بسم الله الرحمن الرحيم

من أجل بطونهم .. يثأرون؟!!


قال وهب بن منبه:
"كسي أهل النار والعري كان خيرا لهم، وطعموا والجوع كان خيرا لهم، وأعطوا الحياة والموت كان خيرا لهم".. ............... ( البداية والنهاية 5/9/276)
اللباس الفاخر والطعام والحياة: كل هذه يتمناها الإنسان، لأنها من السعادة..
وهي كذلك في أحوال، لكن ليست كذلك في كل حال، فهذه الثلاثة ليست ميزانا ولا علامة على السعادة دائما، فقد تكون نعمة وقد تكون نقمة، والدليل:
- أن أهل النار يلبسون، لكن ثيابا من نار، وسرابيل من قطران: {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار}، {سرابيلهم من قطران}..
- وهم يشبعون، لكن من الزقوم، ذلك الطعام المر مرارة لاتطاق، لو نزلت منه قطرة إلى الأرض لأفسدت طعام الناس: { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم}..
{ أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالؤون منها البطون}..
وهم يشربون، لكن شرابهم الحميم، يصهر ما في بطونهم والجلود، وتقطع أمعاءهم، وتشوي وجوههم: { يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود}..
{وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم}.
- والكفار يحيون حياة أبدية لايعقبها موت، لكنها في الجحيم: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون}..
{ لايقضى عليهم فيموتوا ولايخفف عنهم من عذابها}..

فهل أغنى عنهم ما هم فيه من الحياة والطعام والكساء؟..
وهل كان سبببا في سعادتهم؟..
ودوا لولم يلبسوا، ولم يأكلوا، ولم يحيوا، فهذه حقيقة أهل النار في الآخرة..

وهناك حقيقة تماثلها في الدنيا:
فالبؤس ليس مقصورا على أهل النار، بل من أهل الدنيا من الفقر خير له، قال الله تعالى عن المنافقين: { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}..
فما نفعهم مالهم ولا أولادهم، لم يكن سببا لسعادتهم، بل في عذابهم وإزهاق أنفسهم.
يلبس الإنسان، لكن بفخر وخيلاء، أو بمال حرام، وتلبس المرأة لكن الفاتن المفتن، فهل هذا خير؟..
ويأكل الطعام، لكن من حرام، حصله من حرام، فهل هذا خير؟..
ويحيا في الرذيلة، ويسير مجرما، مقتحما أسوار المحرمات، فهل هذا خير؟..
ليس الإنعام بالمال والحياة الناعمة دليل على أن الله أراد الخير بمن أنعم عليهم بذاك، فضلا أن يكون دليلا على رضاه عنهم، هذه القاعدة نؤكد عليها مرارا، ويجب أن نفهمها جيدا، فبعض الناس يصر على الاعتقاد بأن الإنعام بالمال دليل الخير والرضا، وذلك باطل، بدليل قوله تعالى: - { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا}، أي ليس من أنعمت عليه بالمال فقد أكرمته، ولا كل من حرمته المال فقد أهنته..
ودليل أوضح على ذلك:
- { وما أموالكم ولا أولادكم باللتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}.
فدليل الخير والرضا هو الدين، فمن رزق الدين فقد نال الخير، ولو حرم كل شيء، ومن حرمه فقد حرم الخير، ولو نال كل شيء..
إذا عرفنا كل هذا فيجب علينا أن نحفظ القاعدة الآتية المفسرة لكل ما سبق: " إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب"..
وعلى هذه القاعدة يجب أن نبني حياتنا، فنجعل رضانا وسخطنا تبع لديننا، نرضى ونفرح إذا سلم لنا ديننا، وعز، وارتفع شأنه، ونسخط ونحزن إذا حورب، وغيّر، وبدل، وأفسد..

وحتى ندرك حقيقة حالنا جيدا لنتأمل واقعنا" نجد أنا نسير عكس هذه القاعدة، فكثير يغضبون ويسخطون، وإذا نظرت وجدت السبب الدنيا لا الدين، فغضبهم وسخطهم لأجل قلة رزقهم وضيق معاشهم، فغضبهم لأجل دنياهم، لا لأجل دينهم ؟؟!!!..

