صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







الغنوشي والإسلام المعتدل

د.عدنان محمد أمامة

 
نقلت وكالات الأنباء عن الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسية تأكيده خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية على أن الإسلام في تونس "معتدل"، مشددا على أنه مع حرية تغيير العقيدة والدين للأفراد في بلاده، وقال: إن الدستور الجديد لن يتضمن أي مواد "تدين إسرائيل".

ونقلت عنه تلك الوكالات قوله: "إسلام تونس إسلام معتدل".."نحن نبحث في القرآن والأحاديث النبوية عن أهداف الإسلام، لا عن تفاصيل آيات معينة"، .هكذا بصراحة تامة يبين الغنوشي حقيقة الإسلام "المعتدل" الذي يؤمن به، ويدعو إليه، ويسعى لتطبيقه في تونس بعد أن آلت إليه وإلى حزبه مقاليد الحكم، إسلام لا يرى الغنوشي أنه يلزم أتباعه بأكثر من السعي لتحقيق المقاصد الكبرى، والأهداف العامة في حياة الناس، مثل العدل، والتوحيد، والحرية الإنسانية، أما التفصيلات والآليات التي نصت عليها الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية لتحقيق تلك الغايات والأهداف فالإسلام "المعتدل" ليس ملزماً بها، ومن يصرون على وجوب التزام الوسائل والآليات التي نص عليها الشرع لتحقيق تلك الأهداف، هؤلاء يمثلون الإسلام المتشدد، ولا يفقهون سماحة الشريعة ومرونتها، وأول غيث هذا الإسلام "المعتدل" الذي يبشر به الغنوشي عدم عداوة إسرائيل، وإتاحة حرية الردة عن الدين الإسلامي.هكذا إذاً تصبح مئات النصوص التشريعية في القرآن والسنة المتضمنة لتفصيلات الأحكام غير واجبة الإتباع بنظر الغنوشي، وهكذا يكتشف أصحاب "الفكر المتنور" بعد أربعة عشر قرناً ونيف أنهم أتوا بما لم تستطعه الأوائل.

ليت الغنوشي أقام الحجة على دعواه، وكشف لنا عن المصدر الذي استند إليه في توصيفه للإسلام "المعتدل"، الذي لا يلزم أتباعه بأكثر من مراعاة المقاصد العامة للشريعة، إذ ظواهر النصوص القرآنية والنبوية، وإجماعات الأمة القولية والعملية عبر تاريخها الممتد أربعة عشر قرناً تناقض تماماً هذا الإسلام "المعتدل" الذي يعرفه الغنوشي ويدعو إليه، فالآيات والأحاديث التي نصت على وجوب اتباع ما أنزله الله على رسوله عامة لم تفرق بين ما كان من قبيل الأهداف، وما كان من قبيل التفصيلات. قال - تعالى -: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، -وكما هو معلوم عند علماء أصول الفقه- من ألفاظ العموم فتكون شاملة لكل شيء نزل به القرآن، أو أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان مجملاً أم مفصلاً، وسواء كان من كليات الدين أو تفصيلاته، وقال - سبحانه -: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً)، وقال: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وشيء نكرة في سياق الشرط فتعم، وقال (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) ولفظة "أمر" نكرة في سياق النفي فتشمل كل شيء قضى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليس للمؤمن خيار إلا قبوله والاحتكام إليه، وقال: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن يصيبهم فتنة أو عذاب أليم) إلى غير ذلك من آيات دعت إلى وجوب العمل بأحكام الشريعة بصيغة العموم والإطلاق، من غير أي قيد أو تخصيص. وكذلك السنة النبوية لم تفرق بين حكم وحكم، بل أوجبت اتباع كل ما جاء به الرسول، قال - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي)) فأوجب التمسك بكل ما جاء به حتى ينجو الإنسان من الضلال، ومفهوم الحديث أن ترك التمسك بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ببعضه يؤدي إلى الزيغ والضلال، ومعلوم أن ما جاء به الرسول ليس أصولا فقط بل أصول وفروع وتفصيلات، وعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقاته تدل دلالة قطعية على وجوب وضرورة التزام تفصيلات الأحكام والحدود الشرعية، من ذلك ما روته عائشة - رضي الله عنها - أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلمه أسامة فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام، فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) بهذا الحزم والجزم، وتلك الصرامة يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مأمور بتطبيق كل حكم، وكل حد من حدود الشريعة، وأنه لا مجال للمجاملات والمساومات ومراعاة الخواطر، وليس بالإمكان التساهل أو التفريط بأي جزء من جزئيات الدين ولو مع أشرف الناس وأقربهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا النهج والمنوال سار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون لهم بإحسان، وتعاملوا مع أحكام الدين على أنها كلها واجبة الإتباع، ولم يخطر في بال أحدهم أن الإلزام الشرعي إنما يكون في تحقيق مقاصد الدين وأهدافه دون الفروع والتفصيلات، بل كان دأبهم تعظيم النصوص الشرعية وتقديرها وإجلالها، وتقديمها وعدم هجرها، واعتقاد أن الهدى فيها لا في غيرها، ويرون وجوب تعلمها وتدبرها والعمل بها و التحاكم إليها وعدم معارضتها، فقد رأى عبد الله بن مغفل رجلاً من أصحابه يخذف فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن الخذف، وكان يكرهه، ثم رآه بعـد ذلك يخذف فقال له: ألم أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عنـه؟ ثم أراك تخذف؟! والله لا أكلمـك أبداً.

