، وقال: كلام الله لا يجوز أن نفهمه فهما أدبيا ظاهريا، وإنما نفهم روح معانيه، وضرب مثالا للفهم الأدبي الظاهري، وهو ما فهمه بعض الصحابة من قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود}، فقد فهم الصحابي الخيط على حقيقته، وهو فهم أدبي ظاهري غير صحيح، وقاس الرجل فهم الأمة الإسلامية لمعنى اليوم الآخر على هذا المثال، وأكد أن المقصود مجرد التمثيل وليس الحقيقة التي فهمها علماء المسلمين، وقال:إن/نابليون/كان ملحدا وثنيا، ولكنه كان يقول: إذا وجد شعبٌ لا توجد عدالة اجتماعية فيه وناس يشكون ويتألمون من الظلم، فيجب أن يقال لهم: إنه يوجد عالَمٌ آخر، ستكون فيه التعويضات وأداء الحقوق، حتى يهدءوا.

والظاهر أنه يقصد من ذلك مقولة الشيوعيين-وكان هو منهم ولا زال يحمل بعض أفكارهم-: إن الرأسماليين يستعملون الدين لتخدير الشعوب، حتى لا تطالب بحقوقها، بل تخضع للظلم في الدنيا، لتنال الجزاء في الآخرة.

(81)

 تنبيهات مهمة

التنبيه الأول: أن هذا الرجل ما زال يحمل معه بعض الفلسفات المنافية للإسلام، ومنها هذا الاعتقاد الفاسد في اليوم الآخر-وذكر لي المترجم أنه أيضا لا يؤمن بالملائكة، ولكن الوقت ضاق فلم أستطع الدخول معه في النقاش حولهم-.

التنبيه الثاني: أنه استند في اعتقاده هذا على تلك العبارات التي صدرت عن بعض العلماء الذين بالغوا في معنى الإخلاص، حتى جعلوا ما تعبدنا الله به من الطمع في ثوابه والخوف من عقابه، من الشوائب وحظوظ النفس المنافية للإخلاص، فكانت تلك العبارات-مع مخالفتها لنصوص القرآن والسنة-فتنة لأمثال هذا الرجل، ولذا يجب الحرص على عدم إطلاق العبارات المخالفة للنصوص الشرعية والتمسك دائما بمنهج القرآن والسنة، وما جرى عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبخاصة في أمور الإيمان.

لتنبيه الثالث: الواجب على من دخل في الإسلام-مهما كانت ثقافته ومنزلته الاجتماعية-أن يأخذ مبادئ الإسلام على يد علمائه، ولا يكتفي بما فهمه هو عن الإسلام، قبل الدخول في الإسلام أو بعده، لأن هذا دين جاء به وحي، وله معان ومصطلحات يفهمها علماؤه، وليس للجاهل به أن يفسره على حسب هواه ويخلط ما في هذا الدين بما في غيره من الأديان والفلسفات الأخرى، ليأتي بدين جديد ليس هو دين الإسلام حقيقة، وهذا ما حصل من هذا الرجل.

(82)

إطراء الداخل في الإسلام يفتنه

ويجب على المسلمين تفقيه الداخلين في الإسلام، وعدم إطرائهم، لما في ذلك من فتنتهم.

ولقد كان من أسباب فتنة هذا الرجل وغروره بذلك الفهم الفاسد، وسخريته بالعلماء الذين أرادوا أن يصححوا له إيمانه، كان من أسباب ذلك أن بعض المؤسسات الإسلامية وبعض أجهزة الإعلام، أسرعت في الإشادة به والثناء عليه، ووصفه بالمفكر الإسلامي، ودعوته إلى إلقاء محاضرات عن الإسلام، وهو حديث عهد بالإسلام، فذاع صيته، وأصبح يظن هو بنفسه أنه شيخ الإسلام، وهل لشيخ الإسلام من حاجة إلى من يعلمه الإسلام؟!

إن الذي يدخل في الإسلام يحتاج أن يدرس-بالطريقة التي تناسب موقعه من الاحترام-مبادئ الإسلام التي يدرسها أبناؤنا في المدارس الابتدائية، وليس ذلك بِغَضٍّ من حقه ولا تنقص من مقامه، بل هو من العناية به والحرص على مصلحته ليفهم دين الله على حقيقته، ولا ينبغي أن يتسرع المسلمون مع الداخلين في الإسلام هذا التسرع الذي يؤدي إلى هذه النتيجة غير المحمودة.

فقد كان زعماء القبائل الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه أركان الإسلام وكيفية الصلاة وبعض الفرائض، ثم يعودون ليعلموا أهلهم، ولنتأمل كيف سيكون إسلام من يدخل في الإسلام على يد أمثال من هذه عقيدته في الإيمان بالغيب [راجع فيما يتعلق بموضوع/رجاء جار ودي/كتابنا (حوارات مع مسلمين أوربيين من: ص: 195-214) فقد التقيته في باريس بتاريخ 23 محرم سنة 1408 هـ-16/9/1987 م. ولا أريد هنا مناقشة حكم إسلامه. ولكن القاعدة أن من أنكر حكما معلوما من الدين بالضرورة، كتحريم الزنى، يكفر إذا قامت عليه الحجة، فكيف بمن أنكر ركنا من أركان الدين، وأقيمت عليه الحجة، واستمر على جحوده ؟!]

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل