الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
تابعتُ كغيري ما جرى لسوقِ الأسهمِ من نكسةٍ كبيرةٍ ذكرتني بما حصل في سوقِ
المناخِ في الكويت قبل سنواتٍ ، وحُق لنا تسمية هذه النكسةِ بما عنون لها
الأخ فهد السنيدي في برنامجه " ساعة حوار " " كارثة عَبّارة الأسهم
السعودية " ، ومن نِعَمِ اللهِ عليّ أنني لم أركب هذه " العَبَّارةِ " ،
وهذا لا يعني أنني غير متأثرٍ بما حصدتهُ " كارثة عَبَّارة الأسهم السعودية
" ، فلاشك أنها كارثةٌ بما تعنيهِ الكلمة ، ولا أريدُ الدخولَ في تفصيلاتِ
الأسبابِ لهذه الكارثة لأنها ليست ذات أهمية بالنسبةِ لي ، والذي دعاني
لكتابةِ هذه الأسطر ما لاحظتهُ ولاحظه غيري من تأثرُ الساحة - فيما يظهر لي
- بكارثةِ الأسهمِ ، فالساحةُ لا تشهدُ إقبالاً كالسابق قبل حدوثِ الكارثةِ
، المواضيع تمكث طويلاً حتى تنتقلُ إلى الصفحة الثانيةِ ، قلةُ الردودِ
والتفاعلِ مع غالبِ المواضيعِ ، وربما أكونُ واهماً .
ومن بابِ المواساةِ لإخواني المتضررين من " كارثةِ
عَبَّارةِ الأسهمِ السعوديةِ " أحبُ أن أسطرَ كلماتٍ أسألُ اللهَ أن ينفعَ
بها :
1 - لا يشكُ مسلمٌ أن المالَ عصبُ الحياةِ ،
ولا تستقيمُ مصالحُ الدنيا إلا به ، والأفرادُ والمجتمعاتُ بحاجةِ ماسةٍ
للمالِ ، ولذا كان السلفُ يقولون : " المالُ سلاحُ المؤمنِ " .
قال الدكتور عبد النعيم حسين في " الإنسان والمال في الإسلام " ( ص 103 ) :
" وإذا كان البنون هو الوسيلةُ لحفظِ نوعِ الإنسانِ ، واستمرار الحياةِ على
سطحِ الأرضِ إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها ؛ فإن المالَ هو عصبُ
الحياةِ وزينةُ الدنيا والمعينُ على بناءِ الحضارةِ الراقيةِ ، وبدونه لا
يستطيعُ الإنسانُ – مهما كثر عدد أفرادهِ – أن يعمرَ الأرضَ ، أو يقيم فيها
حضارةً راقيةً مزدهرةً ، يحفظُ في ظلها دينهُ ، وتصلح في ظلها دنياهُ ... "
.ا.هـ.
وحبُّ المالِ وجمعهُ أمرٌ طبعي ، قال تعالى : " وَتُحِبُّونَ الْمَالَ
حُبًّا جَمًّا " [ الفجر : 20 ] ، وقد أهلك اللهُ أمماً بسبب المال مثل قوم
شعيب عندما بخسوا الكيلَ والميزانَ من شدة حبهم للمال .
وبالمال يقوى اقتصادُ الأممِ المالكةِ له ، وعلى النقيض من ذلك فإن الأممَ
الفقيرةَ تكونُ بحاجةٍ إليهِ فتأخذهُ مقابل أمورٍ أخرى على حسابِ تلك الأمم
الفقيرةِ ، ومن عاش في بلادٍ فقيرةٍ يعرفُ ذلك حق المعرفةِ ، ومن نعم اللهِ
على بلادنا أن وهبها من كنوزها ما يدر على خزينتها أموالاً طائلةً ، فلك
الحمد والشكر على هذه النعمةِ .
ولو تتبعنا آياتِ الكتابِ العزيزِ لوجدنا كماً هائلاً تتحدثُ عن المال ،
وفي جوانب وتفصيلات كثيرةٍ لا مجال لذكرها هنا .
2 - أحدثت هذه الكارثةُ صدماتٍ قويةً عند
الناسِ بسبب الخسارةِ وأثرت على سلوكهم وأخلاقهم واقتصادهم ، وسمعنا من
القصصِ والحوادثِ ما يصلحُ أن يؤلفَ فيها المؤلفات ، بل ما يكون رسائل
جامعية تتكلم عن الجانب الاقتصادي وآخر عن الجانب السلوكي والأخلاقي ،
وأظهرت بعضُ الحالاتِ جزعاً وعدمَ رضى بما قدره اللهُ عليهم ، والنبي صلى
اللهُ عليه وسلم قد بين لنا الموقف الصحيحَ عند نزول المصائب .