بل إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق كان يقول: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ! وقد عقب ابن بطه على كلمة الصديق تلك فقال: "هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه من الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وأوامره ويتباهون بمخالفته ويسخرون بسنته؟! وقد أجمع العلماء الإسلام على وجوب العمل بكل ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن رد الحديث الصحيح من غير حجة فسق وزندقة، قال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد". وقال الإمام أحمد: " من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة" قال الإمام البربهاري في شرح السنة: " إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع". قد يقول قائل: لقد ذهبت بعيدا في فهمك لكلام الغنوشي وحملت كلامه أكثر بكثير مما يحتمل، فالرجل تكلم بما تكلم به في ظروف حساسة، وفي أمريكا حيث المكر على الإسلام والإسلاميين فلعله قال ما قال من باب التقية، والكلام السياسي والدبلوماسي، والجواب: كم كنت أتمنى ذلك؟ لكن هناك فرق عظيم بين أن تَسكت عن الشيء وتتحيّن الفرصة المناسبة لمعالجته، وبين أن تُعلن الباطل وتُصادم الشريعة لطمأنة مخالفيها واسترضاء الغرب والشرق ثم إن الذي يعرف الغنوشي ويعرف فكره الذي لا يخفيه أبداً، بل ما فتئ يجاهر به منذ عشرات السنوات، يعلم يقيناً أن تصريحات الغنوشي هي مما يؤمن به الرجل ويعتقده اعتقادا جازما، وما كلماته تلك إلا امتداد لمنهجه وأطروحاته السابقة، وانتصار لمدرسته الفكرية الحداثية، وهو قال مثل هذا الكلام في ظروف جد طبيعية فقد وجهت إليه مجلة المجتمع الكويتية سؤالاً عن تفسيره لجملة من الأحاديث النبوية التي يظهر فيها تمايز المسلمين ومفاضلتهم على غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى فقال: "هذه الصورة تنفر الناس وتلك النصوص ينبغي أن ينظر إليها أولا من حيث السرد التاريخي والرواية والسند، فإن ثبت صحتها، وجب تأويلها على النحو الذي ينسجم مع ما ثبت في المجتمع المدني النموذجي الذي نعرفه من خلال الممارسة، وليس من خلال النصوص".

فالغنوشي لا يرى أنه ملزم بما تقرره النصوص، وأن بإمكانه أن يحاكمها إلى ما يراه هو من مقاصد الشريعة، فيقبل منها ما يوافق المقاصد ويرد ما لا يوافق. ولطالما جاهر الغنوشي بإعجابه الشديد بالديمقراطية الغربية وفلسفتها في مجال الحريات العامة وقال عنها في كتابه عن الحريات" هي بضاعتنا الشورية التي زهدنا فيها" بل وصل به انبهاره بالديمقراطية الغربية إلا حد اتهام الإسلام في نفس الكتاب بأنه بدون الآليات الديمقراطية لا يحقق للناس الحرية على الوجه المنشود. إن تصريحات الغنوشي هذه تجعلنا نرجح القراءات التي تقول بأن الغرب ما سارع التخلي عن حلفائه من الحكام وأيد الثورات العربية إلا بعد أن اطمأن إلا أن من سيخلفون الطواغيت العرب من الحكام التي انتهت صلاحياتهم، ولم يعد بإمكان الشعوب الصبر عليهم أكثر، هم ممن رضي الغرب عنهم، وأيقن أن إسلامهم "المعتدل" هو الخيار الأمثل للحقبة الجديدة. أعلم أن الكثيرين لن يروق لهم هذا الكلام وفي هذا الوقت بالذات لكن ليعذرني اللائمونن إذ لا يجوز أن تمنعنا فرحتنا بزوال الطواغيت أن ننبه على المخاطر الجديدة المحدقة بنا، ولأن الخوف على ضياع المبادئ والثوابت والمسلَّمات، أهم من أي شيء آخر، وماذا ينفعنا أن نكسب بعض المكاسب الدنيوية إذا ضيعنا عقيدتنا، وخسرنا ديننا وأخرانا؟

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.عدنان أمامة
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية