بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(48-49)

(48)

طوائف أساءت الأدب مع القرآن الكريم

لقد أساء الأدب مع القرآن الكريم ثلاث طوائف من الناس:

الطائفة الأولى: طلاب مدارس إسلامية صغار، أصابهم الغرور والإعجاب بأنفسهم لإحرازهم قليلا من العلم المبعثر الذي لم يستندوا فيه على مناهج أهل العلم، وقواعدهم، بل حصلوه-غالبا-بقراءتهم الشخصية، أو على أيدي من حصلوه بتلك الطريقة، ونصبوا أنفسهم علماء مفتين يقولون على الله بدون علم، يحللون ويحرمون، ويكفرون، ويبدعون، ويفسقون، ويحكمون على سرائر الناس، ويجتهدون في تأخير ما حقه التقديم، وتقديم ما حقه التأخير، لا يتورعون من الاستدلال بآي القرآن على ما يظنونه-ظنا-حقا، وقد يكون باطلا، وقد كثر ت هذه الطائفة في هذا العصر وأصبحت تكون مجموعات لا هم لها إلا إحداث الخلاف والصراع في فرعيات وسع علماء السلف من الصحابة والتابعين الخلاف فيها واحترام بعضهم لبعض. ولكن هذه الطائفة تفاصل على تلك المسائل ومصيبتها أنها تنزل آيات من القرآن على فهمها، فإذا اختلف أحدهم-مثلا-مع آخر في حكم وضع اليدين في الصلاة على الصدر، أو فوق السرة أو تحتها أو اختلف معه في تحريك الإصبع في التشهد، انطلق يستدل بمثل قول الله تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} النور: 63. [أذكر من ذلك قصة حصلت بين طويلبين صغيرين، في المسجد النبوي، كان أحدهما يحرك أصبعه في التشهد تحريكا مستمرا-بعض الناس يحرك يده كلها -فلما سلما قال له الآخر:لماذا تعبث في الصلاة؟فقال له الشاب: أنا أعمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له الآخر: صلاتك باطلة، لأن وجود ثلاث حركات متوالية تبطل الصلاة. فقال المحرك: أنت مبتدع تخالف السنة، واستدل عليه بآية النور المذكورة، فالتفت إليهما، وقلت لهما: هذه من المسائل الفرعية التي لا تبطل الصلاة بفعلها ولا بتركها،ولكن هناك تحريك آخر أجمع العلماء على أنه إما أن يكون فرض عين أو فرض كفاية، وهو الآن فرض عين فإذا كنتما صادقين تريدان الأجر والثواب فاذهبا وحركا جميعا أصبعكما وستجدان أنكما أخوان في الله يجمع بينكما الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من أعداء الله الملحدين، وأخذت أحرك أصبعي السبابة كأنها موضوعة على زناد الرشاش أو المسدس،وكانت الحرب على أشدها تلك الأيام بين المجاهدين الأفغان والملحدين الروس والأفغان. ففهم الشابان وسكتا، ولعل الله وفقهما لذلك ونالا الشهادة بتحريك أصبعهما هناك]

الطائفة الثانية: تلاميذ المستشرقين.

وهم من يسمون بالمثقفين الذين تعلموا على أيدي المستشرقين أو تلامذتهم في الغرب أو في بلاد المسلمين، وكثير منهم لا يلتزمون بأحكام الإسلام، وبعضهم لايحرؤعلى الجهر بأن العمل بالقرآن غير لازم، فيحاول أن يلوي معاني الآيات القرآنية ويفسرها تفسيرا يؤدي إلى ما يريد فإذا انتقده منتقد بأن هذا المعنى غير سليم وأن العلماء فسروه بكذا، واستدلوا بكذا، قال: هذه كهنوتية تريدون أن تتحدثوا أنتم باسم الله كما فعل رجال الكنيسة. ونسي هؤلاء أن لكل علم رجاله المتخصصين فيه، وأن النجار الماهر في مهنته لا يجرؤ على الزعم بأنه يستطيع أن يزاول مهنة الطبيب البشري... وهكذا ونحن نقول لهؤلاء: لا كهنوت ولا حجر عليكم في أن تجتهدوا في تفسير كلام الله وفي أحكام الإسلام وسنشكركم على ذلك ونعتبركم علماءنا ومفتينا، ولكن بشرط أن تكونوا مؤهلين لذلك بأدواته العلمية المعروفة عند أهله، وليس ذلك بكهنوت لأنه مبني على قواعد علمية، كل من أحرزها كأن أهلا لأن يكون من أهلها، إن كنتم مؤهلين هذا التأهيل فحي هلا بكم، وإلا فالزموا الأدب مع الله ورسوله، ومع الكتاب والسنة، وأعطوا القوس لباريها، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