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ
كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ
أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ
ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ . أخرجهُ مسلمٌ .
3 - أهلُ الخبرةِ من الاقتصاديين وأصحابِ
المالِ أشاروا إلى أن هناك أمراً ما حدث بتخطيطٍ من الهوامير – كما يقولون
- ، ولن أخوض في هذه القضيةِ لأنني غيرُ مختصٍ ، ولكن ما هو الحل للخاسرين
وخاصة صغار المستثمرين ؟
لقد فتح اللهُ باباً عظيماً ألا وهو بابُ الدعاءِ ، فمن وجد نفسهُ ظلم وأكل
مالهُ بغير وجهِ حقٍّ ، ولا يدري مَنِ السبب في ذلك كله ؟ فعليه بالدعاءِ ،
وتأملوا في وصيةِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم لمعاذِ بنِ جبل عندما بعثهُ
لليمن ، وكأنها تحكي حالنا .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : " إِنَّكَ سَتَأْتِي
قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ
يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ
فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ
فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ
الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ . أخرجهُ
البخاري .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ : " وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ
أَنْوَاعِ الظُّلْمِ , وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهِ عَقِبَ الْمَنْعِ مِنْ
أَخْذِ الْكَرَائِمِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ ...
وَأَشَارَ بِالْعَطْفِ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الْكَرَائِمِ ظُلْمٌ ...
وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا " .ا.هـ.
وَقَالَ اِبْنُ الْجَوْزِيِّ : " الظُّلْمُ يَشْتَمِلُ عَلَى
مَعْصِيَتَيْنِ : أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَمُبَارَزَةُ
الرَّبِّ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمَعْصِيَةُ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا ;
لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ غَالِبًا إِلَّا بِالضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ
عَلَى الِانْتِصَارِ . وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الظُّلْمُ عَنْ ظُلْمَةِ
الْقَلْبِ لِأَنَّهُ لَوْ اِسْتَنَارَ بِنُورِ الْهُدَى لَاعْتَبَرَ .
فَإِذَا سَعَى الْمُتَّقُونَ بِنُورِهِمْ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ
التَّقْوَى اِكْتَنَفَتْ ظُلُمَاتُ الظُّلْمِ الظَّالِمَ حَيْثُ لَا
يُغْنِي عَنْهُ ظُلْمُهُ شَيْئًا " .
اللهم اخلف على أصحابِ الأموالِ ، وافضح من كان سبباً في ذلك .
4 - أصحابُ رؤوسِ الأموالِ الكبيرةِ ( الهوامير
) ، والذين لعبوا لعبتهم ، ودمروا السوقَ ألا يظنُ أولئك أنهم سيقفون بين
يدي اللهِ ويسألون ؟! أم إنه الجشعُ والطمعُ وتغللُ حبُّ المالِ في قلوبهم
وأفئدتهم ؟ هل نسوا أم تناسوا أن اللهَ يمهلُ ولا يهملُ ؟ أين هم من دعاءِ
المظلومِ الواحد ؟ فكيف بالآلف بل بالملايين ؟! إذا لم يتوبوا ويرجعوا
الأموالَ إلى أهلها ومستحقيها فلا شك أن العقوبةَ الإلهية تنتظرهم إذا لم
يكن في الدنيا ففي الآخرة .
5 - مشكلتنا الكبرى أننا أمةٌ لا نستفيد من
تجارينا السابقةِ ، ولا نعتبرُ بما حصل لغيرنا ، ولعل هذه الكارثة تكونُ
درساً لئلا يتعجل الناسُ جمعَ الأموالِ والأرباحِ من غير درايةٍ ودراسةٍ
متأنيةٍ للسوق ، وقبل ذلك كله مراقبةُ اللهُ ، ولا يكن هم الواحدُ جمعُ
المالِ من حلالِ أو حرام ، بل لا بد من التحري والتروي قبل ركوبِ الموجةِ
مع الناسِ ، والله قد أمرنا بالاعتبارِ ممن سبقنا من الأمم .
وهذه الكارثةُ فيها العبرة والعظةُ لنا في المستقبل .