الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
هذا بحثٌ يَتَعَلَّقُ بِلَفظِةٍ وَرَدَتْ في صَحِيْحِ البُخَارِيِّ
تَمَسَّكْ بها أَهْلُ البِدَعِ ، وطَارُوا بها فَرَحاً – زعموا - ،
ورَمَوْا أَهْلَ السُّنَّةِ بدائِهِم ثم انْسَلَّوا ، وَنَسَبُوا
إِلَيْهِمْ زُوراً وبُهْتاناً عَقِيْدَةً يَهُوْدِيَّةً خَبِيْثَةً وهي
عَقِيْدَةُ البَدْأَةِ ، والعَجِيبُ أن عَقِيْدَةَ البَدْأَةِ مَوْجُوْدَةٌ
في كُتُبِهِم هم كما سنَذكُرُ في ثنايا البَحثِ .
وَقَد فَرَغْتُ مِنْ البَحْثِ مُنْذ مُدَّةٍ لَكِنِّي كُنْتُ مُتَرَدِّداً
فِي إِنزَالهِ ، ثُمّ اسْتخرتُ اللهَ أَنْ أَضَعَهُ فِي هَذَا المُنْتَدًى
المُبَارَكِ لَعَلِّي أَظفرُ بِفَائِدَةٍ أَو زِيَادَةٍ مُكَمِّلَة له مِنْ
إِخْوَانِي طُلاَّبَ العِلْمِ .
أَسْأَلُ اللهَ أن يَنْفَعَ بِهِ .
حديث الأَعْمَى وَالأَبْرَصِ وَالأَقْرَعِ :
جاء لفظُ " بَدَا لِلَّهِ " في قصةِ الأعمى والأقرع والأبرص ، وسأقتصرُ على
موطنِ الشاهدِ من القصةِ فقط ، وكلامِ أهلِ العلمِ على هذهِ اللفظةِ ، وما
يترجح منها .
عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ
ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى
بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ... " .
رواه البخاري (3464) ، ومسلم (2964) .
وروى البخاري القصة تعليقا بدون لفظة : " بدا لله " في كتاب الأيمان
والنذور ، باب لا يقول ما شاء الله وشئت . وهل يقول أنا بالله ثم بك ؟
وقد ذكر العلماء أقوالا بخصوص هذه اللفظة نلخصها
فيما يلي :
* القولُ الأولُ :
معنى لفظة " بدا لله " أي سبق في علمهِ .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ (6/579) : بِتَخْفِيفِ الدَّال الْمُهْمَلَة
بِغَيْرِ هَمْز أَيْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه فَأَرَادَ إِظْهَاره ,
وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْد أَنْ كَانَ خَافِيًا لِأَنَّ
ذَلِكَ مُحَال فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى .ا.هـ.
ومقصود الحافظ ابن حجر بقوله : " وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ
بَعْد أَنْ كَانَ خَافِيًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَال فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى
" عقيدة البداء ، ولنا مع هذه العقيدة الكفرية وقفة :
إن عقيدة البداء عقيدة يهودية ورد ذكرها في التوراة التي حرفها اليهود على
وفق ما يشتهون ، ثم أشاع ابن سبأ عقيدة البداء عقيدة البداء ، وفرق السبأية
كلهم يقولون بالبداء .
وممن فصل عقيدة البداء عند الرافضة الشيخ الدكتور ناصر القفاري في " أصول
مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية " (2/937-952) ، وعقد فصلا لها . وأكتفي
بما سطره الشيخ الدكتور ناصر .
أما أهل السنة والجماعة – ولله الحمد – لا يعرفون عقيدة البداء وليس لها
ذكر في كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
* مسألة :
هل النسخُ يستلزمُ البداءَ ؟
أجاب الزركشي في " البحر المحيط " فقال : وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّسْخُ
الْبَدَاءَ إذْ النَّسْخُ بِأَمْرٍ ، وَالْبَدَاءُ الظُّهُورُ بَعْدَ أَنْ
لَمْ يَكُنْ ، خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ وَالْيَهُودِ ، فَإِنَّهُمْ
ادَّعَوْا اسْتِلْزَامَهُ . فَلَزِمَهُمْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي
الْجَوَازِ وَعَدَمِهِ ، فَقَالَتْ الْيَهُودُ : لَا يَجُوزُ النَّسْخُ
عَلَيْهِ لِامْتِنَاعِ الْبَدَاءِ عَلَيْهِ . وَقَالَتْ الرَّافِضَةُ :
يَجُوزُ الْبَدَاءُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ النَّسْخِ مِنْهُ . وَالْكُلُّ
كُفْرٌ . وَالثَّانِي أَغْلَظُ إذْ يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى
وَجْهٍ لَا يُكَفَّرُ بِأَنْ يُجْعَلَ التَّعَبُّدُ بِكُلِّ شَرْعٍ
مُغَيَّا إلَى ظُهُورٍ آخَرَ . وَبِهَذَا الْمَعْنَى أَنْكَرَهُ بَعْضُ
الْمُسْلِمِينَ .ا.هـ.
* القولُ الثاني :
أن لفظة : " بدا لله " من تصرفِ بعضِ الرواةِ ، لأنها جاءت في
روايةِ مسلم : " أَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ " .
قال الحافظ (6/579) : وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم عَنْ شَيْبَانَ بْن
فَرُّوخ عَنْ هَمَّام بِهَذَا الْإِسْنَاد بِلَفْظِ " أَرَادَ اللَّه أَنْ
يَبْتَلِيهِمْ " , فَلَعَلَّ التَّغْيِير فِيهِ مِنْ الرُّوَاة .ا.هـ.
ولتوضيح ذلك :
لفظة : " بدا لله " جاءت من طريقِ همام ، ورواها عن همام ثلاثةٌ هم :
1 - عمرو بنُ عاصم وعبد الله بن رجاء
الغُدَاني . فقد أخرجها البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3464) بلفظ
واحد فيه لفظة " بدا لله أن يبتليهم " .
2 - شيبانُ بنُ فروخ . أخرجها مسلمٌ في كتابِ
الزهدِ والرقائقِ برقم (2964) بلفظ " فأراد الله أن يبتليهم " .
وبعد البحثِ والتدقيقِ نجدُ أن البخاري ذكر الحديثَ معلقاً من روايةِ عمرو
بنِ عاصم بلفظ " أراد اللهُ " فقد قال : " وقال عمرو بنُ عاصم ، حدثنا همام
، حدثنا إسحاقُ بنُ عبدِ الله ، حدثنا عبدُ الرحمن بنُ أبي عمرة أن
أباهريرة حدثهُ أنهُ سمع النبي صلى اللهُ عليه وسلم يقولُ : " إن ثلاثة في
بني إسرائيل أراد الله أن يبتليهم ... " الحديث .
أمرٌ آخر ؛ العقيلي في " الضعفاء " (4/369) أخرج الحديثَ من طريقِ عبدِ
اللهِ بنِ رجاء الغداني بلفظةِ : " بدا للهِ " فاتفق اثنان من تلاميذِ همام
، وهما عمرو بنُ عاصم وشيبانُ بنُ فروخ على رواية الحديث بلفظِ " أراد الله
" في مقابلِ عبدِ اللهِ بنِ رجاءٍ الذي رواهُ عن همام بلفظ : " بدا لله "،
والحديثُ مخرجهُ واحدٌ فلابد من الترجيحِ كما هو طريقةُ المحدثين ، فيكونُ
الراجحُ لفظ " أراد الله " الذي اتفق عليها الاثنان . ويكونُ لفظُ " بدا
لله " من تصرفِ عبدِ الله بنِ رجاء .
وبعد الرجوع إلى ترجمته نجد أن يحيى بن معين وعمرو بن علي اتهماه بكثرة
التصحيف .
قال يحيى بن معين : كتير التصحيف . وقال عمرو بن علي : صدوق ، كثير الغلط
والتصحيف ليس بحجة .
فتعصيب الجناية عليه ربما يكون له وجه ، فقد يكون صحف الكلمة ، ولهذا أعل
العلامة الألباني في " مختصر صحيح البخاري " (2/446) اللفظة بـ " عبد الله
بن رجاء " فقال عند لفظة : " أراد الله " : قلت : وهي رواية مسلم ، وهذا هو
المحفوظ ، وفي إسناد الأولى ( عبد الله بن رجاء ) ، وهو الغداني ، وفي حفظه
كلام . قال الحافظ في " التقريب " : " صدوق يهم قليلا " .
ونسبة البداء إلى اللهِ لا يجوز . ومال الحافظ إلى أن الرواية الأولى من
تغيير الرواة ، وظني أنه من الغداني كما ألمحت إليه ، والرواية المحفوظة لم
يستحضرها الحافظ أنها عند المصنف ، فعزاها لمسلم وحده .ا.هـ.
يقصد لفظة : " أراد الله " .
* القولُ الثالثُ :
أن معنى لفظة : " بدا لله " أي " قضى الله " .
قال ابن الأثير في " النهاية " عند مادة " بدا " : وفي حديث الأقرع والأبرص
والأعمى " بَدَا للّه عز وجَلَّ أن يَبْتَلِيَهم " أي قَضَى بذلك ، وهو
مَعْنى البَداء ها هنا، لأن القضاء سابق . والبَداءُ اسْتِصْواب شيء عُلم
بعدَ أن لم يُعْلَم ، وذلك على اللّه عز وجل غير جائز .ا.هـ.
وقد مال الحافظ إلى هذا الرأي فقال في الفتح (6/579) : وَأَوْلَى مَا
يُحْمَل عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَاد قَضَى اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ ،
وَأَمَّا الْبَدْء الَّذِي يُرَاد بِهِ تَغَيُّر الْأَمْر عَمَّا كَانَ
عَلَيْهِ فَلَا ..ا.هـ.
* القولُ الرابعُ :
أن ضبط الكلمة بالهمز " بدأ لله " .
قال الحافظ في الفتح (6/579) : وَقَالَ صَاحِب " الْمَطَالِع " :
ضَبَطْنَاهُ عَلَى مُتْقِنِي شُيُوخنَا بِالْهَمْزِ أَيْ اِبْتَدَأَ اللَّه
أَنْ يَبْتَلِيهِمْ , قَالَ : وَرَوَاهُ كَثِير مِنْ الشُّيُوخ بِغَيْرِ
هَمْز وَهُوَ خَطَأ اِنْتَهَى . وَسَبَقَ إِلَى التَّخْطِئَة أَيْضًا
الْخَطَّابِيُّ , وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ مُوَجَّه كَمَا تَرَى
.ا.هـ.
ومال السندي إلى هذا القول أيضا ، كما نقل الأرنؤوط في " تخريج المسند "
(32/424) عنه عند حديث أبي موسى الأشعري الآتي ( رقم 3 ) فقال : قال السندي
: " قوله : فإذا بدا لله . هكذا في النسخ " بدا " من البدو ، و" لله " جار
ومجرور متعلق به ، أي ظهر له تعالى . قيل : وهو خطأ ، لأنه بمعنى ظهور شيء
بعد أن لم يكن وهو محال في حقه تعالى ، إلا أن يُأوَّل بمعنى أراده ،
والصواب بدأ لله ، على أن بدأ ، بالهمزة ، و" الله " فاعله ، أي : شرع الله
.ا.هـ.
هذه هي تخريجات العلماء لهذه اللفظة .
والذي يترجحُ – والعلمُ عند اللهِ – أنها من تصرفِ بعضِ الرواةِ ، وهو عبدُ
الله بنُ رجاء الغداني .