إن كلتا الطائفتين-مع اختلاف ثقافتهما-قد أساءتا الأدب مع كتاب الله، ومنهجهما يؤدي إلى العبث بمعاني القرآن وأحكام الإسلام وآدابه، وذلك أمر يترتب عليه خطر عظيم، لا يجوز السكوت عليه أو السماح به، بل يجب زجر من يحصل ذلك منه، وتأديبه إن تمادى في غيه، فالقرآن ليس محلا لعبث العابثين، وإنما هو منهج الله لخلقه لا يتصدى لتفسيره غير أهله، وإذا كان كبار الصحابة الذين آخذوا الفقه في الدين-ومنه تفسير القرآن العظيم-على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يتحرجون أن يقولوا في القرآن برأيهم، فمن هم هؤلاء الذين يريدون العبث في كتاب الله بأهوائهم؟! [راجع مقدمة تفسير القرآن العظيم 0 (1/6).لابن كثير]

الطائفة الثالثة: علماء السوء، وهم الذين يفقهون معاني كتاب الله ويعلمون حكم الله في المسائل التي يفتون أو يقضون فيها، ولكنهم يشترون بآيات الله ثمنا قليلا كما كان يفعل علماء أهل الكتاب، وهؤلاء هم أخطر على الإسلام والمسلمين من غيرهم، لأمور:

الأول: قدرتهم على إظهار الحق في صورة الباطل، والعكس، إذ قد يعتمدون على عمومات مخصصة، أو مطلقات مقيدة أو مجملات مفسرة أو أقوال شاذة، وهم يعلمون ذلك. ولكن عامة الناس لا يعلمون، فيضللون الناس في فهم أحكام الله وينصرون الظالم، ويخذلون المظلوم.وهؤلاء يدخلون في مثل قوله تعالى:{يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}. آل عمران: 71.

الأمر الثاني: أن هؤلاء العلماء هم الذين يمكن لهم فيظهرون أمام الأمة في الفتوى والقضاء وغيرهما، فيفتن الجهال بفتاواهم،ويغتر ون بقضائهم، وتمجدهم وسائل الإعلام، وبخاصة في هذا العصر الذي تقلب فيه تلك الوسائل الحقائق، فتؤكد للناس لبس الحق بالباطل الذي يصدر من علماء السوء.

الأمر الثالث: تصدي علماء السوء هؤلاء لكل من أراد تنبيه الناس على باطلهم، حرصا منهم على بروزهم وحدهم، وعدم ظهور غيرهم، حتى يتسنى لهم الاستمرار في امتلاك الجاه والمنصب الذين يدران عليهم الأموال التي يأخذونها في مقابل تحريفهم لكتاب الله وأحكامه.

(49)

العمل بالقرآن الكريم والتحاكم إليه

نزل القرآن ليقيم حياة البشر على منهج الله

إن هذا القرآن لم ينزل ليكتب بماء الذهب، ويوضع على الأدراج والأرفف، ولم ينزل ليتغنى به القراء بأصوات تطرب الأسماع فحسب، ولم ينزل ليتلى على المحتضر بعد أن عاين ملائكة الموت وهم يحيطون به لقبض روحه، ولا لتلاوته على الأموات في قبورهم وقد أفضوا إلى ما قدموا، ولا في مآتمهم بعد دفنهم لتسلية أقربائهم وإنما نزل ليقيم حياة البشر على منهج الله الذي ارتضاه لهم في هذا الدين الذي حمله هذا الكتاب، نزل ليؤمن به الناس ويعملوا الصالحات، ولهذا كثر فيه اقتران العمل الصالح بالإيمان، وبهما يكون صلاح الأمة وعمارة الأرض.

قال تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا}. الإسراء: 9.
وقال تعالى:{وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم}.آل عمران: 57.
وقال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات..} النساء 57
وقال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم}. المائدة: 9.
وقال تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط}. يونس:4.
وقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم}. يونس: 9.
وقال تعالى:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} الكهف: 30.
وقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}. مريم: 96.
وقال تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون-إلى قوله-إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا}. الشعراء: 224-227.
وقال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئا تهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}. العنكبوت: 7.
وقال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين}. العنكبوت: 9.
وقال تعالى: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}. ص: 24.
وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}. ص: 28.
وقال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}. غافر: 40.
وقال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تذكرون}. غافر: 58.
وقال تعالى: {أم حسب الذين اجتر حوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محيا هم ومماتهم ساء ما يحكمون}. الجاثية: 21.
وقال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئا تهم وأصلح بالهم}.محمد: 2.
وقال تعالى: {رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا} الطلاق: 11.
وقال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. العصر.

لقد أطلت في ذكر الآيات الدالة على أن هذا القرآن إنما نزل ليهدي البشر إلى عمارة الأرض التي استخلفهم الله فيها بالإيمان والعمل الصالح، وسبب هذه الإطالة ابتعاد كثير من المسلمين عن تحقيق ما نزل القرآن من أجله، حتى أصبحوا لا يسألون أنفسهم عن تصرفاتهم أفرادا وأسرا وحكومات أهي موافقة لمنهج الله الذي أنزله في كتابه أم مخالفة له؟

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل