الحمد لله وبعد :
إن الناظر في المصنفات التي صُنفت في مصطلح الحديث يجد أنها تذكر بابا يسمى "
الموالي من الرواة " ، وعلى سبيل المثال لا الحصر :
1 –
كتاب " الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث " (2/673) جعل بابا بعنوان :
النوع الرابع والستون في معرفة الموالي من الرواة والعلماء .
2 –
كتاب " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي " (2/910) جعل بابا بعنوان :
النوع الرابع والستون معرفة الموالي من العلماء والرواة .
3 –
كتاب " فتح المغيث شرح ألفية الحديث " (3/392) جعل بابا بعنوان :
الموالي من العلماء والرواة .
4 –
كتاب " المقنع في علوم الحديث " (2/670) جعل بابا بعنوان :
النوع الرابع والستون : معرفة الموالي .
وغير ذلك من كتب المصطلح سواء المطولة أو المختصرة .
وغالب هذه المصنفات وتحت هذا الباب تذكر قصة جرت بين أحد أئمة الإسلام وبين
والي من بني أمية ، والقصة عبارة عن حوار جرى بينهما .
والقصة هي مدار حديثنا في هذا الموضوع .
1 - نــــصُ الــقــصــةِ :
روى الحاكم في معرفة علوم الحديث
(ص198) فقال :
أخبرنا أبو علي الحافظ ، قال : أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله
البيروتي ، قال : ثنا محمد بن أحمد بن مطر بن العلاء ، قال : حدثني محمد بن
يوسف بن بشير القرشي ، قال : حدثني الوليد بن محمد الموقري ، قال : سمعت محمد
بن مسلم بن شهاب الزهري يقول : قدمت على عبد الملك بن مروان فقال لي : من أين
قدمت يا زهري ؟ . قلت : من مكة . قال : فمن خلفت يسود أهلها ؟ . قال : قلت :
عطاء بن أبي رباح . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال
: فبما سادهم ؟ قال : بالديانة والرواية . قال : إن أهل الديانة والرواية
لينبغي أن يسودوا . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قال : قلت طاوس بن كيسان .
قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فبما سادهم
؟ قال : قلت : بما ساد به عطاء . قال : إنه لينبغي ذلك . قال : فمن يسود أهل
مصر ؟ قلت : يزيد بن أبي حبيب . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت :
من الموالي . قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قلت : مكحول . قال : فمن العرب أم
من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي عبد نوبي اعتقته امرأة من هُذيل . قال :
فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قال : ميمون بن مهران . قال : فمن العرب أم من
الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : فمن يسود أهل خرسان ؟ قال : قلت :
الضحاك بن مُزاحم . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي
. قال : فمن يسود أهل البصرة ؟ قال : الحسن البصري . قال : فمن العرب أم من
الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي . قال : ويلك فمن يسود أهل الكوفة ؟ قال :
إبراهيم النَّخَعي . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ . قال : قلت : من العرب
. قال : ويلك يا زهري فرّجت عني والله ليسودن الموالي على العرب في هذا البلد
حتى يُخطب لها على المنابر والعرب تحتها . قال : قلت : يا أمير المؤمنين إنما
هو دين من حفظه ساد زمن ضيعه سقط .
وقد أورد القصة أيضا :
- الإمام جمال الدين المزي في تهذيب الكمال (20/81-82) .
- الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (5/85-86) .
2 - إســنــادُ الــقــصــةِ :
القصة في إسنادها الوليد بن محمد
الموقري وإليكم أقوال العلماء في هذا الرجل :
قال يحيى بن معين : الموقري ليس بشيء .
وقال أيضا : الموقري كذاب .
وقال علي بن المديني : ضعيف لا يكتب حديثه .
وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، كان لا يقرأ من كتابه ، فإذا دفع إليه كتاب
قرأه .
وقال ابن حبان : كان لا يبالي ما دُفع إليه قرأه ، روى عن الزهري أشياء
موضوعة لم يروها الزهري قط ، ويرفع المراسيل ويسند الموقوف ، لا يجوز
الاحتجاج به بحال .
وقال البزار : لين الحديث.... حدث عن الزهري بأحاديث لم يتابع عليها .
وقال ابن حجر في التقريب : متروك .
3 - كــلامُ أهــلِ الــعــلــمِ
عـلـيـها :
لقد تكلم العلماء والمحققون على
هذه القصة وذلك من جهة عدم ثبوتها ، وهذه أقوالهم :
1 - قال الإمام الذهبي في السير
(5/85) بعد إيرادها :
الحكاية منكرة ، والوليد بن محمد واه
فلعلَّها تَّمت للزهري مع أحد أولاد عبد الملك ، وأيضا ففيها : من يسود أهل
مصر ؟ قلت : يزيد بن أبي حبيب ، وهو من الموالي . فيزيد كان ذاك الوقت شابا
لا يعرف بعد . والضحاك ، فلا يدري الزهري من هو في العالم ، وكذا مكحول يصغر
عن ذاك .ا.هـ.
2 – وقال علي حسن في تحقيقه لكتاب
الباعث الحثيث (2/675) :
راويها عن الزهري هو الوليد بن محمد
المُوَقّري ، وقد رواها إليه الحاكم في معرفة علوم الحديث .ا.هـ.
ونقل كلام الذهبي في نكارة الحكاية .
3 – وقال عبد الله بن يوسف الجديع
في تعليقه على القصة في كتاب " المقنع في علوم الحديث " : قلت : ولا يصح
إسنادها ، فقد رواها عن الزهري الوليد بن محمد الموقري ولم يكن ثقة .ا.هـ.
4 – وقال د/ بشار عواد معروف محقق
كتاب " تهذيب الكمال " (20/81) :
جاء في حواشي النسخ تعقيب للمصنف (أي
المزي) على صاحب الكمال نصه : في ذكر يزيد بن أبي حبيب هنا نظر ، فإنه لم يكن
له ذكر في هذا التاريخ مع إبراهيم النخعي وغيره .
قال بشار : وهذا يدل على أن هذه الحكاية ملفقة .أ.هـ.
وقال د/ بشار أيضا :
قال أفقر العباد بشار عواد : هذه
الحكايات من وضع الشعوبية أعداء الإسلام يدسون السم بالدسم ، وراويها الوليد
بن محمد الموقري مولى لبني أمية متروك ، كذبة يحي بن معين وغيره وضاع ، وأمره
بيّن في الضعفاء ، كما سيأتي في ترجمة ، نسألك اللهم العافية والسلامة .ا.هـ.
وبعد هذا التخريج للقصة وكلام أهل العلم يتبين أنها لا تثبت ، والله أعلم .
4 - العـلـمُ يـرفـعُ أقـوامـاً
ويـضـعُ آخـريـن :
وبعد بيان عدم ثبوت هذه القصة
والحوار الذي جرى بين الخليفة عبد الملك بن مروان وبين الإمام الزهري فقد
جاءت النصوص مبينة رفع أهل العلم الصادقين في الدنيا والآخرة .
قال تعالى : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ " [ المجادلة : 11 ] .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح :
قوله : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )
قيل في تفسيرها : يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم .
ورفعة الدرجات تدل على الفضل ، إذ المراد به كثرة الثواب ، وبها ترتفع
الدرجات ، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت ،
والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة .ا.هـ.
روى الإمام مسلم في صحيحه (1/559ح817) قال :
وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ
عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ : أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ
عُمَرَ بِعُسْفَانَ ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ
فَقَالَ : مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ فَقَالَ : ابْنَ
أَبْزَى ، قَالَ : وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟ قَالَ : مَوْلًى مِنْ
مَوَالِينَا ، قَالَ : فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ، قَالَ : إِنَّهُ
قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ
، قَالَ عُمَرُ : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ
أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ .
ورواه الإمام أحمد في مسنده (1/35) ، والدارمي (2/443) ، وابن ماجة (218) .
وروى الإمام البخاري في صحيحه :
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ قَالَ :
كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ
الْأَوَّلِينَ ، وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِيهِمْ : أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ
، وَأَبُو سَلَمَةَ ، وَزَيْدٌ ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ .
والكلام في هذا الباب طويل ويكفي ما أشرنا إليه من النصوص الماضية .
رابط الموضوع