وهؤلاء لا يبذلون عشر هذا السخط والغضب لأجل دين الأمة، وأخلاقها، إذا ما انتهكت وأفسدت، فقد استنفذوا غضبهم كله لأجل دنياهم، فما تركوا شيئا لأجل دينهم، وهؤلاء لم يفهموا حقيقة الحياة ولا حقيقة الدين، ولم يفهموا القاعدة الآنفة، التي هي من البديهيات، والتي يحرص الشرع على ترسيخها في كل مناسبة أو حديث، أو أنهم فهموها، لكنهم تغافلوا عنها، والتمسوا التأويلات والمخارج لأنفسهم، اتباعا لشهواتهم العاجلة..

إن رأس مال المؤمن في الدنيا دينه، يحزن ويفرح لأجله، يغضب ويثأر لأجله، هكذا ينبغي أن يكون، أما الحزن والفرح والغضب لأجل البطون فحسب، فهذا ليس حال الإنسان السوي المكرم فضلا أن يكون حال المؤمن، بل هو حال البهائم التي تغضب وتثأر لأجل بطونها.

إن الذي يغضب ويرضى لأجل دينه يحفظ دينه ودنياه، قال الله تعالى: - { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}..

آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة لما غضبوا لدينهم، فجاهدوا وقاتلوا في سبيل الله، فكان هذا جزاؤه ذاك..
لكن الذي يغضب ويرضى لأجل دنياه يضيع دينه ودنياه، قال تعالى: - { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط الناس عليه، ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه)، قال بعضهم:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا *** فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
إن التعلق بالمال وحبه حمل كثيرا على قلب الحقائق وتبديلها، وإقناع أنفسهم بأن الإنعام بالمال دليل الرضا والمحبة من الله لعبده، ولو وقف الإنسان وقفة صدق مع نفسه، لعلم أن النعمة ليست في المال، إذ كم من أناس يملكون المال، لكن لايملكون السعادة، بل الشقاوة، وإن في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة على من صار عبدا للمال لعبرة لمن اعتبر: - ( تعس عبد الدرهم، تعس عبدالدينار، تعس عبدالخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)...

فحب المال والتعلق به يدمر الدين، والشاهد على هذا حاضر:
- كم من إنسان ضيع الصلاة لأجل المال؟..
- وكم من إنسان ضيع الحلال بسبب المال؟..
- وكم من إنسان ضيع العرض حبا في المال؟..
- وكم من إنسان رق دينه، والسبب المال؟..

أمور كثيرة ضاعت، وأمور كثير فسدت، وبلايا كثيرة وقعت فيها في الأنفس والأزواج والأولاد والبنات، كل ذلك لأجل المال، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( مالفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا، كما بسطت لمن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)..
لم كان إذن رسول الله يقدم الفقر على الغنى، وقد عرضت عليه خزائن الذهب والفضة، فأبى ورضي بالعيش على الحصير ولايوقد في بيته نار؟..

ليبين لنا:
أن الأصل هو الدين لا الدنيا.
إن من القواعد المجربة:
أن من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه..
وبما أن الآخرة هي الباقية، والدنيا فانية، فالعقل يوجب أن نحب ونقدم الباقي على الفاني، لو كان في ذلك ضرر علينا في دنيانا..

سمع رجل بشجرة تعبد، فخرج إليها حاملا فأسا يريد طمسها، فاعترضه الشيطان وحاول منعه، فاصطرعا، فصرعه، حتى صار الشيطان تحته، فلما أيس منه قال له:
لم أنت عجل على قطع هذه الشجرة؟، اذهب إلى بيتك، ستجد تحت وسادتك دينارا، فخذه، فإذا صار من الغد أتيت وقطعت الشجرة..
فقال الرجل في نفسه: آخذ الدينار ثم أقطع الشجرة..
فلما أصبح وجد الدينار تحت وسادته، ومضت عدة أيام، كلما قام من الصباح وجد تحت الوسادة دينارا، حتى كان ذات صباح لم يجد الدينار، فخرج غاضبا حاملا فأسا يريد قطع الشجرة، فاعترضه الشيطان، فاصطرعا، فصرعه الشيطان، فعجب الرجل لذلك، فقال الشيطان: 
غلبتني يوم كان غضبك لله، وغلبتك يوم كان غضبك للدينار.

أبو سارة
abu_sarah@maktoob.com

الصفحة الرئيسة